03-ديسمبر-2016

صورة من الفيلم

لم تجنِ السينما الجزائرية من المشهد الفرنسي لقبًا أهمَّ أو موازيًا، للسّعفة الذهبية التي افتكّها فيلم "سنوات الجمر" للخضر حامينة عام 1975، ويراهن كثيرون على فيلم البئر للطفي بوشوشي، 1964، وكاتب السيناريو ياسن محمد بلحاج، لافتكاك أوسكار في الدورة الـ89 لـ"جوائز الأسكار"، معتمدين على عدد الجوائز التي حصدها، منذ ظهوره مطلع عام 2014، منها الجائزة الكبرى لـ"مهرجان الفيلم المغاربي" بالمغرب، وجائزة أفضل مخرج وممثلة وسيناريو في "مهرجان الإسكندرية"، وعلى الجماليات التي اشتغل عليها، في مختلف العناصر المشكلة للفيلم.

المحتلّ الذي جاء أرضًا غير أرضه "ليزرع الحضارة فيها"، ليس إلا عرّابًا من عرّابي الموت والخراب

تدور أحداث الفيلم، 96 دقيقة، في قرية جزائرية خلت من الرجال، بسبب التحاقهم بصفوف الثوّار في الجبال، خلال خمسينيات القرن العشرين، فلم يبقَ فيها إلا النساء والأطفال، دلالة على أنهم رمز الاستمرار والحفاظ على ذاكرة القرية، وفعلًا، فقد برعوا في تسيير يومياتهم، وملء الفراغات التي تركها الرجال، وهو المعطى الذي استفزّ الفرنسيين، فعملوا على محاصرة القرية، بصفتها خيارًا يحسنه المحتلّون عبر التاريخ.

اقرأ/ي أيضًا: "ميموزا".. صوفية إسبانية على أرض مغربية

لقد ذهب بوشوشي إلى قلب المعادلة، فظهر المحاصِرون المدجّجون بالأسلحة والأغذية، خائفين ومهتزّين نفسيًا، في مقابل ثقة عميقة كان المحاصَرون يتحرّكون وفقها، رغم شحّ الغذاء وشروع مخازن الماء في النفاد، وهي لحظة صعبة تبرمج النفس البشرية على كثير من الأسئلة المتعلقة بالمصير.

كان تفكير الفرنسيين متوجهًا إلى أن يقتلوا هؤلاء قتلًا بطيئًا، حتى يخلو لهم وجه الأرض، وكان تفكير أهل القرية متوجهًا إلى أن يحيوا، فليس مسموحًا لهم بأن يموتوا، ذلك أن الموت هنا، يصبح في حكم خيانة الأرض، وهو السلاح المعنوي الذي ظهر أقوى من الأسلحة الفتّاكة التي في أيدي الجنود الفرنسيين.

نفد الماء، فنفقت الماشية مصدر الطعام، وعطشت القرية، حتى تشققت جلود الأطفال، ولم يبقَ أمام النساء إلا اتخاذ قرار أن يقتحمن البئر المحاصرة، وهي الخطوة التي تتطلّب شجاعة أسطورية، تقفز على جميع دواعي الخوف، ذلك أن البئر هنا، أصبحت تحيل على الموت أكثر من إحالتها على الحياة.

لم يدر المشاهد وكذلك أهل القرية، هل الخطوات إلى البئر ستفضي إلى ملء الدّلاء بالماء، فينجو الإنسان، أم تملأ بالدم فيهلك، وهي من أعمق اللحظات الإنسانية في الفيلم وأصعبها، وأكثرها دلالة على التشبّث بالأرض والحياة، تمامًا كما كان إطلاق الفرنسيين الرّصاصَ على النساء والأطفال، دلالة على أن المحتلّ الذي جاء أرضًا غير أرضه "ليزرع الحضارة فيها"، ليس إلا عرّابًا من عرّابي الموت والخراب.

لقد اعترف المخرج نفسه، بأنه لم يتعب في برمجة وجوه الممثلين والممثلات، على التعابير الواجبة، خوفًا وحزنًا وتردّدًا وأملًا وتأمّلًا، ذلك أنها خضعت عفويًا للحالات الإنسانية العميقة، وتمثلت المعاناة التي عاشها آباؤها وأجدادها في ثورة لم تحظَ بأعمال فنية ترقى إلى أبعادها الأسطورية.

اقرأ/ي أيضًا: أليسيا فيكاندر: الألم الذي يمكنك احتماله يتغيّر

هنا، علينا الانتباه إلى معطيين جديدين كرّسهما الفيلم، وكانا عاملين حاسمين في إنجاحه، الاستثمار في الطفولة لتمرير الرسائل الإنسانية، إذ فرضت نخبة الأطفال المشاركة في الفيلم نفسَها إلى جانب نخبة الممثلين الكبار، مثل لوران مورال ونادية قاسي، والابتعاد عن ثقافة البطل الواحد التي اعتمدتها الأفلام الثورية السابقة.

خروج المخرج لطفي بوشوشي بثورة التحرير الجزائرية من معركة الرصاص إلى معركة الإحساس، منح فيلم البئر عمقًا إنسانيًا لم يتوفر لسابقيه

رغبة كثير من الأفلام التي اشتغلت على ثورة التحرير سابقًا، في أن تُظهر التضامن الشعبي مع الثوّار، وقعت من غير أن تدري، في مغالطات تجنّبها فيلم "البئر"، منها أن الطعام كان متوفرًا للجزائريين، من خلال التركيز على اللحظات التي كان يتسلّم فيها الثوّارُ الطعامَ من العائلات، وأن المرأة لم تكن سوى خلفية للثورة، ولم تساهم فيها إلا بصفتها ظلًّا للرجل.

إن خروج لطفي بوشوشي بثورة التحرير الجزائرية من معركة الرصاص إلى معركة الإحساس، منح "بئره" عمقًا إنسانيًا لم يتوفر لسابقيه، وكشف عن جوانب أخرى من معاناة الإنسان والمكان، كان السينمائيون والكتّاب والمؤرخون يطمسونها، بذهابهم إلى اللحظات العسكرية في هذه الثورة، تماشيًا مع رؤية سياسية كان العسكريون هم الحاكمون فيها، على مدار سنوات الاستقلال الوطني.

اقرأ/ي أيضًا:
وخز الجروح القديمة في فيلم "متاهة الأكاذيب"
"علي ونينو": روميو وجولييت في أذربيجان