12-فبراير-2017

لقطة من الفيلم المصري حلاوة روح والمأخوذ من الفيلم الأجنبي مالينا

عندما حصل كاتبنا نجيب محفوظ على جائزة نوبل عام 1988 قال إن المحلية هي أصدق طريق للعالمية، وهذه بداية ضرورية للحديث عما ابتليت به السينما المصرية في سنواتها الأخيرة من ظاهرة ارتداء ثوب غير ثوبها، وبالأخص الرداء الأمريكي، بكل ما يحمله من أسلحة وذخيرة وأفكار غائمة وغريبة لا يهدف به سوى التعصّب للذبح والقتل والدماء، ولا ينتج عنه سوى العنف والجريمة والدمار.

وبدلًا من أن نعبّر عن واقعنا المرير والمشحون بمئات القضايا والأفكار والموضوعات والأطروحات والآراء التي تصلح بالضرورة للتصوير والعرض وللتقدير في مهرجانات الدنيا بأسرها، أصبحنا نستنسخ كآلات تصوير المستندات نماذجهم وقضاياهم وعنفهم غير المبرر مع خلق الله وننقله على شرائط السينما لمجتمعاتنا، التي ليست بالضرورة نقية ومليئة بالتسامح ولكنها بالتأكيد لديها مشكلات وقضايا مُلِحّة تختلف تمامًا عما تروّجه السينما الأمريكية وتيارها الرئيسي تحديدًا، بحجة أن "الجمهور عايز كده"، والجمهور منهم براء.

إن الشخصيات المجرمة أو الأشرار والخارجين عن القانون هي دومًا شخصيات جذابة، لأنها تلهب الخيال ومن ثم تقوي الصراع بين الخير والشر

وما القضية سوى موضة تتبعها هوجة من المنتجين بتأييد ومباركة المؤلفين والمخرجين والنجوم لعمل سينما تصرّ على أن تخاصم قضايا مجتمعاتنا، لأنها ببساطة أفلام أمريكية المصدر ومستنسخة بعناوين مصرية، بل ويزيد عليها فبركة مصرية لعدوانية أمريكية متأصلة لا يدفع ثمنها سوى شبابنا المتلقّي والذي يشكِّل بالفعل الغالبية العظمى لجمهور السينما المصري.

وللحقيقة، فإن قضية محاكاة السينما الأمريكية ليست قضية مصرية فحسب، بل حاولت السينما في بلاد أخرى غيرنا استنساخها بأشكال مختلفة حتى تجذب المشاهد عندها لصالات العرض، رغم ضعف إمكاناتها إذا ما قورنت بالإمكانات الأمريكية الهائلة، ومعظمها وقع في نفس الخطأ الذي نقع فيه الآن، وهو أن مظاهر العنف والقتل والانتقام وكافة الأساليب العدوانية الأخرى تختلف من مجتمع لآخر. ولذلك اكتشفوا مبكرًا أن النموذج أو النمط الأمريكي لا يصلح لمجتمعاتهم لسبب بسيط وهو أنه خاص بالمجتمع الأمريكي، حيث نرى فيه كثيرًا من الافتعال والمبالغة في التعامل مع الماديات يصل إلى حد التطرف إزاء المصالح الشخصية التي تعلو دومًا على أية مصالح أخرى، حتى ولو كانت غير شائعة بهذا الشكل عند كل الأمريكيين ولكنها سياسة صناعة السينما عندهم وقد اعتادت على هذا التصور، وقبله جمهورها كما قبله صانعوها، فسالت الدماء المهدرة مدرارًا على شاشات السينما، بل ويرى بعض علماء النفس والاجتماع أنها سالت أيضًا في المجتمعات الأخرى، بتأثير من هذه النوعية من الأفلام.

اقرأ/ي أيضًا: "A Monster Calls" وفانتازيا الحكايات غير التقليدية

وسواء اتفقنا مع هذا الرأي أو اختلفنا معه، إلا أنه ما زال يلقى صدى وقبولًا لدى الباحثين ولدى العامة، لما أصبح فيه من تهديد حقيقي على بعض "النفوس الضعيفة" التي يمكن لها أن تتأثر بصور العنف المادي والجسدي وجرائم الضرب والاغتصاب والجرح والقتل، التي يهوى صناع الأفلام عندنا نقلها وبلا وعي وبأمركة مباشرة فاضحة جاءت لتتفق والمزاج العام للفبركة التي يحلو للبعض من "تجار السينما" العيش منها وعليها!

وحتى نكون منصفين ونقرأ الصورة من كافة أوجهها وزواياها، يرى المحترفون من السينمائيين أن الشخصيات المجرمة أو الأشرار والخارجين عن القانون هي دومًا شخصيات جذابة، لأنها تلهب الخيال ومن ثم تقوّي الصراع بين الخير والشر في الدراما، وأن أنجح الأفلام في العالم كله هي تلك التي تضمنت شخصيات من هذه النوعية التي تظهر وكأنها خارقة للعادة بل وأحيانًا يلعب أدوارها رياضيون حقيقيون أمثال سلفستر ستالوني وآرنولد شوارزنجر وجاكي شان وغيرهم، لذلك حققت أفلامهم نجاحًا جماهيريًا مذهلًا بصرف النظر عن نجاحها الفني.

 إن الاستسهال بل والاستهبال أيضًا، هو آفة الدراما السينمائية عندنا لأن صناعها يغفلون المرحلة العمرية للمتلقي في مجتمعنا

لكن حتى هذا الرأي رغم ما يمكن أن نحمل عليه بعض التحفظات، إلا أنه في النهاية يعبّر، أيًا كانت قوة التعبير أو ضعفه، عن سلوك مجتمعها الذي نشأت وترعرعت فيه بل واستمدت قوتها وطغيانها من ثقافته وسياساته وسلوكياته ونظمه المختلفة، أما عندنا فالأمر مختلف، حيث يصعب على المشاهد المصري مثلًا أن يرى بطلًا أو حتى شريرًا في فيلم مصري -أو عربي- يتصرف كما يتصرف ستالوني مثلًا في أفلامه أو شوارزنجر في خيالاته أو حتى يرى مارلون براندو في صورة رب أسرة مصرية، يفعل ما فعله هو وأولاده مثلًا في "الأب الروحي".

 بل زادت المشكلة عن هذا الحد في الآونة الأخيرة بزيادة مشاهد طلقات الرصاص المنهمرة على الطرقات (مع أن رصاصة واحدة تكفي لموت الشخص) ومشاهدالتعذيب الجسدي البشع، والقتل العشوائي المرير، وانتهاك الحرمات بوحشية، وكلها أشياء تُنقل حرفيًا وبالمسطرة من أفلامهم العنيفة إلى أفلامنا ومسلسلاتنا الجديدة، وكأن مجتمعنا يتشابه مع مجتمعهم في نفس الخصائص ونفس السلوكيات، مع التسليم بأنها أيضًا قد تكون صورة مبالِغة في ما تقدمه ولكن السواد الأعظم من المتلقّين عندهم أعجبتهم هذه الصورة واعتادوا عليها، فلماذا نمشي على نفس الدرب فقط لأن كثيرين أعجبهم ذلك الكوكتيل الدموي العنيف المتبل بالجنس والفضائح؟

اقرأ/ي أيضًا: نسخة جديدة من فيلم "سكارفيس" يخرجها الأخوان كوين

 إن الاستسهال بل والاستهبال أيضًا، هو آفة الدراما السينمائية عندنا لأن صناعها يغفلون المرحلة العمرية للمتلقي في مجتمعنا. فالصبية والمراهقون والشباب صغير السن هم الفئات الأكثر تمثيلًا في جمهور السينما المصري، وهؤلاء يمثّلون صيدًا سهل الوقوع في شبكة التضليل والتشويش بتقديم نماذج له لا تمت إلى الحقيقة بصلة برغم ادعاء صانعيها غير ذلك، وهي نماذج كما أشرنا تملك جاذبية بسبب جاذبية أبطالها ونجومها الشبان، ولكنها جاذبية تعتمد على البغي والعنف والعدوان مما يرسّخ هذه الصورة على أنها المثلى لهذا البطل، لذلك يحدث تلقائيًا نوع من التعاطف مع المعتدي أو المجرم ويتمنّون انتصاره دائمًا!

السينما الأمريكية نفسها لها بعد اقتصادي وسياسي وعقائدي، ومن يقرأ أفلامهم يدرك هذا المعنى المغلّف دومًا بسحر نجومها ونجماتها

 والمصيبة الأكبر تكمن في استخدام وسائل متعددة لهذا العنف بحيث لا يقتصر على السلوك المرسوم دراميًا للشخصية وإنما يمتد إلى طرافة الممثل أو النجم ذاته، فيزيد عليها بالكلمات الخارجة وبالسبّ والقذف وطرق التحدي والتهديد والوعيد والاستفزاز والصراخ والصياح، بل وبالمشاهد الحرّيفة والجنسية أيضًا، وهو بالطبع أسلوب من أساليب الفبركة الخشنة الهدف منه التغطية على ضعف التقنيات، وقلة حيلة الناسخ حيال المنسوخ عنه من شرائط الأمركة الجاهزة دون إحساس بخطورة هذا الفعل من أساسه على النشء الذي يعتاد هذا النمط كما اعتاده الجمهور الغربي، ويظل أهم ما يلتقطه من هذه الشرائط هو ميله لحب الإجرام الذي يلقّنه له نجمه المحبوب على الشاشة فيحوز إعجابه، بل ويتمنى أن يقلده (هل يمكن لأحد إغفال تأثير جماهيرية فنان شاب مثل محمد رمضان -بأدواره العنيفة- على جيل كامل من الشباب والمراهقين؟).

 إن الأفلام في العالم كله لم تعد للتسلية المجردة وإضاعة الوقت كما يحلو لصناع السينما عندنا ترديده، فالسينما الأمريكية نفسها لها بعد اقتصادي وسياسي وعقائدي، ومن يقرأ أفلامهم جيدًا يدرك هذا المعنى المغلّف دومًا بسحر نجومها ونجماتها، وبراعة الصورة والمنظر، وليس هذا الكلام من ملحقات أحاديث المؤامرة الرائجة في بلاد عدم القدرة على الفعل، ولكنه مرتبط بشروط وظروف اجتماعية وجيو-سياسية تتوفّر في الحالة الأمريكية، أي لايوجد شيء عبثي واعتباطي إلا عندنا للأسف الشديد، ويظل غياب الوعي بأهمية هذه الصناعة ودورها ومراميها وأهدافها هو آفة السينما عندنا.

اقرأ/ي أيضًا:

فيلم "Split": الحياة بـ24 شخصية
"Land of Mine".. حروب الدنمارك التي أغفلها التاريخ