11-أكتوبر-2023
غزة تحت القصف العنيف، صور بعدسة يحيى حسونه

غزة تحت القصف العنيف (تصوير يحيى حسونه)

حتى الآن لا أستطيع إدراك سبب التركيز على خطابات بايدن والشلة التي تحكم أوروبا والمملكة المتحدة عندما يتعلق الأمر بالتحرر والتخلص من نير الاستعمار، ففي يومنا هذا بإمكان أي شخص أكان متعلمًا أو أميًّا التنبؤ بمحتوى خطاباتهم بدقة قد تتجاوز 95 %، ومع ذلك استثمرت وسائل الإعلام العربية في الأيام الأخيرة الكثير من الجهد والوقت في عرض خطاباتهم وتحليلها والتعليق عليها وعلى أثرها، وهي فعليًا لم تأت بجديد منذ 75 عامًا! فلماذا علينا أن نهتم أو نتفاجأ بتحصيل حاصل؟ 

مهما تنطعت النظم الغربية الحاكمة بمفاهيم الحرية والديمقراطية، فإرث الاستعمار ما زال متجذرًا فيها على جميع المستويات، مديمًا العقلية الاستعمارية الفوقية البيضاء، ومعطيًا الأولوية دائمًا وأبدًا لمصالح الغرب الاقتصادية والسياسية وأحيانًا العقائدية. ويتجلى هذا النفاق الغربي في أقذر صوره عندما يتعلق الأمر بحركات التحرر حول العالم، وعلى رأسها حركة التحرر الفلسطينية، ولا تخجل النظم الحاكمة الغربية من التأكيد على استمرار ازدواجية المعايير التي تستخدمها الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والاتحاد الأوروبي في سياستهم الخارجية.

عند أية محاولة لفهم هذا النفاق الغربي في رد الفعل تجاه حركات التحرر حول العالم، أكانت سلمية مثل الثورات ضد دمى الغرب من الحكام المستبدين في أرجاء الأرض، أو عسكرية ضد المحتل؛ يجب أن ننظر عميقًا في إرث الاستعمار الغربي العنصري، الذي ما زال متأصلًا في العديد من هذه الدول التي تمتلك تاريخًا مظلمًا من الحكم الاستعماري، تاريخًا ليس ببعيد يتميز بالاستغلال والاستعباد والسلب وتجريد الإنسان غير الأبيض من إنسانيته، وتبرير أي ظلم تجاهه كما يحدث في فلسطين الآن.

ما زالت العقلية الغربية البيضاء تبرر لنفسها هذا الفكر الاستعماري وما ينتج عنه من أفعال وقرارات تضر بشعوب بأكملها باسم التقدم والحضارة والرخاء الاقتصادي

وما زالت العقلية الغربية البيضاء تبرر لنفسها هذا الفكر الاستعماري وما ينتج عنه من أفعال وقرارات تضر بشعوب بأكملها باسم التقدم والحضارة والرخاء الاقتصادي. واستخدمت مصطلح عقلية بيضاء بدل رجل أبيض، لأن بعضهم هذه الأيام قد يمتلك لون بشرة أو جنس مختلف ومع ذلك يحاول تقمص الظل الذكوري الغربي الأبيض.

بايدن وأمثاله لا يخفون أنهم لا يرون سوى التفوق في القيم والحضارة الغربيتين، مع أنهم مجرد مجموعة من العنصريين لا يرون سوى تفوق الرجل الأبيض الغربي الغني. والغريب هو أن هذه القيم الغربية في لحظة وسياق محددين من السهل جدًا أن تصبح ضبابية غير واضحة، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن المتابع للمجتمع الغربي يرى انقسامًا متزايدًا عند الحديث عن منظومة القيم والأخلاق، انقسام وشرخ يتسع مع مرور الأيام.  ومع ذلك فإن هذه العقلية الاستعمارية أثرت ولا تزال تؤثر على ردود الفعل الغربية على حركات التحرر.

وكأنه لم يكن كافيًا أن تلعب المصالح الاقتصادية والسياسية دورًا محوريًا في تشكيل ردود الفعل الغربية، فبتنا نرى أن العقائد المختلة لبعض الحكام الغربيين باتت هي الأخرى محركًا لمحاولة سحق أية محاولة تحرر أيًا كانت حول العالم.

ولكن لو تجاوزنا بوش الابن وأمثاله فإن السعي وراء الموارد الاقتصادية والمحافظة على النفوذ السياسي والسيطرة العسكرية للغرب الأبيض غالبًا ما تكون المحرك الأساسي، ولهذه الأهداف الأسبقية على حقوق أي إنسان بما فيها الحق في تقرير المصير، وهذا ما نراه مع المحتل الصهيوني في فلسطين، وفرنسا في إفريقيا، والولايات المتحدة حول العالم. لقد دعمت الدول الغربية وما زالت، في كثير من السياقات، الدكتاتوريات والاحتلالات إذا كانت تتوافق مع مصالحها، مما يؤكد على نفاقها وعدم التزامها بالديمقراطية والحرية والحفاظ على حقوق الإنسان، ودائمًا ما تتناقض أفعالهم مع ما يحاولون الترويج له.

وعلينا ألا ننسى أن لدى كل من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة تاريخًا معاصرًا أسود وطويلًا في دعم الأنظمة الاستبدادية عندما يناسب ذلك مصالحهم. ولم تتردد القوى الغربية في التدخل عسكريًا في بعض المناطق بحجة تعزيز الديمقراطية الزائفة، في حين أبدت إحجامها عن القيام بذلك في مناطق أخرى حيث تكون مبادئ مماثلة على المحك، وعلى الرغم من التزامها المعلن بالقانون الدولي، فقد دعمت القوى الغربية تاريخيًا احتلال الصهاينة لفلسطين، ولم تظهر أي إرادة حقيقية للتحرك ضد الاحتلال وجرائمه المستمرة.

إن النفاق الغربي تجاه حركات التحرر يشكل قضية معقدة متجذرة بعمق في الموروثات التاريخية، والعنصرية الغربية، والمصالح الاقتصادية، والعقلية الاستعمارية المستمرة ليومنا هذا. ولطالما استخدمت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، باعتبارهم فاعلين مؤثرين على الساحة العالمية، معايير مزدوجة عندما يتعلق الأمر بتعزيز الحرية والديمقراطية، وغالبًا ما أعطوا الأولوية للمكاسب السياسية والاقتصادية وحتى المرجعية الايدولوجية. وللاستجابة لهذا النفاق ومحاولة معالجته، يجب على المجتمع الدولي أن يستمر في مساءلة الدول الغربية عن أفعالها، في حين يعمل أيضًا على تعزيز نظام عالمي متعدد الأقطاب أكثر عدلًا وإنصافًا، يحترم حقوق جميع الشعوب، بغض النظر عن موقعها أو تراثها.