05-فبراير-2024
الصحفي الفلسطيني بلال جادالله

(Getty) الصحفي الفلسطيني بلال جادالله

أسّس الصحفي الفلسطيني بلال جادالله مركز "بيت الصحافة" في غزة ليلمّ شمل الصحفيين دون اعتبارٍ لتحصيلهم الأكاديمي أو خبرتهم المهنية أو انتمائهم الأيديولوجي، واضعًا نصب عينيه هدفًا واحدًا: خلق مشهد صحفي مهني ومميز في غزة، وكان له ذلك.

لكن في التاسع عشر من تشرين الثاني/نوفمبر 2023، وأثناء رحلته من مدينة غزة للالتحاق بعائلته التي نزحت إلى الجنوب، استهدفت سيارته قذيفة دبابة إسرائيلية، ضمن نهج دولة الاحتلال في استهداف الصحفيين وإسكات أي صوت ناقلٍ لقصة غزة.

منذ أيام، أعدّت مجلة كولومبيا للصحافة تقريرًا يوثق رحلة جادالله في تأسيس بيت الصحافة، وينقل شهادات صحفيين وصحفيات ممن كان لجادالله فضلٌ عليهم في مختلف محطات مسيراتهم، يترجمه "ألترا صوت" بتصرف أدناه.


بعد ظهر يوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر، وقف بلال جاد الله داخل مكاتب بيت الصحافة، المركز الإعلامي الذي أسسه في قطاع غزة، بينما توافد الصحفيون للحصول على سترات واقية من الرصاص وخوذات مجانية. ذلك بعدما اقتحم مقاتلو حماس عدة بلدات ومستوطناتٍ إسرائيلية في هجوم مفاجئ، مما أسفر عن مقتل مئات الإسرائيليين، ووعدت الحكومة الإسرائيلية بالانتقام السريع والحاسم.

لسنوات عديدة، كان جاد الله، صاحب الخمسة وأربعين عامًا، وجه الصحافة المستقلة في غزة. فبالنسبة للمراسلين المحليين، كان مبنى بيت الصحافة المكوّن من طابقين والمطلي باللون الأبيض في شارع الشهداء وسط مدينة غزة، بمثابة ملاذ، خاصة في أوقات الحرب. إذ توافرت فيه الكهرباء والإنترنت دومًا، وبدا بطريقة ما وكأنه معزولٌ عن أي صراع يدور خارج أسواره.

وكان المركز أيضًا المحطة الأولى للعديد من المراسلين الأجانب الذين يزورون القطاع، فهو مكان يمكنهم استخدامه كقاعدة للعمليات، حيث يمكنهم استئجار وسيط أو مترجم محلي. كما شهد تدفقًا مستمرًا من الدبلوماسيين الغربيين.

قالت صبا الجعفراوي، صحفية وناشطة على وسائل التواصل الاجتماعي من غزة، التقت بجاد الله عندما كانت في بداية حياتها المهنية: "كان تفكير بلال هو جمع جميع الصحفيين، بغض النظر عن سياساتهم أو انتمائهم الأيديولوجي".

لم الصحفي الفلسطيني بلال جادالله مركز "بيت الصحافة" شمل الصحفيين في غزة، دون اعتبارٍ لتحصيلهم الأكاديمي أو خبرتهم المهنية أو انتمائهم الأيديولوجي

ومع بدء القصف الإسرائيلي، كان الصحفيون يتجمعون حول الطاولات والكراسي البلاستيكية في فناء المبنى المفروش بأوراق الشجر المتساقطة، وكانت أجهزة الكمبيوتر المحمولة والكاميرات والسترات الواقية من الرصاص تغطي كل سطح متاح في قاعات المؤتمرات. طغى على مرتادي المركز شعور مألوف بالأمان.

لكن في 9 تشرين الأول/أكتوبر، أي بعد يومين من اندلاع الصراع، أصابت غارة جوية مبنى شركة الاتصالات الفلسطينية القريب. وألحقت الشظايا أضرارًا بمكاتب بيت الصحافة. وأغلق جاد الله المكاتب لأول مرة، وطلب من الجميع المغادرة. أرسل زوجته وأطفاله الأربعة إلى الجنوب، حيث اعتقد أنهم سيكونون أكثر أمانًا.

وبقي جاد الله في مدينة غزة للمساعدة في توزيع المساعدات على العائلات النازحة. كان المراسلون يُقتلون بوتيرة مفجعة، حيث بلغ عددهم ما يقرب من ثلاثين بحلول نهاية تشرين الأول/أكتوبر. أما في الشوارع، فسادت طقوس حمل الصحفيين جثث زملائهم في مواكب الجنازة، وهم يرتدون ملابس واقية طُبع عليها شعار بيت الصحافة.

ثم، في 6 تشرين الثاني/نوفمبر، قتلت غارة جوية أحد موظفي بيت الصحافة، مستشار جمع التبرعات، محمد الجاجا، مع زوجته وابنتيه. وبعد أسبوع، قتلت غارة أخرى أحمد فاطمة، مصور شبكة قناة القاهرة الإخبارية المصرية، والذي كان يعمل أيضًا في بيت الصحافة، بينما كان يغطي الحملة العسكرية الإسرائيلية للسيطرة على مستشفى الشفاء.

وبحسب أحد الأصدقاء، اتصل جاد الله بأرملة فاطمة وعرض عليها مساعدة الأسرة في شؤونها المالية. لكن أصبح من الواضح أنه نفسه لن يستطيع البقاء في المنطقة لفترة أطول.

وبعد أسبوع، اتصل جاد الله هاتفيًا بأسرته ليخبرهم أنه سيغادر للانضمام إليهم في الجنوب. ركب سيارة مع صهره، وبدأا بالقيادة في شارع صلاح الدين، الطريق السريع الرئيسي الذي يربط بين الشمال والجنوب في القطاع. وقبل أن يتمكنا من الخروج من وسط المدينة، أصابت قذيفة دبابة إسرائيلية السيارة، مما أدى إلى مقتل جاد الله.

بيتٌ لجميع الصحفيين

في السنوات التي تلت الربيع العربي، قامت حماس، التي تحكم القطاع منذ عام 2006، باتخاذ إجراءات صارمة ضد مظاهر السخط والتظاهر، وأصبحت الحياة صعبة بشكل خاص على مجموعات المجتمع المدني والصحفيين. وكانت التوترات السياسية بين حماس وفتح، الحزب الفلسطيني الذي يسيطر على الضفة الغربية، سببًا في تفاقم سوء الأوضاع، حيث كان يُنظر إلى المراسلين فقط من إطار ولائهم لفصيل أو آخر. وبالنسبة للصحفي الذي لديه ارتباطات من نوع لا يروق للسلطة التي تحكمه، كان من الصعب الحصول على أوراق اعتماد إعلامية أو حتى ترخيص لتغطية مؤتمر صحفي. أراد جاد الله الخروج من هذا المأزق.

درس بلال جادالله الصحافة أكاديميًا، كما ينحدر من عائلة غارقة في الصحافة، إذ يعمل العديد من أقاربه حاليًا في وكالة رويترز، وشقيقه علي جاد الله مصور بارز لوكالة الأناضول. لكنه أراد أن يفعل أكثر من مجرد أن يصبح مراسلًا آخر. وعلى الرغم من مخاطر العمل كصحفي في غزة، كان هناك دائمًا اهتمام كبير بهذه المهنة. إذ يتزايد عدد خرّيجي الصحافة من الجامعات في القطاع تدريجيًا كل عام، إلا أن العثور على عمل ثابت بعد التخرج مهمة أشقّ.

يعتقد جاد الله أنه من خلال وجود مساحة مستقلة لتدريب وتشجيع الصحفيين، يمكنه بناء مشهد إعلامي مناسب ومهني في غزة. وفي نهاية المطاف، قال لقناة تلفزيونية محلية في عام 2014، إن هؤلاء الصحفيين سيساعدون في تحسين المجتمع الفلسطيني بشكل عام. وقال: "نأمل أن يكون بيت الصحافة ملتقى لجميع الإعلاميين وأصحاب الرأي والكتّاب، بحيث يكونون جميعًا في مكان واحد، يستمعون لبعضهم البعض ويتبادلون الأفكار. لن تكون هناك سياسة هنا. بيت الصحافة مفتوح للجميع".

وسرعان ما بدأ بيت الصحافة يعج بالنشاط. استضاف الصحفيين والدبلوماسيين من القريب والبعيد. وعقد سلسلةً منتظمةً من الدورات التدريبية، بتمويل من الحكومات الأوروبية، وكان مفتوحًا للجميع بحقّ، بما في ذلك أولئك الذين ليس لديهم أي خلفية في مجال الإعلام. وفي عام 2014، ساعد جاد الله في إطلاق وكالة أنباء داخلية أُطلق عليها اسم "وكالة سوا"، والتي قدمت وسيلة سهلة لمن هم في بداية مشوارهم الصحفي للحصول على خبرة عملية.

كانت الجعفراوي خريجة جامعية جديدة عندما وصلت إلى بيت الصحافة لأول مرة في عام 2013. وعملت لمدة أربع سنوات كمحررة في وكالة سوا. قالت: "لقد كان بيت الصحافة بمثابة بيتي الثاني. لقد بدأت كمتطوعة هناك، ولكن انتهى بي الأمر بالعمل مقابل أجر، وحصلت على فرصة حقيقية للنجاح".

يعتقد بلال جاد الله أنه من خلال وجود مساحة مستقلة لتدريب وتشجيع الصحفيين، يمكنه بناء مشهد إعلامي مناسب ومهني في غزة

 

كما كانت الجعفراوي المسؤولة عن تشبيك جاد الله بالمصور أحمد فاطمة الذي قُتل في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، والذي انجذب سريعًا إلى أجواء بيت الصحافة. تتذكر الجعفراوي اللقاء قائلةً: "كان يعد الشاي والقهوة، وينظف، ويستقبل الناس في مكتب بلال".

لكن وجود فاطمة حول الصحفيين جعله يقرر ممارسة المهنة بنفسه: "بعد ذلك حصل أحمد على دورات صحفية مجانية في بيت الصحافة، وأصبح صحفيًا بحقّ".

وفي قطاع غزة ذو البيئة المحافظة، حيث لم يكن من الشائع كثيرًا أن يعمل الرجال والنساء في نفس المؤسسات، لعب جاد الله دور الخطابة أيضًا، فعندما لفت أحمد فاطمة انتباه صحفية أخرى في بيت الصحافة، ساعد جاد الله في تقديمهما إلى بعضهما البعض، وتزوجا في نهاية المطاف، ولم تكن تلك الزيجة الوحيدة بين صحفيَّين تتم برعاية جاد الله.

وقالت الجعفراوي: "أحمد فاطمة هو مجرد واحد من مئات الشباب الذين ساعدهم بلال. إذ كان يعطي مساحة لأي شخص.. كان يقول إذا كنت تريد اتصال إنترنت جيد، أو إذا كنت تريد مساحة للعمل، تعال إلى بيت الصحافة، فهو مجاني ومفتوح لك، بغض النظر عن منصبك". وبدلًا من التركيز فقط على الصحفيين الكبار، كان بلال يركز على الصحفيين المستجدّين، وعلى الصحفيين المستقلين، وعلى خريجي الجامعات.

وقالت عبير أيوب، الصحفية المولودة في غزة والتي تكتب الآن لصحيفة وول ستريت جورنال: "لم يكن هناك شيء مثل ذلك في غزة حقًا". فبعد تخرجها من إحدى الجامعات المحلية، لجأت أيوب إلى جاد الله للحصول على التوجيه وبناء العلاقات. ساعد جاد الله الصحفيين المحليين في الوصول إلى الدبلوماسيين لطرح الأسئلة، وبمرور الوقت أصبح جاد الله قناة للصحفيين الدوليين الذين يبحثون عن وسيطين. تقول أيوب: "كنا نذهب ونتحدث مع بلال ونطلب منه نصيحته. كان يقوم بإجراء بعض المكالمات مع المسؤولين ليحصل لنا على بعض التصاريح للذهاب والتصوير".

والتقى الصحفي المصري-الأمريكي شريف عبد القدوس بجاد الله عام 2014، عندما ذهب قدوس إلى غزة لتغطية الحرب هناك في ذلك العام. عند عبوره إلى غزة عبر معبر بيت حانون، كان على قدوس الحصول على تصريح ليس فقط من السلطات الإسرائيلية، بل أيضًا من السلطات الفلسطينية في غزة. والتقى به جاد الله على الجانب الفلسطيني من المعبر، واصطحبه إلى بيت الصحافة، وكلّفه بالعمل مع صحفي محلي.

قال عبد القدوس: "كان المركز نفسه مجرد مكان يعج بالنشاط، وكان بلال مفيدًا لكل من يرتاده. لقد أذهلني بكونه أشبه بشخصية الأب الروحي بالنسبة للكثير من مرتادي المركز الذين كانوا يطلبون منه النصيحة. وإذا طلب مراسل أجنبي متابعة قصة ما ولم يتمكن من ذلك، أو لم يعرف كيفية القيام بذلك، كان يذهب إليه فيوصي بجهات يمكن التحدث معها".

على مجتمع الصحافة الاستمرار دون جادالله

قتلت إسرائيل ما لا يقل عن ستة وسبعين صحفيًا في غزة حتى وقت نشر هذا التقرير، وفقًا للجنة حماية الصحفيين، وهي واحدة من عدة مجموعات تحاول إحصاء عدد القتلى. وتقدر نقابة الصحفيين الفلسطينيين العدد بأكثر من مائة واثني عشر، أي حوالي 10 في المئة من الإعلاميين العاملين في القطاع، بحسب شروق أسعد، صحفية ومتحدثة باسم النقابة من الضفة الغربية.

كما يجري تدمير البنية التحتية الصحفية خلال هذه الحرب. إذ تم قطع بث جميع محطات الراديو الست والعشرين في غزة، كما أصبح ما لا يقل عن ستة وستين مكتبًا إعلاميًا - بما في ذلك تلك التي تستخدمها وكالة فرانس برس ورويترز - غير صالحة للاستخدام بسبب الهجمات الإسرائيلية، وفقًا لأسعد. ولم يضطر الصحفيون الذين تعرضت منازلهم للقصف إلى البحث عن الطعام والمأوى لأنفسهم فحسب، بل اضطروا أيضًا إلى البحث عن الكهرباء لشحن الهواتف والكاميرات والوصول إلى الإنترنت لتسجيل تقاريرهم وإرسالها، وهي الخدمات التي ربما كانوا يجدونها سابقًا في بيت الصحافة.

وقالت أسعد: "الصحفيون الآن يخافون جدًا من الذهاب إلى منزل أي قريبٍ أو صديق، لأنهم لا يريدون أن يكونوا سبباً في قصف أي شخص. إنهم يشعرون أن إسرائيل تستهدفهم، ولم يعودوا يفهمون حقًا ما هي فئتهم الاجتماعية، أهم مدنيون أم مقاتلون في الحرب!".

وادّعى متحدث باسم الجيش الإسرائيلي سابقًا في بيانٍ لمجلة كولومبيا للصحافة إن إسرائيل "لم ولن تستهدف الصحفيين عمدًا أبدًا". لكن في أواخر تشرين الأول/أكتوبر، قال الجيش الإسرائيلي لوكالتي رويترز وفرانس برس إنه لا يستطيع ضمان سلامة صحافيي الوكالتين في غزة خلال الحرب.

قبل أشهر قليلة من وفاته، قام جاد الله ببعض الأعمال حول هذه القضية بالذات. ولعب دورًا فعالًا في التقرير الذي أصدرته لجنة حماية الصحفيين في شهر أيار/مايو الماضي، حول دور إسرائيل في مقتل الصحفيين في غزة والأراضي الفلسطينية. حيث وثق التقرير مقتل عشرين صحفيًا على مدار اثنين وعشرين عامًا، بينهم ثلاثة عشر في القطاع، وخلص إلى عدم محاسبة أي إسرائيلي على مقتل أي منهم.

وقال شريف منصور، منسق برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في لجنة حماية الصحفيين، إنه على الرغم من عدم وجود دليل على أن جاد الله كان مستهدفًا على وجه التحديد، إلا أن ظروف وفاته تستحق المزيد من التحقيق. وقال منصور: "لقد رأينا تواطؤًا موثوقًا من جانب الجيش الإسرائيلي، ولهذا السبب طالبنا بإجراء تحقيق مستقل ودولي في القضية".

ولكن على أية حال، سيتعيّن على مجتمع الصحافة في غزة الاستمرار من دون جادالله. وقالت الجعفراوي: "لقد كان فريدًا من نوعه عندما يتعلق الأمر بخدمة الصحفيين. كان حلمه أن يفتتح بيت الصحافة، وقد افتتحه. لقد كان حلمه أن يجعل المشروع ناجحًا لجميع الصحفيين، وقد كان كذلك بالفعل".