27-أكتوبر-2023
وائل الدحدوح

في الوقت الذي كانت فيه نائبة المدير في دائرة "المعايير" في الأسوشيتد برس تحدّث التوجيهات المتعلقة بتغطية الحرب على غزّة، وتضع توقيعها على ضرورة ضبط المصطلحات لتجنّب إزعاج "إسرائيل"، كان الصحفيون الفلسطينيون في غزّة ينقلون الحقيقة عارية كما هي من الميدان، يحمل أحدهم الراية عن زميله، في نوبات عملٍ خارقة (حرفيًا)، وبلا استسلام أمام آلة الحرب الإسرائيلية. يقولون للعالم على مدار الساعة، هنا غزّة.

محمد الصالحي، إيراهيم لافي، محمد جرغون، أسعد شملخ، سعيد الطويل، محمد صبح، هشام النواجحة، سلام ميمة، حسام مبارك، رشدي السراج، عصام بهار، محمد لبد، سائد الحلبي، محمد بعلوشة، سلمى مخيمر، دعاء شرف، محمد علي، سعيد الطويل، أحمد شهاب. هذه بعض أسماء من ماتوا، صاروا شهداء، صحفيين شهداء؛ شهداء بالمهنة، وشهداء بالأرض.

أما من بقي من بعدهم فهم شهداء أحياء. عبدالله مقداد، سائد السويركي، باسل خلف، هبة عكيلة، حسام سالم، عادل الزهارنة، حسن اصليح، سامح مراد، عبدالكريم سموني، سالم الريس، يمنى السيد، مرام حميد.. وغيرهم وغيرهنّ الكثير. منهم أيضًا، وأبرزهم، الصحفي والمراسل الحربي (بالضرورة) وائل الدحدوح، الذي شاهده العالم أمس بوجهه البسيط المعجون بالتّعب والصبر معًا، وسمته الصلب الذي يليق بصحفي مخضرم، أو قل يليق بغزّيّ، وهو يتلقى نبأ استشهاد عدد من أفراد أسرته المباشرة: زوجته، وابنه محمود، وابنته الصغرى شام، وحفيده من ابنه الأكبر، إضافة إلى شهداء من عائلته الممتدة، بعد أن نزحوا من منازلهم إلى مخيم النصيرات، طالبين، عبثًا، فسحة من الأمان.

"معلش".. حين قالها وائل الدحدوح، سمعناها بصوت مليوني غزّي يراقبون الموت يتهاوى عليهم من السماء، ولم يسلم من الفقد منهم أحد. "معلش" وائل الدحدوح، بدت واسعة وواثقة، كأنّها أمانة صحفيّة عزيزة ينقلها كما سمعها آلاف المرّات من مواطنيه، أهل حيّه وشارعه، من أهل غزّة كبارهم وصغارهم، من يعرفونه جيدًا ويعرفهم، حين كان يأتيهم في لحظات الفقد الأولى: فيقولون له وقد استندوا قليلًا عند رؤيته: "معلش, كرمال فلسطين، ربنا بعوّض، غزّة بتستاهل، سبقونا على الجنّة". 

"معلش" الدحدوح، بدت قادمة من بعيد، من سلسلة متواترة من أخبار المهجّرين والنازحين والمحرومين والشهداء، التحمت مبكّرا في وجدان كل فلسطيني، لا تحتاج كثير تكلّف كي تخرج صافية في أشدّ المواقف قهرًا. "معلش" تلك كانت كرمًا لأهل غزّة جميعًا، لم يكن وائل النبيل، وغيره من الصحفيين الذين منوا بفقد ذويهم في هذه الحرب، لينسوا كل تلك التحسّبات الراضية التي سجّلتها كاميراتهم ونقلوها على الشاشات، منذ عشرين عامًا، أملًا في مخرج ونجاة، ومحاولة لتحريك ساكنٍ عربي وعالميّ لإنقاذ أهل غزّة.

اتّسعت "معلش" وائل الدحدوح على قدّ قطاع غزّة، البقعة الصغيرة المحاصرة التي تحارب عن ضمير العالم كلّه. اتّسعت هذه الكلمة ولا تزال تتّسع كلّ يوم، حتى أخذت في غضون ساعات قلية وحسب، شكل الأسطورة: شيء لا تحلم بعشر حقيقته كلّ إسرائيل مذ نشأ كيانها، ومهما استفحش بطشها أو بلغت ادعاءات من يؤزونها على إبادة غزّة في واشنطن وعواصم الاتحاد الأوروبي.

"بنتقموا منا في الأولاد؟".. منا نحن، كلّنا، صحفيين وغير صحفيين، من كل فلسطيني رفض الانصياع للموت النازل من الطائرات على هيئة احتلال، يقول للناس موتوا لأننا سئمنا من رؤيتكم أحياء، وأنتم من طينة أنقص. "بنتقموا منّا في الأولاد"، بأغلى ما لدينا، بما نعيش من أجله؟ ينتقمون منّا نحن الغزيين، بقتل 2600 من أطفالنا؟

يعرف وائل وزملاؤه ومن سبق أهله من الشهداء أن رجع السؤال هذا، بصيغته المضارعة، هو مزيد من غيوم القصف الملبّدة بالموت والرغبة بالإبادة. هي جملة صحفية تقريرية، جرت على لسانه وهو يعالج الصدمة الأولى، فينقل شهادة بلغت المنتهى المطلق للموضوعيّة وأبناؤه مضرجون بالدماء بين يديه: "إسرائيل تنتقم من الفلسطينيين بقتل أولادهم". الفرق أنّ وائل أبصر تلك الحقيقة لحظتها أكثر بدرجة من أسوأ الخيالات التي يمكن لأبٍ أن يفكّر بها.

ينتمي وائل الدحدوح وزملاؤه من المراسلين الحربيّين في غزّة إلى زمرة من الصحفيين المنتمين إلى صحافة إنسانية مناضلة وفاعلة، كلّ شروطها الآنية تخرق كلّ قواعد الممارسة المعقولة: من ثمّ يستطيع الحديث بموضوعية واتزان وثبات وأرضه تحرق؟ لكنّهم مع ذلك يقدّمون اليوم أسمى نموذج صحفي عرفه التاريخ، بلا حاجة إلى العبور على دورات القبول والاعتماد المكرّس في مؤسسات إعلامية كبرى ولّت ظهرها للموضوعية وللنّاس في خضمّ المذبحة المشهودة.

ينتمي وائل، وكان سينضمّ إليه ابنه الصحفي اليافع محمود لو كتبت له الحياة، إلى هذا النموذج الصحفي الملحميّ، الذي تكون فيه الصحافة سلاحًا لحماية حقيقة عزيزة جدًا، وشخصيّة جدًا، تمسّ مصير الصحفي وأقرب الناس إليه، والمكان الذي ترسّبت صوره المتبدّلة في ذاكرته، وحفظ تضاريسه عن ظهر قلب، ثم يصرّ رغم ذلك كلّه على حمايتها بذات المعايير التي استنكف عنها من تبجّحوا بوضعها، من موضوعية ودقة وإنسانية ومساءلة، وهو يعلم أنّه في ذلك يترجم حقيقة القهر المعاش في الأرض التي ينتمي إليها، ويلبّي تطلعات الناس فيها وآمالهم بالتحرر والكرامة والعدالة والاستقلال، ويذكّر بالسؤال الأساسي في زمن الإبادة الكاملة: ما الذي جعل دماء الفلسطينيين مستباحة؟