06-مايو-2022
كاريكاتير لـ عماد حجاج

كاريكاتير لـ عماد حجاج/ فلسطين

لا يمكن لمشاهد مقطع فيديو مذبحة التضامن الذي يظهر فيه المخابراتي أمجد يوسف وهو يمسرح عملية قتله لمجموعة من الناس السوريين الأبرياء إلا أن يسقط فريسة لمشاعر متناقضة؛ التعاطف مع البراءة، براءة أناس يمضون إلى حتفهم بكل وداعة القرابين الطيبة. الفجيعة، الاعتداء على الوجود الإنساني مرتين، مرة عبر هدر قيمة الحياة ذاتها، مقايضة حياة أناس من لحم ودم بطلقة تافهة من النقطة صفر، ومرة أخرى عبر الإصرار على المحو، أن تحوْلَ الحفرة المعبئة بالنار والحقد والرماد بين أجساد الضحايا وبرزخها، النافذة الوحيدة المتروكة أمام الموتى للإنصات إلى نداء القيامة المدوخ.

لا يمكن لمشاهد مقطع فيديو مذبحة التضامن الذي يظهر فيه المخابراتي أمجد يوسف وهو يمسرح عملية قتله لمجموعة من الناس السوريين الأبرياء إلا أن يسقط فريسة لمشاعر متناقضة

ومن ثم ليجد نفسه وجهًا لوجه أمام مشاعر الغضب الأكبر، من أعطى الحق لهؤلاء الأوباش الآدميين أن يصيروا في طرفة عين آلهة، في أن يختطفوا الله، ينتحلون قدرته، يعبثون بأحجار القدر ونواميسه المتعالية؟ إزاء كل هذا العبث المفجع، يتساءل المرء عن جدوى الاحتجاج، عن جدوى المعرفة، معرفة الشر ونكهة الشرير، غير تلك الصرخة المكبوتة: "يا إلهي، أي نوع من البشر أنت يا أمجد! من أين جاء شرّك المستطير هذا إلى الوجود، وإلى أين سيمضي؟".

أمجد بين أسطورة الشرير الوحش... والشرير التافه

في بحث المرء عن طبيعة الشر عن كنه الشرير الذي صاره أمجد، لا يذهب بعيدًا، فالرجل حاضر في ردة فعله حين جوبه بحقيقة دوره في المذبحة. ليكتشف أنه أمام إنسان طبيعي من لحم ودم، إلى الدرجة التي قد يصاب بالذهول من هول ما ارتكبت يداه، وربما تعداه الأمر لأن يصاب بالقشعريرة في كامل جسده، حد تفكيره الفرار من صدمتها المروعة عبر بوابات اللامكان. فمن ذلك الأمجد الذي يرضى بتسليم رقبته للسياف أو جسده للنار التي أوقدها في جثامين ضحاياه، لذا نراه يتنصل من فعله الجرمي "أقتل، لا! مستحيل، كل ما في الأمر إني كنت أقوم باعتقال مطلوبًا ما لا غير". إنّ سلوكه طبيعي وطبيعي جدًا! أليست هذه ردة فعل الجاني الطبيعية حين يقف وجهًا لوجه أمام محققيه أو قضاته المشتعلين غضبًا؟ أليست هذه ردة الفعل الطبيعية من قبل أي جاني قد يجد نفسه عرضة لخطر القصاص حد الموت، فلا يجد من وسيلة للدفاع عن حقه في الحياة سوى الاحتماء بهرمونات الجسد ومفرزاته.

من الإنكار "لا لم أفعلها!"، إلى الاعتراف "نعم هو أنا بشحمه ولحمه"، ومنه إلى الاعتراف التبريري مرة أخرى "نعم لقد فعلتها، ولكن". كيف يمكن لنا قراءة ردة فعله المتأرجحة بين الإنكار والاعتراف المصحوب بالتبرير. لا شيء جديد في سلوك أمجد فهذا ينتمي إلى الطبيعي أيضًا، ينكر كي يفلت من العقاب الذي قد يطاله، ولكن حين يدرك أنه أمام ذلك النوع من الأدلة التي لا يفيد فيها الإنكار، وإن ما لدى محاوره ليس مجرد لقطة، بل يتعداه إلى كامل شريط المذبحة، يسقط في يديه "نعم فعلتها"، ولكن لا تنسي، موجهًا خطابه إلى محاورته الافتراضية "آنّا"، إنه ليس أمرًا شخصيًا، لا تنسي أنني كنت في الجيش، وهذا جزء من مهمتي". هل كان أمجد يخاف نظرة اللوم والعتب في عيون محاورته "آنّا"، وأنه كان يدافع عن وضعيته اللانسانية التي قد تقذف به إلى خانة الوحوش الآدميين والقتلة المتسلسلين العديمي الإحساس والضمير؟ لربما! إذا كان إنكاره وتبريره اللاحق ينتميان إلى الطبيعي، بالنظر إليهما كدفاع عن أحقية انتمائه إلى الوجود البشري، فما الذي دفعه بعد هذه المرافعة المبهرة، ، بالعودة إلى ما يضادها، البهيمة "أنا فخور باللي عملتو"!

لا شك إن موقف أمجد من جريمته يبلبلنا، ذلك أنه في اللحظة التي يلعن تبرؤه منها "لقد كنت جنديًا في الجيش"، يعاود الاحتفاء بها على نحو جذل "أنا فخور باللي عملتو"، الأمر الذي يجعلنا متشتتين روحيًا في فهم دوافع فعله الجرمي ومن ثم طبيعة شره الآدمي. هل نحسب شره المستطير على فئة عتاة المجرمين الذين يرتكبون أفعالهم الجرمية عن سابق إصرار وترصد ودون أي علامة من علامات الإكراه والضغط؟ أم نحسبه على فئة الأشرار التافهين، الذين يؤدون أعمالهم الجرمية بكل كسلهم الاعتيادي المصاحب لاحتسائهم فنجان من القهوة؟

يتقاطع موقف أمجد في رغبته بإنكار جريمته المهولة وتحميل وزرها لمن هم في قيادة الجيش أو قيادته السياسية، مع موقف الضباط النازي أدولف إيخمان، المتهم بإشرافه المباشر على برنامج التطهير العرقي بحق يهود أوروبا أثناء الحرب العالمية الثانية، الذي استمات في نفي صفة "مذنب"عنه، وتحميل وزرها إلى رؤسائه في هرم القيادة النازية، الأمر الذي وجدت فيه حنة أرندت مدخلًا جديدًا لفهم شره المستطير ذلك، الذي أودى بحياة ملايين البشر. عبر رده إلى النوع من الشر التافه أو السطحي في رغبة عميقة منها بإقامة التعارض بين الخير والشر، في رد الخير إلى العميق والجذري وفي رد الأخير الشر إلى السطحي والتافه. دون أن يفهم من حديثها عن تفاهة الشر بكونه غير خطر أو مؤذٍ أو مدمر. فمعنى أن يكون الشر تفاهًا أو سطحيًا، وفق رؤية أرندت، فهو محاولة عقلية منها بنسبته للطرفي والسطحي والطارئ والوحشي معًا، على الضد من كل ما هو إنساني وعميق وجذري.

فما الذي يمكن إدانته في سلوك إيخمان كما ذهبت أرندت، ما دامه يصر على نفي التهم الموجه له "لست بمذنب"، على نفي وجود إرادة حرة لديه، على نيته أو قصده الجرمي بإلحاق الأذى بالآخرين؟ وكيف يفعل كما يدعي، وهو لم يقم مع ضحاياه المفترضين علاقة شخصية أو عدوانية؟ أضف إلى ذلك كله؛ جهله التام بأسمائهم كما عناوينهم ومشاعرهم الإنسانية، حيث لم يتسنَ له أن التقى بأحد منهم، فكل ما في حوزته عنهم مجرد أرقام، تحتاج إلى التخزين والتبويب والمعالجة.

يتقاطع موقف أمجد في رغبته بإنكار جريمته المهولة وتحميل وزرها لمن هم في قيادة الجيش أو قيادته السياسية، مع موقف الضباط النازي أدولف إيخمان، المتهم بإشرافه المباشر على برنامج التطهير العرقي بحق يهود أوروبا

كان يمكن لشر أمجد وفق تحليل أرندت أن يظل تافهًا، فما البطولي بشخص يتنكر لإرادته الحرة، ويدعي أنه كان مجرد جندي في الجيش، لولا أن الطبيعة الحميمة التي أقامها الرجل مع ضحاياه تنفي كل ذلك. فهو وإن لم يكن يعرفهم عن قرب كجيران، فقد اقترب منهم إلى مسافة جعلته يحصي عليهم أنفاسهم، مما لا شك فيه أنه غرس عينيه في عيونهم وتأمل مدى صلاحية كل منهم قبل ضمه إلى لائحة قرابينه المقدسة، هذا لجهة المشاعر وحدها. أما لجهة الإرادة الحرة، فقد أثبت أنه صاحب إرادة حرة بالكامل، فلم يكن الرجل ينفذ عمليات الإبادة في ظل ظروف قسرية تتخطى إرادته، كما لم يكن كما صرح مجرد أداة لتنفيذ قرار سياسي بالإبادة على الرغم من وجود مثل هذا القرار. على العكس من ذلك كله، فقد كان الرجل يمارس التصفية لحسابه الشخصي، ألا يكفيه شرفًا أنه كان ينتقم لمقتل أخيه نعيم (الذي سقط شهيدًا على يد العصابات الإرهابية في داريا 2013). الأمر الذي لا يدع مجالًا للشك في تصنيف شره ضمن دائرة الشر "المطلق والجذري"، الذي لا يصدر إلا عن شخص لديه كل الدوافع الشخصية، كما كل الإرادة الحرة، ليحجز لنفسه موقعًا متقدمًا في صف الشر الأعظم، من وجهة نظرنا، وفي صف البطولة القصوى من وجهة نظر محازبيه وأنصاره.

قرابين مقدسة أم قتل طائفي على الهوية؟

من ناحية الشكل أو السياق التي ارتكب فيه أمجد جرائمه، لا يملك المرء أدنى تشكيك في صدقية الرجل، لناحية تعامله مع ضحاياه كقرابين، حيث كل الدلائل تشير إلى أنه لم يتعامل معها خارج الإطار الطقسي لمفهوم الأضحية، بمعناها السحري لا الديني، حيث أن هدفه كان منصبًا على تحقيق راحة روح أخيه نعيم، لا على نيل رضى الآلهة أو تصريف العنف خارج الجماعة التي ينتمي إليها، كما هو الحال في وضعية التضحية البشرية أو الحيوانية.

إذا قال أمجد إنه لم يكن يقتل بل كان يضحي علينا أن نصدقه، فهو في وضعيته تلك لا يخرج عن وضعية شامان القبيلة أو ساحرها الأكبر. إن هدفه ليس القتل ذاته كما يعكس سلوكه الطقسي بل الإرضاء، إرضاء روح أخيه الباحثة عن الراحة، وإلا لبقيت هذه الروح في حالة من الضياع الكلي، الذي لن يمكنها من الصعود إلى بيت الأرواح. إنه لا يقتل بل يمارس طقسًا سحريًا، كي تحصل أو تنال روح معذبة وبرئية مثل روح نعيم على رضاها. كان لابد لها من أن ترضى، ولكي ترضى كان لا بد لها من قرابين بريئة على شاكلتها، بشرط أن تقدم هذه القرابين على نفس الصورة التي فقد فيها نعيم حياته، القنص. إن أمجد لا يقتل إنه يضحي، إنه لا ينحر أحدًا بل يقنص، الأمر الذي يتطلب تحقيقه طيرانًا ما من الضحية، أليست هذه وظيفة الحفرة الطقسية، كما هي وظيفه الرصاصة اليتيمة التي تخترق جماجم الضحايا؟

ولكن على المقلب الآخر من المشهد، كيف لنا أن نصدق أن أمجد لم يكن قاتلًا هويّاتيًا، صاحب هوية، وهو يصر على أن يكون جميع ضحاياه من أبناء هوية واحدة، أو على نحو أدق من جماعة من جماعة دينية أو طائفية واحدة، السنّية تحديدًا، وإلا ما الذي يجمع الفلسطيني وسيم صيام  ابن مخيم اليرموك، مع التركماني شامان الضاهر، ابن حي التضامن، رغم القرب الجغرافي بين حيهما سوى البراءة والانتماء العقيدي المشترك؟ الأمر الذي يدعونا إلى الذهاب عميقًا في التحقق من الفرضية القائلة بأن سلوك أمجد الإجرامي لم يكن نابعًا من حرقة قلب على أخيه الفقيد، بل من موقف عقائدي ذي منشأ نفسي له علاقة تاريخية بعلاقة الطائفة العلوية مع الطائفة السنية.

الطائفة العلوية.. الخوف الوجودي

في كتابه "دائرة الخوف، العلويون السوريون بين الحرب والسلم" يجادل الباحث ليون غولد سميث، بأن العامل الجوهري الذي ظل يتحكم في سلوك العلويين منذ نشأتهم في المعازل الجبلية مع جيرانهم هو الخوف، خوفهم من المحيط وخوف المحيط منهم عبر اتهامه لهم بالتآمر. فالعلويون لم يكونوا مجرد طائفة باطنية من طوائف الاسلام، التي يبحث أنصارها عن ملجأ روحي وحسب، بل كانوا أصحاب مشاريع سياسية. إلا أن قدرتهم على الفاعلية السياسة، كالتمتع بالاستقلال الذاتي ظلت محدودة في ظل حكم سلالات حكم قوية كالمماليك والعثمانيين.

في كتابه "دائرة الخوف، العلويون السوريون بين الحرب والسلم" يجادل الباحث ليون غولد سميث، بأن العامل الجوهري الذي ظل يتحكم في سلوك العلويين منذ نشأتهم في المعازل الجبلية مع جيرانهم هو الخوف

يمكن القول إن أول بادرة للاندماج العلوي مع محيطه السني في سوريا يعود إلى العام 1936، على الرغم من أن الاندماج الحقيقي ضمن ما يسمى بسوريا الحالية قد تأخر إلى عام 1946 بسبب ظروف الحرب العالمية الثانية. أدى انخراط العلويين في الدولة السورية الحديثة ومن ثم نيلهم الاعتراف بانتمائهم إلى أحد المذاهب الإسلامية الكبرى، الاثني عشرية، إلى تهدئة مخاوفهم من الإبادة، كما أدى في الوقت نفسه إلى إضعاف عصبيتهم الطائفية. ولكن سيثبت انقلاب 1963 البعثي الذي خطط له وقاده ثلة من العلويين السوريين في الجيش (محمد عمران، صلاح جديد، حافظ الأسد) أن الاحباط العلوي من الاندماج عبر ضعف تمثيلهم السياسي والاجتماعي، سيشكل الشرارة التي ستطلق العصبية الطائفية التي خبت جذوتها في الفترات السابقة.

وفق المنطق الخلدوني لتشيكل السلالات الحاكمة، لا يمكن فهم التحالف السياسي الذي نشأ بين حافظ الأسد والعلويين 1973 إلا ضمن رغبة الطرفين في الاسثمار بهذه العلاقة. رغبة حافط الأسد بتأسيس سلالة عائلية حاكمية، تقوم على الاستبداد واحتكار السلطة، وبين رغبة العلوين بالترقي الاجتماعي والفعالية السياسية، وتحقيق الاندماج الحقيقي في المجتمع السوري.

نجح كلا الطرفين المتحالفين في تضخيم نتائج تحالفهما، وقد أثبتت الاحتجاجات السنية 1976 – 1982، الناتجة عن الإحباط السياسي واستفراد الأسد بالسلطة، على متانة تلك العلاقة بينهما، كما أثبتت بما لا يدع مجالًا للشك بأن استمرار حكم حافظ الأسد الاستبدادي متوقف على الدعم الكامل من قبل أبناء "العصبة العلوية".

ومع أنه يمكن التشكيك بالقول القائل بأن النظام الأسدي في سوريا لم يكن يومًا "نظامًا علويًا"، لجهة أنه لم يصمم لخدمة مصالح العلويين بقدر ما صمم لخدمة حكم آل الأسد، ومجموعة صغيرة محيطة به، فإن هذا الحكم ينطبق أكثر على فترة حكم الأسد الأب، الذي كان عليه أن يراعي مصالح العلويين أكثر من غيرهم حتى يستطيع تثبيت حكمه السلالي.

مع قدوم بشار الأسد إلى السلطة سوف يطيح الرجل بثنائية العلاقة تلك، وسوف تأخذه العزة بالإثم بنسب مجده الحالي، أي تربعه على كرسي السلطة، إلى ذكائه وشطارته وحدها، متناسيًا عن عمد كل علاقة تحالفية له تذكر مع الناس الذين أوصلوه إلى سدة الحكم العائلي. وللتدليل على ذلك سوف يقطع مع جميع أساليب النهب، التي كانت تسمح له بتقاسم الغنائم معهم ، ليخص بها نفسه وحدها، دون أن يتغافل عن التسامح مع وجود دائرة ضيقة من المنتفعين الذين لن يتجاوز عددهم الـ 500 شخص.

في عام 2011، تحديدا مع بداية الثورة السورية، ظهرت لدى العلويين فرصة سانحة لقطع علاقتهم مع الاستبداد، عبر توجيه أبنائهم إلى رفض إطلاق النار على المحتجين السوريين. إلا أنهم تصرفوا على عكس من المأمول، فما الذي منعهم من فعل ذلك؟ لا شك أن انتماء البعض منهم إلى مؤسسات الجيش والمخابرات كما المؤسسات الحكومية قد أثر على قرارهم، كونه يشكل تهديدًا على مستويين لهم؛ فقدان مصدر رزقهم من جهة، وفقدان مكانتهم السلطوية التي يتمتعون بها بين الناس.

وإن كان للمرء أن يتفهم أثر العوامل النفسية لدى الأفراد أو الجماعات عند اتخاذهم للقرارات المصيرية التي تمس وجودهم الوظيفي والسلطوي، إلا أن ذلك سوف يضعه أمام تحد معرفي، لفهم التصرفات أو المواقف التي يتخذها الناس العلويين العاديين ضد مصالحهم الشخصية، وهي قبولهم الطوعي للعب دور المحافظ على سلالة آل الأسد، التي لا تقيم لمصالحهم أي إعتبار.

الخوف، الخوف الطائفي تحديدًا، ربما يكون هو كلمة السر التي أدت إلى انخراط العلويين في آلة الأسد الدموية. فلقد شعرت الأغلبية الكاسحة أنها مهددة بوجودها الشخصي، وكيف لا تفعل وهي ترى حركة الاحتجاجات تخرج من الجوامع. فلقد ربط العلوي الخائف لا شعوريًا بين الجامع وحالة الاضطهاد الطائفية التي مر بها أسلافه عبر مئات السنين. وعنت له حركة الجماهير السلمية شيئًا واحدًا، التنكيل به ودفعه إلى المعازل الجغرافية التي عاش فيها أجداده قرونًا. وحده النظام من كان واعيًا لهذا الخوف الطائفي لتحصين نفسه من السقوط، لذا نراه يعمد إلى تبني هذه الاستراتيجة في خطة عمله لقمع الثورة، عبر تقديم فعاليتها إلى مناصريه العلويين كحركة عنف مرتبطة بالإرهاب الطائفي، السني تحديدًا.

بين الردع والانتقام

إن أي فهم لسلوك أمجد يوسف لا يأخذ بعين الاعتبار عمق خوفه الطائفي، لن يسمح بفهم الرابط الذي يقيمه الرجل بين الطقسي المتعلق بالانتقام، وبين الإبادة الجماعية المتربطة بالخوف الوجودي. فإذا أخذنا سلوك أمجد في كونه فعلًا سحريًا، فإننا لن نجد فيه ما يغري سوى طابعه الطقسي، الممهور بلمسة متعمدة من القسوة لتطهير مخاوفه عبر النار. أما إذا تعاملنا معه بأنه موقف يتجاوز الانتقام الشخصي إلى الانتقام الجمعي، الهوياتي (من هوية)، فعندها نكون في موقف من يمكننا فهم سلوكه الذي يجمع بين الانتقام والردع.

يتقاطع السلوك الانتقامي لأمجد في مذبحة التضامن مع السلوك الانتقامي للبدوي في خاصية جوهرية، تتعلق بتعامل كليهما مع الأعداء المفترضين كجسد واحد

يتقاطع السلوك الانتقامي لأمجد في مذبحة التضامن مع السلوك الانتقامي للبدوي في خاصية جوهرية، تتعلق بتعامل كليهما مع الأعداء المفترضين كجسد، حيث لا فرق هناك بين هوية القاتل الفعلي أو أخيه أو ابن عمه، أو أي فرد من أفراد القبيلة، ما دام الجميع في عرف المنتقم مجرد تنويع جسدي لمطرح واحد هو جسد القبيلة. من هنا يمكن فهم سلوك أمجد الخاص باختيار ضحاياه من جسد القبيلة الأكبر، القبيلة السنية.

ومع ذلك فإن موقف أمجد النفسي يتفوق على الموقف النفسي عند البدوي الراغب بالانتقام، لجهة تخطيه لمفهوم الردع الذي يسعى لتحقيقه البدوي من عملية انتقامه تلك. أما هدف أمجد من الانتقام فهو أكثر غورًا، إنه لا يقتل ليردع وحسب، بل ليبيد. وهو إذ يفعل ذلك لإحساسه العارم أنه مهدد وجوديًا بالفناء من قبل الآخرين، السنة تحديدًا. وللتدليل على وعيه العارم بالإبادة والإفناء، فإنه لا يقصر انتقامه على ذكور القبيلة، وإنما يمده ليشمل نساءها أيضًا، أليس النساء هن رحم القبيلة الولود؟ كما إلى الأطفال والشيوخ معًا، أليس الأطفال مشاريع خطر وجودي لاحق؟ وأن الشيوخ صلة الوصل بين ما مضى وما سيأتي، ألا يستحقون الإبادة بأثر رجعي؟

أثبتت تعليقات الاستحسان الموالية التي امتدحت سلوك أمجد، أن هناك أكثر من أمجد واحد بين ظهرانينا، وإن مجرد ظهوره من عدمه يظل قائمًا على الصدفة وحدها، ذلك أن العوامل النفسية المهيئة لارتكاب المذبحة واحدة، إنها الخوف الوجودي من الآخر. لا شك أن ردود الأفعال السابقة تلك مرعبة، الأمر الذي حدا بأحد الإعلاميين بالتحذير منها واستنكارها، إلا أنه في حمى ذلك الرعب لم ينس أن يشير إلى رعبه من العنف اللفظي السني، الذي يصر على وضع كل أبناء الطائفة العلوية أو كل علوي منهم في موضع المتهم أو المسؤول عن جرائم لم يرتكبها ولا يقر بها بأية حال من الأحوال.

واحدة من الدفاعات الأولية التي أظهرها المحتجون على بشاعة مذبحة التضامن، هو إشهارهم لفعل التذكر "لن ننسى، لن نسامح، لن نصالح". إذا كان الكلام موجهًا إلى حكم آل الأسد السلالي بقصد عدم التخلي عن فضح الطبيعة الدموية لنظامه، كما الإصرار على تقديم مجرميه إلى المحاكم الدولية، فهذا أمر حسن ومقبول. أم إذا كان الكلام موجهًا للعلويين كطائفة والتشنيع عليهم "الطائفة القاتلة" فهذا مدان وخطير في آن، كونه لا يسهم سوى في دفع المحتج للعب في ملعب الأسد نفسه، الذي يرى في الردح الطائفي الدجاجة الذهبية التي تحمي حكمه السلالي من الانقراض.

إن الخروج من هذه المعمعة المعبأة بالعنف الطائفي المرتكز على العنف الوجودي، هو دعوة الطائفة العلوية لفك ارتباطها بالحكم السلالي الاستبدادي لآل الأسد. فلقد أثبتت وقائع الثورة السورية أن الأسد ليس بالمؤتمن على أمنها ومصالحها، بقدر ما هو المتسبب الحقيقي بهدر دم أبنائها. لقد كان هدف العلويين الأكبر منذ 1936 الاندماج المجتمعي ودخولهم في علاقة مواطنة مؤسسة على حكم القانون. فليتمعنوا بما جنوه من تحالفهم الشيطاني هذا مع الأسد، وليتمعن أعداؤهم المعبئون بشحنات العنف الطائفي المضاد، التي لن تفيد أحدًا من السوريين سوى استمرارهم العيش ضمن مشهدية المقتلة الكبرى.