24-مارس-2020

نبيل سليمان وروايته

جنحت بعض الكتابات عن رواية نبيل سليمان "تاريخ العيون المطفأة" إلى الإشارة الصريحة إلى رواية البرتغالي جوزيه ساراماغو "العمى" كثيمة استلهم منها نبيل سليمان أجواء روايته، والتي في صفحاتها الأولى، تصاب فخر النساء بالعمى فجأة ذات صباح، لتصرخ مذعورة: "أنا عميت يا شيخ حميد"، ما يذكّر بما يحدث لسائق السيارة في رواية العمى، والذي يفقد بصره وهو متوقف أمام إشارة المرور، وتعطل حركة السير، ونفهم من الغاضبين حول السيارة المتوقفة، أن الرجل من حركة شفتيه يقول: أنا أعمى.

أرى أن عميان نبيل سليمان في روايته يختلفون كثيرًا عن عميان ساراماغو. ومع أن الاستلهام في الأدب حاضر بقوة في التاريخ الإنساني للإبداع، وهو حق مشاع للكتاب والأدباء، فإنني أجزم أن الروائي السوري قد يكون استلهم ظلالًا مبثوثة في ثنايا روايته من الروائي البرتغالي، إلا أن أجواء الروايتين لا تتماهى لا من قريب ولا من بعيد، ولعل من قرأ العملين سيشعر بذلك حتماً، بفطرته العفوية. ولعل تذكير أكثر من ناقد برواية "العمى" في سياق كتابتهم عن "تاريخ العيون المطفأة"، إنما جاء في معرض توسيع المعرفة المقارنة التاريخية بين العملين، وهذا ما سأتطرق إليه.

العميان في رواية "تاريخ العيون المطفأة" لنبيل سليمان عميان بالمصادفة، وأحيانًا قادرون على الإبصار

في "الشكل"، رواية سليمان، تتألف من 48 عينًا، وكل عين بمثابة فصل يحمل عنوانًا فيه من الخصوصية ما يسمح لي بالقول إنه قصة قصيرة أو حكاية، ستنجدل مع أخواتها في هيئة رواية، إذ أينما توقف القارئ تكتمل متعته، وهذا يسمح فنيًا بتعدد الرواة، ويفسح في المجال لتعدد المحاور الفكرية والسياسية لعمل يكشف على صعيد "المضمون" خلفيات الحرب الدائرة في سوريا، وسبر مناخها المأساوي، وتشخيص الخزي المستشري والاستخذاء والمنافي والاعتقالات والمال والفقر والحرية والمخابرات والأحلام المقموعة والآمال المؤجلة والهجرات والرشى والتآمر وتجارة السلاح وغسيل الأموال والإرهاب... مع "بهارات" من مشاعر الحب والجنس والفنون، وذكر حيوات رسامين وموسيقيين عميان، لكنهم ذوو هيئات بشرية أكثر من المبصرين.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة نبيل سليمان

يقوم سرد رواية "تاريخ العيون المطفأة" على واقع معروف للسوريين، أشخاصًا وأمكنة وأنماط تفكير. ويميل المؤلف إلى توظيف ثقافته النقدية العميقة في أنماط السرد مستخدمًا الواقعية السحرية لماركيز، وتقنية تبادل الرسائل، والخيال العلمي، والرواية داخل الرواية، والمونولوغ والديالوغ، والتكثيف الشديد، ومجانبة الوقوع في التفصيلات، وتوطئة النص للمجاز في الوقائع التي قد تعرض الكاتب للمساءلة، والاستعانة بجماليات اللغة، واصطياد لهفة القارئ عبر التشويق الحكائي غير المنتظر، وقد نجح في كل ذلك.

أما رواية ساراماغو فهي في "الشكل" كتلة لغوية من 90 ألف كلمة لا انقطاع فيها، لا تتزحزح عن خطّها المستقيم أبدًا، وهذه سمة لبعض رواياته. والراوي العارف والشاهد على تتابع الأحداث هو الطاغي على العمل المكتظ بتفصيل التفصيلات الجزئية والهامشية، إلى حدودها القصوى، ما يجعل رواية ساراماغو صعبة على القارئ غير الصبور، وربما باعثة على الملل.

وعلى صعيد المضمون، فإن جوهر هذه الرواية ومدماكها الرئيس هو نقد لاذع لأوضاع اجتماعية مهترئة، في ظل قهر عسكري، وفلسفة نفسية لدواخل الحاكم والمحكوم، وحتمية وجود الراهن الطبقي في الحراك الاجتماعي والسياسي. ولعل هذا الأخير يعزى إلى خلفية ساراماغو كشيوعي، كما تخوض الرواية في معنى التلوث الحضاري الراهن وبؤس الحياة، والسعي الشاق للبشر وراء لقمتهم، ما يذكرنا بمقولة ماركس: تاريخ الإنسان هو تاريخ البحث عن الطعام! 

إن الروايتين مختلفتان على رغم تقاطع وتشابك مظهر العمى فيهما مع فروق واضحة للعيان. فالعمى عند ساراماغو وباء وعدوى شاملة دون أسباب واضحة، ويطلق عليه العمى الأبيض. والرواية تركز فقط على مقولات العمى والعميان، ولا تخلو صفحة واحدة من هذه الثيمة أو الحبكة، ومن خلالها تجري الإسقاطات الفكرية والاجتماعية والسلوكية والنفسية. والعميان مع جهلهم المطلق بأسباب العمى، حتى أن البعض يرجعه إلى عوامل نفسية، إلا أنهم يتصرفون كعميان بيولوجيين، يتعثرون ويلمسون الأشياء ويتقرّون المحيط بحواسهم الأخرى كالشم والذوق، عميان مؤبدون حقيقيون، نورهم وظلامهم دامس، ويهجسون دائما باحتمال العثور على دواء. العمى هنا ظاهرة، ربما أيديولوجية، سياسية، دينية، حزبية.. إلخ. والعميان موبوؤن بهذه الظواهر، وهم ضائعون في عتمات الحياة ولا مجير لهم.

لكن عميان نبيل سليمان فئة مختلفة. هم عميان بالمصادفة، وأحيانًا قادرون على الإبصار. وفي التقديم للرواية، جاء أن المشكلة هي البصر وليس العمى: "نعم يا سادة يا كرام، البصر هو اسم العلّة وليس العمى" (ص7). فالعميان هنا كانوا في أزمان آفلة يتمتعون بالبصر والبصيرة في أوضاع دولتية سالفة مستقرة على قيم عليا ثابتة. وإذا كانوا قد فقدوا البصر فإن بصيرتهم الموبوءة بالفساد مازالت حاضرة، وتحركهم نحو مطامع ضيقة شخصية، وتدفعهم لخوض صراعات ومواجهات معقولة وغير معقولة، لتجعل مصائرهم في مصيدة الظلام والفوضى والمحن، وتجعل من ممالكهم العائلية والعشائرية والطائفية والمالية مهالكهم. كأن التاريخ يصرخ في وجوههم، كما يفعل السوري حين يشتم السوري الآخر قائلًا: "العمى يُضربك".

تنطلق رواية "تاريخ العيون المطفأة" من الواقع السوري والعربي، وتلازمه حتى الخاتمة وبشيء من المجاز. والقارئ الحصيف يستطيع استقراء الشخصيات والوقائع والأمكنة ويشير إليها دون تعب، وإن كانت قد كُتبت تحت غلالة التورية المحسوبة بدقة.

لا يمكن لمن خبر النقد أيضًا مثل نبيل سليمان أن يقع في فخ محاكاة عمل شهير لكاتب نال جائزة نوبل. ونبيل سليمان، استباقًا لكل ما يمكن أن يقال حول تشابه عميانه مع عميان ساراماغو، يخصص فصلًا هو الـ 45 لنقد رواية ساراماغو في حوار يدور بين آسيا وبين الدكتور لطيف الفنان التشكيلي والمحامي الأعمى. وفي أماكن أخرى يدير نبيل سليمان حوارًا بين شخصياته عن العمى في الأدب والشعر والسينما والمسلسلات.

لا يمكن لمن خبر النقد أيضًا مثل نبيل سليمان أن يقع في فخ محاكاة عمل شهير لكاتب مثل ساراماغو

وقد ضرب أمثلة ونماذج كثيرة (من الصفحة 303 إلى 310)، لتقول آسيا بعدئذٍ: "ساراماغو انطلق من الواقع ثم استغرقته اللعبة الساحرة، حتى إذا حاول في النهاية أن يعود إلى الواقع، جاءت النهاية ميلودرامية" (ص 309)، ثم تصف عمل ساراماغو بقولها: "عمل هائل، لكن نهايتها مثل نهاية فيلم ميلودراما، تزول فيها الغمة ويعود البصر إلى من عَمِيَ" (ص 306). وأرى أن الروائي السوري تفادى عن قصد مثل هذه النهاية، حيث اختار نهاية مأساوية بامتياز.

اقرأ/ي أيضًا: فواز حدّاد: أصبحت الرواية حياتي كلها

من هم الأخيار ومن هم الأشرار في رواية نبيل سليمان؟ من هم العميان ومن هم المبصرون؟ في أطروحة إحدى الشخصيات نقرأ: "لنقل مثلًا: البصر هو الشباب الذين خرجوا في تلك المظاهرات ونظموها وقادوها، والعمى، بالتالي، هو من أجهضوها" (ص 308). أليس من المنطقي القول بعد كل هذا الاسترسال أن عميان سليمان غير عميان ساراماغو؟

 

اقرأ/ي أيضًا:

نبيل الملحم: الكتابة فعل أقرب إلى الاستحمام

علوية صبح.. عزلة في منطقة الاشتباك