24-ديسمبر-2016

أنقذ الآلاف من الموت وهم على طريق اللجوء في البحر (nurphoto)

ينقل هذا التحقيق، شهادة مكتوبة للاجئ فلسطيني-سوري، حول مرارة الحرب والحدود، ويحاول في نصه نقل تجارب حيّة، بعد عبور البحر في "بلم" النجاة وصولًا إلى "كامب" للاجئين، وحواراته مع بعض اللاجئين الفلسطينيين السوريين، ومشاعرهم المنهوبة، في أحد المخيمات في ألمانيا بعد نجاتهم من الموت على طريق اللجوء.

 

عند الخروج من دمشق التقينا بالمهربة. أقسمت أنها أرسلت ابنها مع نفس الشخص الذي سيأخذنا معه إلى حلب. السيارة مؤمنة منذ الخروج من دمشق حتى مخيم النيرب، ومن هناك إلى تركيا بعد يوم واحد لا أكثر. وهي ستذهب معنا إلى جسر جبلة. وصلنا في الصباح، ترافقنا المرأة، وإذا بـ"ميكروباص" أسود ينتظرنا، وسيقلنا ولن تكمل معنا الطريق إلى جسر جبلة. في الرحلة، اتصلت بي وقالت لا تخبر السائق أن وجهتكم حلب فهو لا يعرف. لقد كنا فئران تجارب لطريق تهريب جديد.

على شاطئ اليونان قال لي جندي من حرس الحدود أنت الآن بأمان من قاد بكم "البلم"، وأعتقد أن الجميع يعرف ما هو البلم. "خير اللهم اجعله خير". ليس كابوسًا فحسب بل هو مجموعة من الكوابيس كل كابوس من جنسية أما نحن الفلسطينيين القادمين من سوريا فقد كنا الربع تمامًا. كنا عشرة من أصل أربعين مهاجرًا إلى العدم. فقدنا كل شيء، حتى لباسنا الداخلي متذكرين حرس سجن أريحا بذاك المشهد المخزي لكنه المعبر عن حال الفلسطيني تمامًا. فليس هناك من يحميه وقد فقد كل شيء. فلا وطن يعود إليه ولا سلطة تحميه ولا فصائل قادرة أن تكون سنده في وجه الموت أو الطرد من بيته ولا حتى من الاعتقال التعسفي دون محاكمة أو دون مكان معروف.

معاناة الفلسطينيين-السوريين مضاعفة في رحلات اللجوء هربًا من نيران الحرب في سوريا

" من أين أنتم من سوريا؟"، كان يتكلم العربية. وقد بدأت الكلام معه بالإنجليزية لكني عندما قلت له from syria قال من أين أنتم قلت من دمشق. نظر إلي وقال: من أين بالضبط؟، قلت له من أين وما المناطق المحيطة. قلت كذا وكذا وأنا بالضبط أسكن في مخيم كذا.

"اه فلسطيني من أين من فلسطين؟"، أجيبه: من العبسية من قضاء صفد.

 ومن معك؟

 فأشرت إلى من معي. فقال ادخلوا هذه هجرتكم الأخيرة. هنا ستأخذون جواز سفر وإقامة فأوروبا هي الآن ملاذكم ابتسمت وقلت لكنها ليست وطننا. فأجاب مازحًا: "بلا حكي فاضي. هنا على الأقل يوجد قانون واحترام للبشر". وكأن الدم يحن في الكامب يوجهك قلبك إلى الفلسطيني. نعم لقلب الفلسطيني مجسات استشعار يعرف الفلسطيني عن بعد مخيم ومن ملامح العذاب في الأرض.

 من أي مخيم أنت؟، أجابني من اليرموك خيا. من أين؟، من جرمانا حبوبي.

 يبتسمون ويحملون همًا لا حدود له. يهمس في أذني هذه هجرتي الرابعة أو الخامسة لم أعد أحصيها. ويسأل: ومن استقبلكم هنا؟، استقبلتنا الكاريتاس والصليب الأحمر والشرطة الألمانية وبعدها الجيش الألماني إلى أن وصلنا إلى هذا الكامب. استغربت فأنا أعرف أن هناك لجان للجاليات الفلسطينية وفروع لها في كل بلد وما إلى هناك لكنه قال لم يستقبلنا أحد. لم يأت أحد كي يقول لنا مرحبا الحمد لله على سلامتكم. يبدو أنهم مثل السلطة أو المنظمات الفلسطينية كل يشد باتجاه تنظيمه ولا يوجد بوصلة لهم سوى بعض الاعتصامات أو التجمعات أو لا حيلة لهم لكني أحس أن لا ناقة ولا جمل لهم بنا.

أقرأ/ي أيضًا: إنصافًا "للموقف الفلسطيني" سوريًا

 هي الحرقة التي تأكل القلب فالفلسطينيون أبعد ما يكونون عن تشكيل جالية حقيقية هنا فمن أتى هنا يحمل في قلبه الكثير من الشوك حتى إنك تكاد تشاهد نتوءها ظاهرًا من خلال ثيابه أو تسمع قطرات الأسى وهي تتساقط من ثقوب جسده حين انتزع الشوك بيديه العاريتين.

 لا شيء هنا وقد بات الأوروبيون يحسون أن هناك من يريد أن يشكل جمعيات خيرية كي تأخذ أموالا باسم اللاجئين، كما كانوا يفعلون هناك. لكن ما يؤلم حقًا أن هذه الهجرة كرست الانتماء للمخيم. فحين تسأل الفلسطيني هنا من أين أنت يجيبك أنا من مخيم اليرموك، أو من خان الشيح أو من مخيم جرمانا أو النيرب أو أو ... في حين كنت تسأله وهو في سوريا كان يجيب أنا من لوبية أو الطيرة أو العابسية أو الصالحية لكنه يستطرد أريد العودة إلى المخيم وكأن المخيم هو وجهتنا إلى فلسطين. فهو المعبر والطريق حتى في لا وعي الفلسطيني هنا المخيم هو ملجأه، وحق عودته الآني.

لا أحد هنا ممن كان يعتقد أنهم سيقفون معه ويسندون صلبه الذي يكاد يتداعى وقف بجانبه. فهذه البلاد تروض الخيول الجامحة وتربطها بساقية العمل من الصباح إلى المساء وتجعل منها آلة روتينية تعمل وتتوقف بساعة محددة. وقد جاء دورك كي تكون نواسًا ينوس في مكانه المرسوم له ولا أحد سينقذك أو يجعلك تخل بهذا التوازن بين نقطتي النواس كي لا تنفلت عقارب الساعة فهم هنا يعطونك ما تسد به حاجتك ويقومون بإلهائك بنشاطات زائفة وليس لها مغزى أو معنى لتجد نفسك رويدًا رويدًا وأنت تذهب إلى اللاشيء. نعم هو الطريق إلى لاشيء. هنا لا يريد الفلسطيني اللاجئ حديثًا من اللاجئ القديم إلا أن يقول له أنا هنا ولنحافظ على كينونتنا فهو لا يريد مالًا ولا لباسًا ولا أي مساعدة من هذا القبيل فهو يملك قوت يومه وهناك من يساعده على البقاء، لكن كي يذيبك تمامًا وكي تنسى تحت وطأة وضعك الجديد ما كنته من صاحب قضية نبيلة وحق تحفظه لك كل الشرائع والقوانين. الفلسطيني في أوروبا لم يجد ابن بلده (بلود) في انتظاره، يبدو أن بلود بقي هناك إما جائعًا أو محاصرًا أو معتقلًا وإما جالسًا على الطريق أو عند شاطئ ما ينتظر أن يعود. فهو لم ييأس بعد ولم يعرف بيت أبيه الخيزران الحديث كي يرميه على قارعة البلم في طريقه إلى اللاشيء.

يروي ناجون فلسطينيون-سوريون من الموت تجاربهم بعد عبورهم البحر وصولًا إلى مخيمات أوروبا

تقول لي (ح)، أنا لاجئة فلسطينية من سوريا خريجة جامعة دمشق بشهادة عليا ولدي عملي الخاص خرجت من سوريا مع أختي وابنة أختي الصغيرة كي تقوم هذه الصغيرة بلم شمل عائلتها. بعنا كل شيء كي نهرب من الحرب. فسوريا أصبحت مكانًا خطرًا على الفلسطيني من المعارضة ومن الحكومة فهذا يقول لنا أنتم حماس وذاك يقول أنتم قيادة عامة.

بداية تم تهريبنا إلى القامشلي، عبر مطار دمشق لأن الحكومة السورية تمنع خروج الفلسطيني بشكل نظامي من سوريا بناء على طلب من القيادة الفلسطينية. بعد وصولنا إلى القامشلي لم نستطع العبور عن طريق عين عرب، لأن البشمركة منعتنا من العبور إلى تركيا. فتم تغيير الطريق خربة الجوز وكان طريقًا طويلًا صعبًا، فيه من الخطورة ما تجفل منه القلوب فداعش تريد المحرم والخمار وتفتش عن الدخان وغيرها الكثير من الحواجز بالإضافة للتضاريس الصعبة في خربة الجوز. فهي وادٍ يليه جبل، وقد قام المهرب بجري وسحلي ولم أصدق أني عبرت إلى تركيا وأنا على قيد الحياة.

وتضيف: في أزمير التركية شهدنا الكثير من العذاب والسرقة وإرجاعنا إلى الساحل التركي مرتين بعدما قطعنا ما يقارب نصف المسافة في البحر، وفي آخر مرة وضع المهرب في البلم 60 شخصًا وهو يتسع لـ 35 كحد أقصى ولم نصدق وصولنا إلى جزيرة متيليني، وبعد ذلك كان كل شيء أسهل من رحلة الموت هذه.

وعندما حدثني (م.ح) وهو لاجئ من مخيم اليرموك، قال: "بعد خسارتنا لكل شيء في اليرموك استدنت من أقاربنا كي أهرب من هذا الجحيم. على الرغم من أني أعرف أن هناك من غرق في البحر أو قتل على الحدود التركية لكن هنا موت وهناك موت وقد أنجو. وبالفعل وصلت إلى حلب بعد أن سرقني المهربون أكثر من مرة. عبرت إلى تركيا فاليونان وبقيت فيها شهرين لأن الحدود كانت مغلقة. وبعد ذلك مشينا ستة أيام في مقدونيا وبعدها إلى صربيا فهنغاريا حيث تم تهديدنا بالقتل إن لم نعطهم بصمتنا فأعطيناهم بصمتنا وأكملنا طريقنا إلى ألمانيا.

أما اللاجئ الفلسطيني من مخيم جرمانا (أ.ق)، فقال لي: "اتصلنا برجل من أجل تهريبنا فإذا به في المخيم وهو من قرية اللزازة قضاء صفد. يسكن في الزاهرة وهو في المخيم. لأن عرسه في نفس اليوم قلنا له نؤجل حديثنا لبعد زفافك فقال كم واحد أنتم قلنا عشرة قال أي 800 ألف ليرة سورية، حصتي منكم بـ"لا عرس بلا بطيخ". لكن لم نتفق معه فقررنا اللجوء إلى مهرب آخر. وكانت رحلتنا صعبة جدًا في البحر. بقينا سبع ساعات في المياه إلى أن جاء خفر السواحل اليوناني وقادنا إلى الشاطئ. بعد ذلك عبرت بنا فرق الصليب الأحمر إلى ألمانيا مرورًا بمقدونيا صربيا سلوفينيا النمسا فألمانيا".

اقرأ/ي أيضًا: طلب انتساب إلى مخيم اليرموك

أما (ق.ح)، فقال لي: "حاولت الخروج عن طريق القامشلي وفشلت. وعن طريق حلب وأعادتني الحواجز لأني فلسطيني وممنوع من المغادرة. وبعد تجربة أكثر من مهرب ركبنا سيارة ضباط من الجيش السوري حيث عبرنا إلى حلب. عدنا من بعدها إلى إدلب. عبرنا إلى تركيا وبقينا هناك مدة شهر نحن ننتظر في أزمير، وعندما جاء وقت الصعود في البلم كان المهرب قد وعدنا أننا لن نكون أكثر من 20، فإذا بنا 38 شخصًا، لكن من حسن حظنا أن البحر كان هادئًا ولم تكن هناك مشاكل في وصولنا إلى اليونان. لكن بعد ذلك تعرضنا لهجوم من قبل لصوص وكنا قد اشترينا دراجات هوائية للمرور عبر الحدود حيث ركبناها أربعة ايام، حتى حدود صربيا. أخذنا أحد الشيوخ كي نبيت في الجامع ومن بعدها توجهنا إلى هنغاريا، حيث هاجمنا اللصوص كما أسلفت. لكننا كنا مجموعة كبيرة فلم يتمكنوا منا حيث كانت رحلتنا بالمجمل عن طريق الغابات والمهربون كانوا عراقيين ومغاربة. وكان المهرب العراقي أمهرهم، فقد أخذنا مباشرة من بودابست إلى ألمانيا. لم نتوقف في الطريق نهائيًا".

 أما الشاب (ع.د) فقد كان طريقه مختلفًا، فقد ذهب إلى الجزائر ومن ثم إلى المغرب فمليلة وكانت أسوأ أيامه في الكامب في إسبانيا. حيث مكث شهرين قبل أن يعطوه ورقة للخروج من الكامب كي يعبر إلى ألمانيا عن طريق فرنسا. أما من جاء عن طريق ليبيا فقد كانت مأساته مريعة، حيث بقي في غرفة لمدة شهر وممنوع من الخروج منها وعندما حان وقت صعودهم في المركب أطلق الليبيون عليهم الرصاص، وبعضهم بقي في مركب بحري، إلى حين أنقذهم الإيطاليون.

 وتصف لي لاجئة فلسطينية ذهبت إلى مصر أن المهربين سلموهم لمهرب في الإسكندرية وقام هذا المهرب بمصادرة جميع أغراضهم الشخصية، خوفًا من أن يتصلوا بأحد. قام بإطعامهم وجبة واحدة في اليوم لمدة 25 يومًا، وهو يحتجزهم في غرفة وكانوا ما يقارب 75 رجلًا وامرأة، ناهيك عن الأطفال وعند صعودهم المركب تفاجؤوا بوجود أشخاص أفارقة حتى وصل عددهم إلى أكثر من 125. بقوا أسبوعًا كاملًا في البحر من دون طعام سوى حبتي تمر في اليوم. ومن دون حمامات حتى فقد الجميع خصوصياتهم على ظهر المركب وكانوا يجلسون على القذارة والقيء إلى أن أنقذتهم بارجة إيطالية، وهي لا تصدق حتى الآن أنها نجت.

جميع من تحدث ومن التقيت بهم، أجمعوا أن لا أحد من الجالية الفلسطينية أو من أي جهة فلسطينية كانت قام بالتواصل معهم أو وضع عنوان بريد إلكتروني في كامبات اللجوء كي يتم التواصل عبره مع الفلسطينيين. كلهم تحدثوا بمرارة عندما سمعوا عن مؤتمر للجالية الفلسطينية في أوروبا أو عندما قرؤوا أن هناك وفدًا من الجالية في دمشق. وتساءل الجميع أين هذه الفعاليات منا نحن اللاجئون الجدد أم إنهم مثل غيرهم من المؤسسات الفلسطينية وقد عبر أحد اللاجئين عن هذا الوضع بقوله: "القيادة الفلسطينية بسوريا ما كان فيها خير للشعب الفلسطيني بأوروبا رح يكون فيها خير".

اقرأ/ي أيضًا:

المناطق المحررة.. أرض سورية محروقة

حي العرب البرليني... وجهة الباحثين عن سوريا