05-فبراير-2017

صورة تعبيرية لمحاضر جامعي (Getty)

لا أدري كيف كنت أكتب من قبل؟ كلّ أسبوع أشعر أنّي أقف على هاوية عظيمة تفصلني عن آخر شيء كتبته. هي أيّام معدودة فقط، أكاد لا أستطيع استجماع صورة لها تساعدني على كتابة شيء هنا. الهوّة تتّسع كل أسبوع، وليس ثمّة ما أمسك به. إنّها الكلمات، تمشي للوراء، كلّها. هذا ما علّمنيه صديق صوماليّ في الأمس. وهذا ما أحاول أن أفعله، أحاول اللحاق بها فتسبقني إلى الخلف في كلّ مرّة.

كنت أريد أن أتحدّث في المرّة الماضية عن حاجتنا للوقوف عند الكلمات اليوميّة. في الأسبوع الماضي، حاولت أن أراقب استخدام من حولي لكلمة "عظيم". نحن البشر نرتكب جرائم يوميّة بحقّ لغاتنا.

في كلّ سنة، لا بدّ أن تفجع بخبر يتعلّق بطلّابك، إن كنت قد وقعت في الفخّ وأحببتهم

كيف يمكن لشيء "عظيم" أن يكون يوميًّا؟ هل فكّرت يومًا في معرفة عدد المرات التي تسمع بها "عظيم" وأنت مع مديرك، وزملائك في العمل، أو زوجتك البعيدة عنك آلاف الأميال أثناء حديثك معها على "سكايب". مللت هذه الكلمات، لا أستطيع أن أسمعها دون أن تصيبني بوخزة في أذنيّ.

ما آخر أمرٍ "عظيم" فعلته؟ حقًّا؟ لا شيء يا صديقي. ما آخر رواية "عظيمة" قرأتها (يسألني آخر)، فلم أجد سوى الصمت. ما الشيء "العظيم" الذي ستفعله في عطلة نهاية الأسبوع؟ لا شيء. لا شيء. لا شيء.

أتدري لم كلّ هذا الانزعاج اليوم؟ أدركت للتوّ أنّ التعليم مهنة محزنة. تجاوز عن كون التعليم واحدًا من بين أكثر المهن المسبّبة للاكتئاب. هذا أمر آخر تناقشه مع طبيبك النفسيّ إن رأيت حاجة لذلك. ولكنّها مهنة الأحزان، لأنّها وظيفة لا معنىً لها إلّا بتلك الرابطة التي تنشأ بين الأستاذ وطلبته، سواء رغب الأستاذ في ذلك أم لا.

اقرأ/ي أيضًا: فنلندا.. التعليم قبل الماء أحيانًا

عملت أربع سنوات في الجامعة، وفي كلّ سنة كنت أحاول أن أكون ... مثل مورغان ديكستر: أن لا أرتبط بأيّ واحد منهم، وأن أدرّس محاضراتي وأخرج فورًا وأنسى صورهم وأسماءهم تمامًا. لست قويًّا إلى هذه الدرجة. كيف سأحتمل صور كلّ الطلّاب وحكاياتهم؟ كنت أفشل في كلّ مرّة، وفي كل سنة تصبح لديّ علاقة وثيقة جدًّا مع الطلّاب. وهذا أوّل أسباب اكتئاب الأستاذ.

في كلّ سنة، لا بدّ أن تفجع بخبر يتعلّق بطلّابك، إن كنت قد وقعت في الفخّ وأحببتهم. في السنة الأولى توفّي أحد الطلّاب، وكنت بعيدًا ولم أستطع أن أشارك في جنازته ولا الحديث مع عائلته. في السنة الثانية، طالبة أخرى انسحبت من البرنامج لأنّها أصيبت بالسرطان، في الثالثة، طالب آخر فقد أبويه، في السنة ذاتها تعرّض لحادث سير كاد يصيبه بالشلل، وفي الرابعة تعود للوراء قليلًا لتجد أنّ تلك الطالبة قد قضت وتوفّيت بسبب المرض. العيش مع الطلّاب ومعرفة شؤونهم وصفة جاهزة للحزن المقيم.

ما آخر أمرٍ "عظيم" فعلته؟ حقًّا؟ لا شيء يا صديقي. ما آخر رواية "عظيمة" قرأتها (يسألني آخر)، فلم أجد سوى الصمت

لقد كانت ذكيّة حقًّا، اسمها كبرى. وجهها أبيض كالثلج، نقلوها فجأة للمستشفى، ولم تعد إلّا زائرة بوجه منتقع بالصفار ولكنّه مليء بالبهجة والأمل بأيّام أفضل. استقبلناها يومها وهي مريضة تكاد لا تقوى على السير. كانت سعيدة حقًّا حين عادت لمقعدها الذي كان يفترض أن تمضي به أعوامًا أربعة مليئة بالنشاط والضحك والسعادة.

كنت أرى في عينيها سنوات أربعة كانت تحلم بها منذ طفولتها، كأنّها كانت وهي في القاعة لا تنظر إلينا، وإنّما كانت محاولتها الأخيرة لتنثر أمامها ما كان سيكون من أيّامٍ لها في الجامعة. كانت كبرى تريد أن تترك شيئًا من روحها هناك وتذهب.

أخبرني صديق آخر أنّ تشيخوف كان يرى أنّ أفظع الأشياء قاطبة هي أن يعمّر الأب بعد ابنه. لكن ماذا عن الأستاذ الثلاثينيّ يا تشيخوف الذي تلاحقه أحزان طلّابه وأخبار موتهم؟
الرحمة والنور لك يا كبرى.

اقرأ/ي أيضًا:
برزخ بين حياتين
اللاجئ السوري والحق في التعليم