14-فبراير-2018

من الفيلم

"هذا الفيلم ليس له صلة بالواقع بل هو تخريفة من تخاريف المخرجين"، بهذه العبارة المألوفة يبدأ فيلم "البداية" بدايته، ليُدخلنا في عوالم لا مألوفة لحقيقة تسّلط الإنسان وقابليته للاستبعاد والعبودية.

يحتمل فيلم "البداية" عدة قراءات، ويُمكن تأويله بعدة طرق ومن عدة مداخل، وربّما أبرز هذه المداخل هي المدخل النفسي

هذا الفيلم الصادر عام 1986 من كتابة لينين الرملي وإخراج صلاح أبو سيف يُمكن اعتباره واحدًا من أهم الأفلام التي تَستَعرض مدى تعطّش النفس الإنسانية للسلطة والتسلّط من جهة، ومدى هشاشتها واستعدادها وجاهزيتها للاستعباد والعبودية الطوعية من جهة أُخرى.

اقرأ/ي أيضًا: الأمركة.. آفة السينما المصرية

يروي الفيلم قصة طائرة تعطّلت محركاتها وهي في الجو، وذلك بفعل الحرارة الشديدة في الصيف، فاضطر قائدها إلى الهبوط وسط الصحراء، وما لبثت أن انفجرت بعد خروج جميع الركاب منها. هؤلاء الركاب الذين لعبت المصادفة دورًا كبيرًا في إنقاذهم من قيظ الصحراء، فهبوط الطائرة كان في موقع قريب من واحة مليئة بالنخيل والماء، وقد كان عليهم السير بضعة كيلومترات للوصول إليها.

وبالفعل وبعد عناء وجهد كبيرين، نجح هؤلاء الركاب في الوصول إلى الواحة، وحاولوا في أيامهم الأولى إشعال النيران لجذب انتباه الطائرات الأخرى التي كانوا يرونها تُحلّق فوقهم، ودفعها إلى إنقاذهم، لكنّهم فشلوا في ذلك.

هنا وبعد تيقّنهم من أنّ إقامتهم في الواحة ستطول، كان عليهم أن يقيموا مجتمعهم الخاصّ، وأن يقوموا بتوزيع المهام والموارد فيما بينهم على أسس العدل والمساواة، لأنّ هذا هو الضامن الوحيد لبقائهم لأطول مدة ممكنة في هذه الواحة التي تحاصرها الصحراء من كافة الجهات.

من هذه النقطة تأتي رمزية عنوان الفيلم "البداية"، الذي يُشير إلى أنّ هؤلاء كان بإمكانهم أن يجعلوا من هذه الواحة بداية جديدة لهم، يقيمون فيها مجتمعهم الخاص ودولتهم الخاصة القائمة على مبادئ التشغيل العادل الذي تنتفي معه إمكانية الاستغلال، والمساواة في توزيع الثورة والموارد بحيث يحصل كلّ واحد منهم على حصص متساوية من مورديْ الواحة الأساسيين: الماء، والبلح النابت على شجر النخيل.

هذه البداية التي كانت حلم الراكب المثقف والفنان التشكيلي عادل صدقي (أحمد زكي)، الذي كان يحلم ضمن إطارها بإقامة مجتمع مثالي، يعيش فيه اثنا عشر شخصًا –منهم الصحافية والفلاح والراقصة والنجار والدكتورة ورجل الأعمال- حياة تعاون وانسجام، على الرغم من اختلاف بيئاتهم وأيديولوجياتهم وخلفياتهم الثقافية والمعرفية؛ هذه البداية قوّضها جشع المحامي ورجل الأعمال نبيه بيه الأزبوطلي (جميل راتب)، الذي سعى إلى فرض سيطرته على موارد الواحة والاستئثار بها، عبر إقامة نوع من أنواع الحكم الشمولي يستغلّ من خلاله الآخرين ويُسخّرهم لخدمته، حيثُ لم يُقابله ركاب الطائرة الآخرين بمحاولات جادة للمقاومة والثورة والوقوف في وجه مساعيه تلك.

كان يمكن لقيام الثورات العربية أن يكون بداية تأسيس لمجتمعات تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة

يحتمل فيلم "البداية" عدة قراءات، ويُمكن تأويله بعدة طرق ومن عدة مداخل، وربّما أبرز هذه المداخل هي المدخل النفسي أو السيكولوجي، فعبر هذا المدخل يُمكن قراءة الفيلم استنادًا إلى فكرتين أساسية حملهما متنه تتعلّقان ببواطن النفس الإنسانية وخفاياها؛ أولى الفكرتين هي مدى ما تحمله هذه النفس من نوازع للسيطرة والتحكّم والتسلّط (تمثّلها نفس المحامي ورجل الأعمال الشجع نبيه بيه الأزبوطلي)، وثانيهما هيَ مدى ما تحمله هذه النفس من قابلية للاستعباد والعبودية (تمثّلها أنفس بقية الركاب).

اقرأ/ي أيضًا: رضوان الكاشف.. قصة "فيلسوف" السينما المصرية

فيلم "البداية" الذي قدمه المخرج في البداية كتخريفة من تخريفاته، يختزل الكثير من الواقعية التي يُمكن قراءتها وملاحظة إسقاطاتها في كلّ زمان ومكان، حتى زمننا هذا، زمن الثورات والثورات المضادة، زمن الربيع العربي والانقلاب عليه، زمن أحلام الشباب بمجتمعات البداية التي تسود فيها قيم الحرية والعدالة والمساواة، وزمن تقويضها من قبل أصحاب الأنفس الجشعة، الذين ألفوا الاستبداد والاستعباد، واعتادوا العيش في ظلال الظلم والضيم والاضطهاد، فلم يكتفوا بتقويض هذه الأحلام، وإنّما اتهموها بالطوباوية والمثالية والبعد عن ملامح كلّ واقعية ممكنة.

انطلاقًا من معاينات زمننا، وعبر المدخل النفسي أو السيكولوجي، يُمكن قراءة مضامين الإسقاطات التي حملها فيلم "البداية"، بالتركيز على فكرة العبودية وقابلية النفس البشرية لها، بل واستمراء حالتها في بعض الأحيان، فقيام الثورات العربية ونجاحها في بعض الحالات في إسقاط الأنظمة الاستبدادية كان يُمكن أن يكون بداية فعلية لتأسيس مجتمعات تسودها قيم الحرية والعدالة والمساواة، وذلك لولا تدخّل أعداء هذه القيم ممن استمرؤوا حالة العبودية وألفوها من أجل تقويض الحلم بإقامة مثل هذه المجتمعات، ولسانُ حالهم يشي بأنّ قتلهم أهون عليهم من تحريرهم.

وإنّ هناك عبارة هي أكبر تمثيل على حالهم هذا تحمل في طياتها مفارقة واقعية عجيبة، حيثُ تقول في متنها:

"-هل تعرف كيفَ يُقتل العبد؟

-كيف؟

-بتحريره".

عندما يسألُك المتأمّل في العبارة السابقة، كيفَ لتحرير العبد أن يقتله؟ يمكنكَ أن تستذكر فيلم "البداية"، حيثُ اثنا عشر شخصًا شكّلت سقوط الطائرة لحظة تحرير وانعتاق حقيقي لهم من كلّ نظام تسلّطي كانوا يخضعون له، وكان يُمكن أن يجعلوا من هذه اللحظة بداية لشكل نظام ديمقراطي آخر قائم على قيم أُخرى، لولا استمراء نفوسهم لحالة العبودية واعتيادها، وهو ما سهّل على أحدهم مهمته في فرض السيطرة عليهم واستغلالهم واستعبادهم وتقويض كلّ بداية مأمولة لهم.

أسوأ ما في العبودية هو استمراء حالتها، هيَ في تحوّلها لعادة ونمط للعيش

لكَ أيضًا أن تستحضر إسقاطات الفيلم على واقعك الحالي، ثمّ تقول له ملء الفم، وجّه نظرك إلى أحداث العالم العربي التي جرّت في السنوات السبع الأخيرة وستجد الإجابة، فإذا ظلّ على جهله بالإجابة، لكَ أن تستطرد قائلًا: إنّ أسوأ ما في العبودية هو استمراء حالتها، هيَ في تحوّلها لعادة ونمط للعيش، بحيث تُصبح نظامًا اجتماعيًا سائدًا يعيشُ فيه المستَعبَدون في أريحية مُطلقة مستكينين إلى عبوديتهم وراضين بها، وتُصبح أيّ محاولة للتخلّص منها والخروج من أُطرها هي بمثابة القتل لأصحابها الذي عاشوا في ظلالها حتى ألفوها، وألفوها حتى اعتادوها، واعتادوها حتى صارت جزءًا من تكوينهم وبعضًا من تركيبهم. ولكَ أن تُتابع أيضًا: إنّ الحركة الاجتماعية التي برزت في السنوات السبع الأخيرة في العالم العربي على شكل ثورات –بغضّ النظر عن مسمياتها- كانت بمثابة محاولة ما لكسر نمطية هذا النظام الاجتماعي القائم على معادلة العبد والسيد بمضامينها المعاصرة، فالعبد هنا هو المواطن الخاضع الخانع الطائع لنظام أبوي سُلطوي مستبّد هو بمثابة السيّد، وإنّ هذه المحاولة قابلها أولئك الذين استمرؤوا العيش ضمن معادلة هذا النظام الاجتماعي بالتشكيك فيها وفي جدواها من الأساس، سواء برميها بتهم المؤامرة أو بمحاكمة نتائجها فقط من غير التوجّه إلى سياقاتها الكلّية، والوقوف منها موقف الناقد المستبصر الذي يرصد الإيجابي ويمرّ على السلبي ويُفنّد الخاطئ ولا ينسى الصحيح. إنّ النظرة السلبية الكلّية إلى هذه المحاولة لكسر نمط العبودية هذا هو أكبر دليل على استمراء حالتها، حيثُ تكون أيّ محاولة تحرّر منها هي بمثابة قتل لأصحابها الذين اعتادوا الظلم والضيم فيها طالما جلب لهم الاستقرار، ولم يعودوا يلمحوه، وأصبح لسان حالهم يقول: "قد تعيش النفوس في الضيم حتى لترى الضيم أنّها لا تُضام".

اقرأ/ي أيضًا: السينما المصرية.. شريط يروي حكاية قرن

بعدَ أن تستحضر الفيلم وإٍسقاطاته على واقعك، لكَ أن تتخيّل واجهة النهاية التي يتراجع فيها المخرج عن أقوال البداية، لكَ أن تقرأ في هذه الواجهة: "كان هدفي أن أقدّم لكم فيلمًا ليس له علاقة بالواقع.. ولكن الطبع يغلب التطبّع.. فإذا بالفيلم كما شاهدتموه يُصبِح واحدًا من أفلامي الواقعية.."؛ لكَ أن تقرأ هذا ثمّ تضحك كثيرًا لفرط التخريف أو الواقعية ربّما!

اقرأ/ي أيضًا:

كيف استخدمت الرمزية والإسقاط في السينما والدراما؟

فيلم "مولانا".. دعاية أم هداية؟