06-يوليو-2018

يتوافق تظام العشيرة مع نظام المحاصصة في العراق (تويتر)

لا يقتصر الخوف العراقي في المناطق الشعبية من الإرهاب والميليشات المنفلتة فقط. حيث يستطيع الجميع أن يمتلك السلاح، الثقيل منه والمتوسط والخفيف، خاصّة بعد الحرب على داعش، والتي أعطت شرعية حمل السلاح للكثيرين بحجة مقاتلة التنظيم. لكن الدور الأكبر في حيازة السلاح كان للجماعات العشائرية، التي لا يستطيع أحد، بما في ذلك السلطات، أن يعترض على سلاحها أو حتى طريقة استخدامه، وإن كان من الممكن جدًا أن تدخل في إطار الإرهاب.

يأتي ابن العشيرة مع أقاربه فيخرج سلاحه أمام القوّات الأمنية، وحين يُسأل عن سبب حمل السلاح، يقول: "لدينا معركة عشائرية"

يأتي ابن العشيرة مع أقاربه فيخرج سلاحه أمام القوّات الأمنية، وحين يُسأل عن سبب حمل السلاح، يقول: "لدينا معركة عشائرية"، ويكون هذا مبررًا كافيًا، وتبقى القوات الأمنية تستمع إلى حفلة الرصاص الحي وسقوط القتلى ونزيف الدماء، وكأن المشهد من معركة جيش نظامي مع عصابات منظمة، فلا يعترضون عليه، إنما يتفرجون بانتظار النتائج والحصيلة النهائية للقتلى، وكأنهم مؤسسات إعلامية!

في الغالب، لا ينتهي ولاء أبناء القوات الأمنية في المناطق الشعبية عند الدولة وإليها فقط، إنما تبدأ ولاءاتهم من العشيرة إلى الطائفة ولا تنتهي عند الضابط الذي قد يكون شيخ عشيرة! إنها أزمة متداخلة بعمق مع أزمة الدولة والأمة والهوية التي لم تحل حتى الآن في العراق، في نظام الديمقراطية التوافقية الذي يفتت الهويات ويحيلها إلى جماعات متناحرة فيما بينها.

اقرأ/ي أيضًا: العشائرية في الانتخابات العراقية.. الديمقراطية أثاثًا وضيافة

"أكاومك عشائريًا"

في دول المؤسسات، فإن أكبر تهديد يواجهه المواطن هو دعوة قضائية قد يرفعها مواطن آخر عليه لسبب ما، لكن في العراق، هناك تهديدات لا تنتهي ولا تقف في مكان معيّن، أنت لا تعرف من يريد قتلك وإنهاء حياتك في ساعة تغيير مزاج أو انفعال ما، ومنها المزاج العشائري، ذي الطابع البدوي، الذي حالما يشعر بانزعاج خفيف منك، سيقول لك "أكاومك عشائريًا"، الكلمة الساحرة، التي تحمل خلفها أسلحة سيطلق النار منها على بيتك ولا من مغيث لك أو منقذ.

حين يستخدم ابن العشيرة هذا التهديد، وحتى لأسباب التافهة، ينبغي أن تلبي مطالبه، والتي غالبًا ما تكون أتاوة مالية كبيرة يسلبها منك دون حق تسمى "فصل عشائري"، وقد تحوّلت لدى بعض البيوت إلى مهنة يومية، يحاولون من خلالها خلق المشاكل مع الناس لتهديدهم عشائريًا، للحصول على الأموال منهم بطرق تشبه قوانين "الغاب".

منطق القوة لدى العشائر هو الذي ينفع في خضم الأسلحة التي يمتلكونها، والتي ليس لها رادع، أو رقيب، فالعشيرة القوية سيبقى اسمها مخيفًا في الشارع وفي مؤسسات الدولة والسلطة، أما الضعيفة فيمشي أبناؤها مع الجدران. وغالبًا ما تسيطر العشائر القوية على مؤسسات الدولة، خاصة الأمنية منها، ويكون منها ضباط برتب عالية، أي لا مشكلة لديها في كل وقت، ولا خشية لدى أبنائها من رفع سلاحهم في أي لحظة تستدعي فيها العشيرة استنهاض أو استعراض قوتها أمام عشيرة أخرى.

مطلوب عشائريًا

لهذه الكلمة وقع مخيف عند العراقيين، وهي إن كتبت على بيت من بيوت الناس أو على محال تجارية سيدخل أصحابها في إنذار، فالمطلوب عشائريًا هو مجرم حسب عرف العشائر، وينبغي أن يؤدب بقوة السلاح إذا لم يرضخ، وهو إن كان قويًا سيستخدم سلاحه أمام العشيرة المهدّدة، ويدخلون في معركة طويلة، لا تنتهي إلا وعشرات الشباب قد وقعوا قتلى أو جرحى. ليس هذا فقط، فقد كتب ذات مرة على قبر من قبور وادي السلام "مطلوب عشائريًا"، ولا يدري قارئ هذه الجملة كيف ستحاسب العشيرة هذا الميّت. وحتى الشركات الأجنبية التي تدخل للاستثمار في العراق تتعرّض أحيانًا إلى أن يكتب على مقرها "مطلوب عشائريًا" إن لم ترضخ للعشيرة في بعض مطالبها، مثل تقديم المشاريع أو الوظائف لأبنائها أو الأموال.

لا ينتهي ولاء أبناء القوات الأمنية في العراق عند الدولة وإليها فقط، إنما تبدأ ولاءاتهم من العشيرة إلى الطائفة

في 4 تموز/ يوليو الجاري، استيقظ أهالي الحبيبية، وهي منطقة تقع شرقي بغداد، على كلمة "مطلوب عشائريًا" كتبت على متنزه للأطفال، ولا يعرف أحد حتى الآن ما هي مشكلة العشيرة التي كتبت على هذا المتنزه مع الأطفال، فضلًا عن وجود معركة تعيشها المنطقة منذ أسبوع، يستيقظ الأهالي بسببها على وقع أصوات البنادق والأسلحة المتوسطة، وينامون على صراخ النساء، وهي تنوح على قتل شاب، أو إصابة آخر. حتى وصلت الأمور إلى أن يُقتل شابان اثنان من المستطرقين الذين لا يعلمون ما يحدث بين العشيرتين.

التحالف السياسي مع العشيرة

ليس هناك ما يحفظ الدم العراقي من سلاح العشائر المنتشر في الجنوب وبعض مناطق بغداد والوسط، حيث تحدث معارك بين عشيرتين على مصالح معيّنة، فيدخل الآلاف في معركة هم ليسوا أطرافًا فيها. وليس هناك إرادة سياسية على تقويض سلطة العشيرة، فالأخيرة مساندة في كثير من الأوقات للسياسيين ولأحزابهم.

اقرأ/ي أيضًا: "الدعاية السوداء" في الانتخابات العراقية.. المال في خدمة الطائفية والفساد

اعتمد الاستبداد البعثي على العشائر بعد إفلاسه السياسي عقب حرب الكويت، ثمّ جاء أحزاب "المحاصصة" بعد الاحتلال الأمريكي، فكانت هوية الجماعات العشائرية مكمّلة لها، وللنظام الذي جاء مُلائماً لتضاريس الهويات الفرعية وأنماطها التي تقدّم مشاهد مجّانية من عصور ما قبل الدولة. فضلاً عن الظروف الموضوعية للمسار السياسي العراقي في ثنائية الاستعمار والاستبداد والذي ألقى بظلاله على الدولة وهويتها ووجودها في العراق. وبالتالي لم تتوفّر للعراق دولة تعمل على صناعة الأمة العراقيّة، أو خلقها كبديل عن الهويات الطائفية والعشائرية، إضافة إلى أنها هويات تشكّل رأسمالًا منقذًا في وسائل التحشيد والاستقطاب داخل نظام المحاصصة.

ليس هناك ما يحفظ الدم العراقي من سلاح العشائر المنتشر في الجنوب وبعض مناطق بغداد والوسط

 فلا يصطدم شخوص النظام الحالي بالعشيرة لكونها المموّل المعنوي لـ"فشلهم" المريع في بناء الدولة وصناعة الإرادة الوطنية.. إنهم أبناء اللامشروع، واللامسؤولية في التعامل مع هذه البلاد ومصيرها ومستقبل أجيالها.

يتساءل العراقيون في كل مرة عن القوات الأمنية التابعة للدولة والتي هزمت تنظيم داعش، ألا تستطيع أن تخفف من سلاح العشائر وتهديده المستمر للمدنيين العزل والأبرياء والنساء والأطفال؟ هذا سؤال سيكون فاتحة لأوجاع كثيرة ليس أبرزها انشغال المسؤولين في البلاد في الحصول على حصصهم من "كعكعة المحاصصة" الواسعة!

 

اقرأ/ي أيضًا: 

يد القبيلة الخفية في العراق.. خزان السلطة الموازية

الحكم للمسؤولين وأقاربهم في العراق