08-أكتوبر-2023
فلسطين

أحيت المقاومة أملًا قديمًا بالتحرّر الكامل (Getty)

"ها أنا أنهض من قاع الأساطير وألعب

مثل دوريّ على الأرض.. وأشرب 

من سحاب عالق في ذيل زيتون ونخلٍ

ها أنا أشتمّ أحبابي وأهلي" 

محمود درويش/خارج من الأسطورة  

 

حين سألوا محمد علي كلاي مرّة عمّا إذا كان يفكّر باحتمال تعرّضه للهزيمة من أحد خصومه، جاء جوابه السريع الحاضر: "يستحيل أن أحلم حتى بمجرّد التفكير بذلك". هذا تقريبًا ما يتكّرر في ذهني منذ صباح الأمس، عقب توغّل المقاومة الفلسطينية في العمق الإسرائيلي، في ظرف ماحقٍ من التردّي العربي وجولات التطبيع الثنائي المجّاني، وحالة التخلّي المحبطة عن قضيّة الخصم فيها متجبّر ومرغوب في جبروته وعربدته، وضحاياه هم نحن، جميعًا، على اعتبار أن الاحتلال بذرة مسمومة تمنع أي خير وكرامة عن العرب جميعًا. حتّى الحلم بدا مستحيلًا. 

ثم حصل ما حصل فجر السبت. البعض قالوا، وقد مال لهذا من مالوا، إنها مغامرة سريعة عابرة، وأنها "حرب بلا فائدة" وأنها دليل على جديد على "جناية" المقاومة على الفلسطينيين وحرمانهم من الأمل، وليس ذلك إلا لأنها هدرٌ لفرصة التطبيع مع إسرائيل، بحسب كاتب في صحيفة عربية معروفة، وأنها عملية تحصل دون اتكاء على "هدف إستراتيجي"، بخلاف مخططات التطبيع الرسمي الحصيفة كما يدّعي الرجل. 

حصل ما حصل، وكُتب ما كتب، قبل أن تتجلى الصورة الكاملة لحجم ونطاق العملية التي أطلقت عليها المقاومة الفلسطينية اسم "طوفان الأقصى"، وهي تسمية لافتة في ذاتها، وكأن الفلسطيني يقول إن الأزمة في أرضه ليست حتميّة طبيعية، وأن ثمة تغييرًا في "المناخ" القائم على هذه الأرض المحتلّة يلزمه التغيير، وأن طوفانًا من فعل البشر، في هذا السياق المقهور، معاكسًا لاتجاهه المألوف، قد يحيي الأرض ومن عليها من جديد. ثم انقضت عدّة ساعات، تناقلت وسائل الإعلام جزءًا مما حدث في مستوطنات غلاف قطاع غزّة، وحجم الدمار في الأراضي المسلوبة جراء قصف المقاومة، وأن عددًا معتبرًا من الأسرى الإسرائيليين في قبضة المقاومة.

لكن الحكاية، على غرابتها الصاعقة، لم تقف عند هذا الحدّ. هجمات موثقة على معسكرات إسرائيلية ونقاط مراقبة، ووقع في أسر "كتائب القسام" "أضعاف أضعاف" ما أعلن عنه الاحتلال، ثم استمرّت "اشتباكات ضارية" في عدد المستوطنات، تخللها عمليات إسناد لم تنقطع للمقاتلين هناك، مع استمرار الرشقات الصاروخية التي طاولت كل إسرائيل. 

تواترت الحكايات والتفاصيل والأرقام، والمقاطع التي نشرها إعلام المقاومة، والبيانات الإعلامية، والفيديوهات لفلسطينيين يغنمون ما كان مسلوبًا منهم، والشباب الذين يرفعون أعلام فلسطين في بضع عواصم ومدن عربيّة، ثم جنّ جنون العالم: من بايدن حتى زيلنسكي، وبدأت حمّى الاتصالات والوساطات، وأغلقت المعابر والحدود، وتوقفت حركة الطيران إلى "إسرائيل"، وجرى الاعتراف بأكبر إخفاق استخباري أمني في تاريخ دولة الاحتلال، يفوق نسبيًا بالطبع، وبأضعاف عديدة، ما حصل قبل خمسين عامًا في حرب أكتوبر عام 1973، بالنظر إلى التقدّم التقني الهائل الذي تتبجّح به إسرائيل وتصدّر شرّه إلينا. ثم بدت الدول الكبرى وقد شّلها الغضب، وعاجزة كما جرت عليها العادة، على إعمال الموضوعيّة في المحلّ الذي يليق بها، والاعتراف بأن مليوني إنسان يستحقون العيش بكرامة وحريّة، وأن السجّان الإسرائيلي الذي فرض حصاره الغاشم على كلّ هذه الروح الفلسطينية التي ولدت حرّة، وتحصّن فوق قوّته العسكرية، بحصانة من التطبيع والتنسيق الأمني والعربدة العالميّة، لا يمكن أن يتحصّن، رغم بطشه، إلى الأبد.

أطفال فلسطينيون

تواترت الحكايات والتفاصيل، ورغم مغبّة التكرار والكليشيه، إلا أنه ينبغي إضافة "بكل ما تعنيه الكلمة من معنى" هنا. فإنجازات المقاومة في "طوفان الأقصى" لم تكن لتصدّق لولا أنّها تواترت، ونقلها جمع من الناس يمتنع اجتماعهم على الكذب والفبركة والتضليل، كما يمكن أن يفعل جهاز إعلام حربيّ لدولة تضخّم نصرًا ما (كعادة أنظمة الاستبداد)، أو كما يمكن أن نتخوّف في عصر "الترند" ومنطق منصات التواصل والفبركات الإعلامية الممنهجة التي تعتمد على الحسابات الآلية والذباب الإلكتروني.

النصر بدا حقيقيًا جدًا في هذه الجولة من المقاومة، وملموسًا جدًا (آليات عسكرية في شوارع القطاع، عدد كبير من الأسرى باعتراف الاحتلال، شلل كامل في الكيان، تضامن عربي شعبيّ كامل رغم صعوبة الأحوال). ومع ذلك، فإن ما صدّقه الناس وما رسخ في وعيهم منه قد فاقَ ذلك، وهذا من أهمّ ما سينجم عن هذه المعركة في مفاعيلها المستقبلية القريبة. فلقد صدّقنا في "طوفان الأقصى" بعد طول تكذيب وحرمان من مجرّد الحلم، أن التحرير ليس غير وارد كما قيل، وأن الكرامة قريبة، وأن التمسّك بالقضيّة وعدالتها في سياق هذا الصراع الطويل غير العادل، سيظل هو الحلّ الوحيد والمعقول، وأن استمرار المساومة على هذا المبدأ محض عبث في ظل الظروف المستحيلة التي خلقتها إسرائيل على الأرض، والتي جعلت عواصم عربيّة تتنافس على التطبيع معها، بلا تسويةٍ ولو شبه عادلة وبدون مقابل أو تحفّظات، ومع قفز يكاد يكون ايديولوجيًا على كل اعتبار أخلاقي وإنساني.

تفعل المقاومة في "طوفان الأقصى" اليوم، مثلما فعلت الثورات العربية عام 2011 قبل الانقلاب عليها ووأدها والثورة ضدّها، حين بدا العرب جميعًا على قلب واحد ضد الاحتلال وضد الاستبداد معًا، وضدّ التطبيع معهما معًا، وحين تعلّمنا في شوارع القاهرة وبغداد وبيروت وتونس، أن الاستبداد صنو التطبيع، وأن الرأي العام العربي كلّه مع فلسطين، مثلما أنه مع كرامة كلّ عربي أينما كان، وأن النضال ضدّ الاحتلال سيستدعي دومًا وبالضرورة النضال ضدّ كل قمع وعسف في السلطة.