06-سبتمبر-2022
The Distinguished Citizen

من الفيلم

يجيء مفهوم الاغتراب ليعبّر -بشكل عام- عن تلك الحالة النفسية التي تُسيطر على الفرد فتجعله غريبًا وبعيدًا عن واقعه الاجتماعي، وفاقدًا تواصله مع واقعه المحيط نتيجة عجزه عن التلاؤم مع هذا الواقع، حيثُ يقوده ذلك إلى ترك واقعه ذاك والانكفاء السلبي على ذاته.

يقدم فيلم "The Distinguished Citizen" شخصية كاتب من أمريكا الجنوبية يعاني من اغتراب مركّب مع ذاته ومجتمعه

فيلم "المواطن المتميز" (The Distinguished Citizen) يأخذ مفهوم الاغتراب كثيمة أساسية له، ويُسلّط الضوء على مضامين هذا المفهوم في ضوء علاقته بالمثقف وأنماط الاغتراب المتعددة التي قد يُعاينها في ذاته.

يقدّم الفيلم من خلال بطله دانيال مانتوفاني نموذجًا لذلك المثقف الذي اغترب عن واقعه الاجتماعي مكانيًا، فكانت نتيجة اغترابه المكاني اغتراب آخر أصابه في مستويات اجتماعية إدراكية وذهنية.

والبطل دانيال مانتوفاني هو روائي وكاتب من بلدة أرجنتينية صغيرة تَقع في أمريكا الجنوبية وتُدعى سالاس، وقد غادر بلدته منذ أكثر من أربعين عامًا، ليعيش في مدينة برشلونة الإسبانية في أوروبا، وهو إن كان قد غادر بلدته في عمر مبكّر، إلا أنّها ظلّت حاضرة في كتاباته وروايته، فكلّ كتاباته وإنتاجاته الروائية هي بمثابة عودة ذاكرية إلى هذه البلدة، ومحاولة دائمة لاستحضارها والعيش فيها.

يُفتتح الفيلم بمشهد دانيال وهو يجلس في مقعد في كواليس إحدى القاعات، يتجهّز ليتلقى جائزة نوبل للآداب من الأكاديمية السويدية، ويبدو متجهمًا يرتدي بدلة رسمية بدون ربطة عنق، وما إن تدعوه مقدمة الحفل إلى التوجه من أجل تقديم كلمته حتى يُفاجئ الجميع بكلمة صادمة يقول فيها: "يعتريني شعوران مختلفان حيال تسلّم جائزة نوبل للآداب، من جهة أشعر بالإطراء، أشعر ببالغ الإطراء، لكن من جهة أخرى، وهذا هو الشعور المرّ الذي يطغى علي، أنا مقتنع بأن هذا النوع من التكريم الجماعي متعلق مباشرة وبلا أدنى شكّ، بانحدار مستوى الفنان، الجائزة تُثبت أنّ عملي يطيب لأذواق وحاجات، الحكام والمختصين والأكاديميين والملوك، من الواضح، أنني أنا الفنان الذي يضمن لكم الراحة الأكبر، وتلك الراحة لا علاقة لها بالروح التي يجب أن يصطبغ بها كلّ عمل فني، يفترض بالفنانين أن يُشكّكوا وأن يُذهلوا لذلك أشعر بالأسف على تقديسي الأخير بصفتي فنانًا، رغم ذلك فإنّ الشعور الأخير الطاغي هو الفخر المحض من قبيل النفاق يدفعني إلى أن أشكركم على تقرير نهاية مغامرتي الإبداعية".

ودانيال في كلمته السابقة يُعبّر عن صفته كمثقف نقدي وثوري، لا يُرضيه رضا السلطة -سواء الأكاديمية المؤسسية أو السياسية- عن أعماله، ويرى في هذا الرضا شكلًا من أشكال الموت المعنوي له كمثقّف خارج عن أطر السلطتين المؤسسية والسياسية، يسعى من خلال كتاباته لتأريق هاتين السلطتين وخلخلة قواعدهما.

ورغمَ الملامح الثورية التي انطوت عليها كلمة دانيال، إلا أنّه لم يمتلك الجرأة على رفض الجائزة بشكل صريح، فحاز عليها وتسلّمها وسط تصفيق حار من الجمهور على شجاعته في بثّ كلمته تلك.

يستكمل الفيلم بقية أحداثه بعد خمس سنوات من تلقي دانيال لجائزة نوبل، حين يتلقى دعوة من أهل بلدته سالاس لقضاء ثلاثة أيام فيها، وفعلًا يقبل دانيال هذه الدعوة ويتوجه إلى بلدته بعد أن غاب عنها أربعين عامًا.

وفي سرده لتفاصيل عودة دانيال إلى بلدته ينقسم الفيلم إلى أربع فصول تأتي عناوينها كالآتي: "دعوة"، و"سالاس"، و"إريني"، و"الصيد"

يُظهر الفيلم بدايةً تلك الحفاوة من أهل سالاس في استقباله، وتلك الحفلات التكريمية التي أقاموها على شرفه، ويُبيّن سعادة دانيال بما قابله من أهل بلدته، ومحاولته الاندماج التام في الفعاليات التي أعدوها من أجله.

تستمرّ سعادة دانيال، إلا أن تأتي لحظة صدامه الحقيقي مع أهل بلدته، وهذه اللحظة لا تأتي بشكل فجائي فهي نتيجة حوادث تراكمية تعرّض لها البطل على طول الفيلم وحاول أهل البلدة فيها استغلاله من أجل تقديم مساعدة مالية معينة لبعضهم (طلب أحد الأهالي منه تقديم مبلغ مالي من أجل شراء كرسي متحرك لابنه المصاب بالشلل)، أو الضغط عليه من أجل تبديل آراءه في مسابقة رسم محلية نُصّب فيها عضوًا في لجنة التحكيم، وطُلب منه تغيير حكمه لترجيح فوز لوحات أشخاص معينين لهم مكانتهم الاعتبارية وسطوتهم في البلدة.

بطل فيلم "The Distinguished Citizen" كائن متطفل يتغذى على ملامح التخلّف والوحشية في مجتمعه من أجل تأليف روايات ناجحة

تكون لحظة صدام دانيال مع أهالي بلدته هي اللحظة التي تتكشّف فيها أنماط اغترابه عنهم، ففي حفل إعلان نتائج مسابقة الرسم والتي تمّ التلاعب في نتائجها وتغييب رأيه الحقيقي عنها، وبعد تعرّضه لاعتداء نتيجة كشفه عن هذا التلاعب والتزوير، يقف دانيال مواجهًا أهل بلدته مخاطبًا إياهم بقوله: "أعترفُ بأنه يزعجني كثيرًا أن يكون لي ذامون يعادونني بمثل هذا العنف، بغضّ النظر عن الوحشية البالغة لهذه الافعال، يُخالجني شعور بالرضا الشخصي، عن الطريقة التي يعبر فيها هؤلاء الناس عن أنفسهم ضد ما هو قائم، وهو أنا، لكن لنتطرّق إلى المغزى، بصفتي مراقبًا مترددًا للكوميديا البشرية، أشعر بالمسؤولية اتجاه جعل هذا العالم مكانا أفضل وأقلّ فظاعة وأعرف أنها قضية خاسرة، لكنّ هذا لا يعني أني سأستلم عن القتال، واصلوا هكذا ابقوا كما أنتم لا تدعوا شيئًا يتغير هنا، واصلوا كونكم مجتمعًا منافقًا، وافخروا عن غباء بجهلكم ووحشيتكم.. واصلوا حيواتكم السالمة، واصلوا جعل من سالاس جنة محبوبة".

وكلمات دانيال السابقة تَعكِس عمق اغترابه الاجتماعي عن مجتمع بلدته وأفرادها، والمقصود بالاغتراب الاجتماعي شعور الفرد بعدم التفاعل بين ذاته وذوات الآخرين، وافتقاد المودة والألفة معهم وعدم إبداء التعاطف اتجاههم، فدانيال رغمَ تواجده الآني بين أهل بلدته، إلا أنّه يغترب عنهم في المستويات الاجتماعية الإدراكية، ويعجز عن فهم تصرفاتهم وكيفيات تعاطيهم مع المحيط من حولهم.

ودانيال الذي يستخدم تلك اللغة الاستعلائية في توجيه نقد لاذع لأهل بلدته متهمًا إياهم بالتخلّف والوحشية، يَظهر في خاتمة الفيلم في حفل توقيع كتاب جديد بعنوان "المواطن المتميز"، وهو كتاب يأتي في فصوله يحمل عناوين فصول الفيلم، استلهمه دانيال -كما هي عادته- من رحلة عودته القصيرة إلى بلدته الأم سالاس.

فكأنّ دانيال في الفيلم هو ذلك المثّقف الذي لا يُشكّل اغترابه الاجتماعي عن مجتمعه دافعًا له من أجل التحرّك نحو هذا المجتمع ومحاولة تغييره، وكأنّه ذلك المثقّف الذي يكتفي بأنْ يكون كائنًا متطفلًا يتغذى على ملامح التخلّف والوحشية في مجتمعه من أجل تأليف كتب وروايات وتحقيق نجاحات جديدة!