14-نوفمبر-2021

كاريكاتير لـ كيفان فارسي/ إيران

بصفتي قارئًا يكتب أحيانًا، ما زلت أغذي الأمل في أن يكون ما أقرأه، ما أحب قراءته على وجهي التحديد والتخصيص، ما زال قادرًا على التأثير في هذا العالم. الرجاء والأمل يبثان في نفسي شجاعة المضي قدمًا، ومحاولة المساهمة في إحداث تغيير. فأنا أيضًا يحق لي أن أتنطح إلى مثل هذا الدور. لكنني رغم فائض الأمل والشجاعة، أعرف جيدًا أننا كائنات منقرضة، وقد يكون ما نكتبه ليس أكثر من صدى لأصوات غابت أو هي تحلق في الأثير هائمة منذ أزمان وأزمان.

لو رفعنا الضرائب على الأغنياء فسنساهم في ردم قليل من الفجوة بين المداخيل، ونقطع شوطًا في معركتنا ضد التفاوت في الثروات

تقرأ لكتّاب البلاد المزدهرة، فيطالعك الحديث المكرر نفسه كل يوم: لو رفعنا الضرائب على الأغنياء فسنساهم في ردم قليل من الفجوة بين المداخيل، ونقطع شوطًا في معركتنا ضد التفاوت في الثروات. هذا ما كتبه بعض حاملي نوبل للاقتصاد منذ سنوات، وهذا ما يكررونه اليوم، وسوف يكررونه غدًا وبعده.

اقرأ/ي أيضًا: الفقراء الفائضون عن حاجة العالم

تقرأ لكتّاب من البلاد الآيلة إلى الاندثار، يطالعك الحكم التالي: سياسات القمع والتمييز، وانعدام الرؤية وتفاوت الفرص بين الناس، وانعدام الكفاءة في من هم في سدة الحكم، هي الأسباب التي جعلت هذه البلاد تسير نحو حتفها. هذا ما كتبه منذ سنوات كتّاب مخضرمون وجدد في هذه البلاد المذكورة، وما يكتبه اليوم من تبقى منهم خارج السجن أو المنفى أو القبر، وما سيكتبه من يأتي بعدهم غدا وبعده.

ما الذي يمكّننا ككتاب، وقراء، من إيجاد الحلقة الناقصة فلا نظل ندور في حلقة مفرغة من التكرار؟ في وسعي الزعم، أن دور المثقف إلى أفول. ليس لأنه لا يضطلع بوظيفته، فهناك الكثيرون ممن أنجزوا ما يفيض على قدرة جيل كامل. إنما لأن المتغيرات التي طرأت على الاجتماع والسياسة والاقتصاد أقصت هؤلاء من مرتبة طالب التغيير، ومراقبه، إلى مرتبة التكنوقراطي المأجور.

اليوم يمكن لأي كان أن يلاحظ أن "المدى العام"، تمييزًا له عن تعبير "الحيّز العام"، في المدن يتم رسمه وتشكيله بأيدي فنانين وأفكارهم. اللوحات الإعلانية، النوافذ والشرفات، حافات الطرق السريعة وأسوار الجسور، ثياب العابرين والعابرات وأجسامهم المنحوتة كما لو أنها من عمل نحات واحد، السيارات العابرة التي تكاد تبلغ درجة الكمال في هندستها. كل هذا وغيره كثير يعود الفضل فيه إلى فنانين ومشتغلين بالفن. إنما لا أحد يمكنه أن يجرؤ على تسمية هذه الأعمال فنونًا، وتعبر عن هموم أصحابها.  

وإذا انتقلنا إلى حيّز "الوعي العام" سنلاحظ أن الشاشات والصحف وحتى الأفلام السينمائية، تمتلئ حتى التخمة بالمتحزبين الذين يستحيل أن يضعوا أقدامهم في أحذية الآخرين على ما تقول العبارة الإنجليزية الشهيرة: في حمأة اشتداد ضراوة وباء كورونا، كانت شبكة CNN الأمريكية، تبلغنا كل يوم أننا سنموت جميعا بالوباء، لأن سياسات ترامب الجمهوري ليست رشيدة كما يعتقد القائمون على المحطة الذين ينتمون إلى الحزب الديمقراطي المنافس. والحال لم نمت جميعًا، ولم تكن سياسات ترامب رشيدة. أليس بالإمكان أن يكون الأمر على هذا النحو؟

الخاضعون للقوانين هم الذين أنعمت الدنيا عليهم بالثروة والسلطة، فيما الفقراء يعيشون في دساكر وأحياء لا يُخضعها القانون لسلطته عمدًا!

في بلادنا، كل المصائب التي تحل بتلك البلاد سببها مؤامرات المعارضة مع الخارج، على ما تقول السلطة، ويحدث أن المعارضة تقول القول نفسه إنما عن السلطة المتحكمة برقاب البشر. الطرفان في هذه المعادلة العالمثالثية، وفي المعادلة العالم أولية أيضًا، يقسمان العالم إلى فسطاطين، واحد خيّر وآخر شرير. وكل الخير يأتي من الفسطاط الأول، لكنه لا يعم على الناس لأن الفسطاط الثاني يعرقل وصوله.

اقرأ/ي أيضًا: ابني الذي يكره الكتب

أرجح الظن أن كل أطراف هذه المعادلة خرجوا إلى الأبد من لعبة السلطة. سلطة الدولة على مواطنيها اليوم أوهن بكثير مما كانت عليه سابقًا. القوانين الوضعية، في بلاد العالم المتقدم تعمل بالساعة، فتنام ليلًا وتصحو نهارًا، والأهم أن الخاضعين لها هم الذين أنعمت الدنيا عليهم بالثروة والسلطة، فيما الفقراء يعيشون في دساكر وأحياء لا يُخضعها القانون لسلطته عمدًا. ألا يشبه هذا التمييز القانوني ما ندعوه في بلادنا بالواسطة؟ حين تملك من المعارف ما يؤهلك لتدبير أمورك القانونية على أحسن وجه، تكون محظوظًا، وإلا فإنك لن تتمتع بالمساواة التي يفرضها القانون وستعاقب بالتمييز الواضح والصريح.

ثم، إن السلطة الحقيقية في كل مكان من العالم تقع خارج القانون أصلًا: إذا تنازع شخص مع مصرف، وحكمت المحكمة للشخص ضد المصرف، فإن المصرف لن يسجن أو تقفل أبوابه ويخسر زبائنه، لكن الشخص سيتعرض للسجن والإقصاء والتشهير إذا خسر الدعوى أمام المصرف. في الأصل لم يعد ثمة قانون عمومي ينظم أمورنا اليومية. كل سلعة نشتريها تخضع لعقد بيع واستخدام، وكل وظيفة نحصل عليها تخضع لعقد بين الموظف ورب عمله، ولا يحدث في أي حال من الأحوال، أن تكون شروط العقد لصالح الموظف أو الشاري أو المستخدم. دائما ثمة يد عليا للأقوى على من هم أضعف، حتى لو تكتلوا وثاروا وشكلوا أحزابا سياسية.

ومع أن هذه كلها مرئية ومعاينة، إلا أن الكتّاب والصحافيين والمشتغلين بالشأن العام، ما زالوا يخاطبون سلطة فقدت أذرعتها، ويطالبونها بتطبيق القانون العام وإخضاع الجميع لمنطقه المساوي، في وقت يكون مصدر الإجحاف والاستبعاد ومسببهما موجودا في مكان آخر.

إذا تنازع شخص مع مصرف، وحكمت المحكمة للشخص ضد المصرف، فإن المصرف لن يسجن أو تقفل أبوابه ويخسر زبائنه، لكن الشخص سيتعرض للسجن والإقصاء

هل نتقاعد؟ هذا سؤال حقيقي. ذلك أن أدواتنا لم تعد قادرة في ما يبدو على التأثير. وتحولت مع الوقت إلى مجرد مادة للاستهلاك، تعزز من ثروات من يستبعدوننا وسلطاتهم، وتجعلنا نبدو في أحسن الأحوال كمصممي اللوحات الإعلانية في شوارع المدن، نقنع الجمهور بفوائد القهوة ونحن نعاني من ضغط الدم.

اقرأ/ي أيضًا: سلطة الدولة المتآكلة وانحسار اليقين

الأجوبة ليست متيسرة. لكن ذلك لا يمنعني من التقرير بأن الوصفة اللينينية للعمل بالشأن العام ماتت ولن تعود. لم يعد نجاح العمل بالشأن العام يقتضي "إنشاء حزب، فجريدة حزب"، فسطوع نجم مثقفين ثوريين. كل هذه الوسائل باتت من الماضي، وعلينا أن نفتش على وسائلنا الجديدة التي لا تسمح لنا بالتحول إلى نجوم كلما اشتدت الأزمة. ونرتضي أن تكون مكافآتنا على أفكارنا بالرضى عن أنفسنا لأننا تنبأنا بتلك الكارثة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الشمولية كما أتقنتها الرأسمالية الليبرالية

الثورات المستحيلة