21-مايو-2019

من الفيلم (IMDB)

الذاكرة والتاريخ الشخصي، الطفولة والماضي، ليست مجرد مفردات في عالم المخرج الإسباني بيدرو ألمودوفار، بل هي سؤاله الحقيقي الذي كان وما زال يدفعه نحو السينما. على الرغم من حضور كل تلك التفاصيل في كل فيلم من أفلامه، إلّا أن تلك الذاكرة حضرت بكل ثقلها في فيلمه الأخير "ألم ومجد" (Dolor y Gloria) الذي عرض للمرة الأولى في رابع أيام "مهرجان كان السينمائي" لهذا العام.

الذاكرة والتاريخ الشخصي ليست مجرد مفردات في عالم المخرج الإسباني ألمودوفار، بل هي سؤاله الحقيقي الذي كان وما زال يدفعه نحو السينما

من السهل معرفة موضوع الفيلم الجديد، بعد ما تم تداوله أن ألمودوفار سيقدم فيلمًا من نوع الفيلموغرافيا، السيرة الذاتية، بل أيضًا يمكن ملاحظة ذلك بالوقوف عند بوستر الفيلم ذاته، وهنا أود الاعتراف بأن بوستر أيّ فيلم لألمودوفار هو مدخل لفهم الشخصيات، أذكر منها، تحدث إليها، وأفلامه الأشهر كل شيء عن أمي وفولفير، وفيلمه العشرون خوليتا. هناك دائمًا شخصية واحدة أو اثنتين وغالبًا شخصية أنثوية نتعرف عليها من خلال البوستر، الذي يأخذ شكل بورتريه لتلك الشخصية، لندخل إلى عوالمها وصراعاتها في الفيلم. هنا لم تحضر الأنثى الألمودوفارية، وتكاد تكون غائبة من فيلمه هذا، إلًا أن الممثل الإسباني أنطونيو بانديراس الذي سيقوم بأداء دور ألمودوفار سيحمل كل العبء الميلودرامي لمجمل شخصيات ألمودوفار النسائية، عبر تقديم شخصية ألمودوفار نفسه في مراحل معينة من مسيرته. على الأقل هذه الصورة الذهنية التي يقدمها لنا البوستر ذو اللون الأحمر الغامق، أحد ألوان ألمودوفار المميزة، هو المعروف بحبه للألوان والنارية منها على وجه الخصوص. ظل بانديراس المنعكس بصورة ألمودوفار سيحمل جملة من التشابهات بين الاثنين، وهذا يبرر اختيار المخرج لهذا الممثل بالتحديد بعد أخر تعاون لهما معًا في فيلم العشاق العابرون والذي لم يلقى نجاحًا أو أيّ انتباه.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "خوليتا".. رحلة الصمت والقدرية

يعود اليوم ألمودوفار بعد فيلمه الأخير خوليتا، ومن خلال مهرجان كان الذي يقدر هذا المخرج كل التقدير، يعود ليحكي حكاية مختلفة، بالضرورة للمرأة تأثير كبير فيها، كيف لا وهو المخرج الأقدر على رؤية عالم النساء وتقديم صورة خاصة عنه، باعتراف ممثلاته ومحبيّه. ستمر السيرة الذاتية لهذا المخرج عبر الصورة النسائية وستمر الأخيرة عبر السيرة بالضرورة، لا يمكن الوقوف عند هذا المخرج دون التأمل في فكره النسويّ وتأثير تلك النسويّة على شخصيته، كما أن ألمودوفار حاضر وحكايته الشخصية، في كل أفلامه وفي كل شخصياتها، امرأة أو مثليّ الجنس، ترانس أو طفل صغير، سيكون هذين المكونين أحد أهم جوانب ذلك العالم. هذا متوقع، فقد تربى ألمودوفار بين النساء في مجتمع أبوي متدين، وحالهم كحال العائلات الفقيرة التي يغيب فيها الأب بسبب عمله وتتحمل الأم مشقة تربية الأولاد، كل ذلك نراه نتفًا صغيرة في شخصياته ونراه حاضر بشكل كبير في موضوع الفيلم الأخير.

من ألم نحو المجد

"ألم ومجد" عنوان يأخذنا إلى القلق الخاص بالمخرج سلفادور مالو الذي يلعب دوره الممثل أنطونيو بانديراس، الفيلم أشبه بصورة شخصية ولكنها غير مكتملة وهذا مقصود. نتابع الشخصية خلال محطات من حاضرها الذي تميزه التفاتة إلى الوراء، يعود المخرج إلى أعماله التي لم يتصالح معها، وإلى شخصيات منقطع عنها تمامًا، مع استعادة محطات معينة من ماضيه، يمكن تسميته فيلم ألمودوفاري عن ألمودوفار، أو بورتريه شخصي من وجهة نظر صاحبه، وكأنه فان كوخ حين رسم نفسه، لذلك هو ليس مثل بقية أفلام السيرة الذاتية التي يصورها فنان على أبواب السبعينات من العمر عن تجربته، هو أشبه بحكاية عن تأثير الألم الجسدي على الأفكار والخيارات الشخصية، وأشبه بعبور وانتقال من المادة إلى الفكرة، تأثير ذلك العطب الجسدي على الألم النفسي، والذي أخذ شكل القلق الدائم والحزن وكأنها صفات ملازمة للشخصية.

نُغمر خلال مشهد الافتتاح في حوض سباحة، يظهر لنا رجل بندبة بارزة على نصف جسده العلوي، منقطع الأنفاس، راقد في وضعية قد تبدو مريحة لشخص يعاني من ألام حادة تمنعه من الحركة، كأن الجسد صار أداة هائلة الحجم رُميت في الماء وشكلت اهتزازات ثم سكنت وسكن معها حال الماء، هكذا يظهر الألم في الفيلم والمعبر عنه في هذا المشهد بإتقان وعذوبة، طبقات من الألم المخفية في جسد رجل لا يظهر منها إلى محاولته كتم أنفاسه، وكأن الفيلم يحضرنا لاكتشاف ذلك الألم الذي يحرك فعل الشخصية.

يعاني سلفادور من آلام في ظهره، وألم أخرى في النفس لها علاقة مباشرة بتاريخه الشخصي وعلاقته مع أمه، إذا يستذكر المخرج في لقطات فلاش بلاك طفولته وعلاقته بأمه إثر غياب الأب شبه الدائم، والدته التي تلعب دورها الممثلة الأقرب لقلب ألمودوفار بينلوبي كروز، امرأة متعبة جسديًا ونفسيًا ولكنها تتحرك بسرعة ورشاقة، نشعر بذلك العبء المرمي على كاهلها في المراقبة الدائمة والانشغال بشؤون الطفل، وقد لا تختلف هذه الأم عن سيدة الحي كما يسمي محبيّ ألمودوفار أمه الحقيقية سينيورا باكيتا، والتي لها ثقلها الواضح على شخصية الأم في فيلم ألم ومجد، بل يمكننا الافتراض أن باكيتا هي إحدى عناصر هذا الفيلم الأساسية. يعكس ذلك تأثيرها على الفيلم وفي حياته الخاصة.

يعود بنا ألمودوفار إلى مدينته الصغيرة ولكن لا تفاصيل تشي بأنها لا مونتشا بلدته والدون كيشوت، التي تربى فيها مع أمه وتركها لاحقًا

يعود بنا ألمودوفار إلى مدينته الصغيرة ولكن لا تفاصيل تشي بأنها لا مونتشا (La Mancha) بلدته والدون كيشوت، التي تربى فيها مع أمه وتركها لاحقًا في السبعينيات متوجهًا نحو عالم آخر ينتظر في مدريد.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "صمت الآخرين".. صرخة في وجه الحرب والاستبداد

يسلط الفيلم الضوء على الألم ويخفيه في أنٍ معًا، إحساس بالألم موجود على الدوام، ولكن مسكوت عنه، في حاضر الشخصية وماضيها، في الحكاية الشخصية والتكوين الجسدي. تنتج عنه مشاعر حزن عميقة، هي مكون أساسي لفهم الشخصية.

 ألمودوفار بين بينيلوبي كروز وأنطونيو بانديراس

الجدير بالذكر في الفيلم، هو تلك العلاقة الخفية بين موضوع الألم وفكرة المجد، لا أمجاد شخصية أو مهنية يتحدث عنها الفيلم، ولا يمكن أن نلاحظ أيّ مظهر من مظاهر النجاح وتحقيق الأمجاد المعروفة والمتوقعة. المجد كفكرة كامنة في تلك الاستعادة لأحداث الطفولة وإعادة التعرف على الذات، تحقيق المصالحة عبر الاعتراف الذي يمر عبر التذكر، وليس أيّ نوع من التذكر، التذكر الدقيق وإعادة إحياء اللحظات، ومن ثم التغلب على الحكاية الشخصية برويها وتصويرها. فالمجد بالنسبة لألمودوفار وكما قدمه في الفيلم، مرتبط بمستوى الاعتراف والتقبل وإعادة المحاكاة.

الوصول إلى الذاكرة يتم عبر المحاكاة الفنية

من غير الممكن التحكم بالذاكرة الشخصية بشكلٍ كليّ، لذلك جاء التعبير الفني عنها في الفيلم خير وسيلة لمحاولة الظفر بكل تلك التساؤلات والوقوف عند مسببات هذا الألم المكتوم. يحكي ألمودوفار حكايته عبر أنواع فنية مختلفة، في البداية نعود مع الذكر الطفل إلى كورال المدرسة الكاثوليكية، سرعان ما يسأم منه، تاركًا الغناء وكل عوالم الالتزام والانضباط في ذلك المكان. ننتقل إلى حكاية اكتشافه للرغبة الأولى المتمثلة في المرة الأولى التي رأى فيها جسد إنسان عاري، وكأن مفهوم الرغبة في عقل ألمودوفار الطفل اختزلته تلك اللحظة التي شاهد فيها العامل الأميّ، العابر مصادفةً، والذي عقدت معه الأم اتفاقية بأن يساعدها في ترميم البيت مقابل أن يعلمه سلفادور القراءة والكتابة. هذه الدروس ستؤثر بشكلٍ عميق في فهم الطفل سلفادور لمفهوم الأخر والجسد، وستحفر للفن مكانًا على قدر كبير من الأهمية، حين يتعرف سلفادور المخرج على تلك الذاكرة من خلال لوحة رسمها العامل المتأثر بشخصية الطفل الذي يملك ما لم يقدر عليه هو، ملكة القراءة والكتابة.

وعن طريق مونولوج مسرحي بعنوان إدمان، يتحدث عن الانفصال بين حبيبين، يتزامن ذلك مع اختبار الشخصية في الفيلم للمخدرات، والتي تؤمن لعقله استعادة دقيقة للذكريات. يؤدي ذلك المونولوج ممثل وحيد على الخشبة بخلفية بيضاء حيادية، هو الممثل الذي لم يتصالح معه المخرج إلاّ بعد ثلاثون عامًا مضى على أخر عملٍ لهما معًا. يحضر تلك المسرحية الحبيب السابق لسلفادور الذي يلعب دوره الممثل الأرجنتيني ليوناردو سابراغليا، القادم من بوينس أيريس وصادف وجوده عرض مونولوج كُتب له، هذا ما يدفعه لشد رحاله لمقابلة الماضي في مشاهد اختار لها ألمودوفار ألوانًا دافئة ولقطات ثابتة.

بين ألمودوفار وبانديراس إجابات مباشرة مرة ومخفية مرة أخرى في روح الأول والحضور الجسدي للآخر

يصور لنا فيها سلفادور وعشيقه في لحظة الحاضر المشبعة بروح الماضي. وبذلك قادت تلك المسرحية للتعرف على الحب في حياة سلفادور، كما قادتنا للتعرف على اللحظة الأولى التي خلقت فيها الرغبة في عالم الطفل، من خلال لوحة فنية عادت إليه بعد مرور وقت طويل. ليصبح اسم الرغبة الأولى هو اسم الفيلم الذي يصوره المخرج القلق سلفادور مالو، حين وجد بأن الطريقة الوحيدة لإخماد ذلك الألم، هو التعامل معه عن طريق سيرته الذاتية. وهكذا عبر مكاشفات مترابطة بين الشخصي والفني، يفكك ألمودوفار سيرته مستندًا على عناصر تشبهه.

اقرأ/ي أيضًا: سباستيان ليليو لـ"ألترا صوت": وضعت الشخصية المنبوذة في المركز

لم يتنكر ألمودوفار لذاكرته المهنية أيضًا، فالموسيقي الإسباني البرتو اجلسيوس فرننديز، ما زال جزءًا لا يتجزأ من تكوينها، لذلك حضر مجددًا في خلفية موسيقية لأحداث الفيلم، فهو الأقدر على ترجمة الميلودراما وتحويلها إلى نغمات، سبق وتعامل مع ألمودوفار مصممًا له عوالم موسيقية على قياس ألم شخصياته وطباعها.

وهذا ينطبق أيضًا على التعاون الدائم بين ألمودوفار والسينماتوغرافي جوسيه لويس ألكاين، والذي لا يمكن أن تكتمل الصورة بدونه، كساحر يخلق أجواء الفيلم الفنية التي يعرفها كل محبيّ عالم ألمودوفار.

في ثيمة فيلم داخل فيلم، نكتشف الثنائيات حقيقي ومتخيل، إنكار ومصالحة، ضعف وقوة، في فيلمٍ عن مخرج يمنعه الألم من العمل، يقدمه مخرج يحاول التصالح مع ماضيه المشبع بالألم. بين ألمودوفار وبانديراس إجابات مباشرة مرة ومخفية مرة أخرى في روح الأول والحضور الجسدي للآخر، تأتينا على شكل لقطات ملونة، وتقنيات لجأ إليها ألمودوفار للوقوف بين الفيلم والحياة، بين ما هو واقع ومتخيل، والطريقة التي يمكن فيها للألم أن يصنع المجد. ختامًا، فيلم بيدرو ألمودوفار الأخير هو فيلم سيرة ذاتية، ولكن في صيغة مختلفة عن المعهود وتعبيرات جديدة متعلقة بهذا النوع، وهذا ما يجعله مختلفًا عن غيره من أفلام السيرة الذاتية، وعن بقية أفلام ألمودوفار.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أنطونيو بانديراس: الجماعة أقوى من الفرد في مواجهة التحرش الجنسي

خافيير بارديم: للشر جاذبيته