08-يناير-2024
(Getty) طفلة في رفح

(Getty) طفلة في رفح

بينما ينشغل مهندسو الإبادة الجماعية الأمريكيون والصهاينة بوضع الخطط لليوم التالي لما بعد الإبادة الجماعية في غزة، ويصممون مع المتواطئين حول العالم نموذج السجن المفتوح الجديد الذي يحلمون بإيجاده واستبدال غزة به، مع ما يرافق هذه الخطط من ملاحق التهجير وإعادة خلط الأوراق في المنطقة لصالح المشاريع الاستعمارية، ومحاولة إعادة ترتيب المشهد العالمي وقوننة خنق أية حرية للمقاومة في وجه الطغيان الغربي. حري بنا نحن أيضًا بالتوازي مع كل الجهود المستمرة لوقف العدوان وفك الحصار البدء بالتفكير في اليوم التالي من منظورنا نحن، المقاومون والمقهورون ومن والاهم.

لا أحد يستطيع تعويض عشرات الآلاف ممن استشهدوا، ولا أدري كيف يمكن لنا تخفيف الألم والمعاناة عمن نجوا، وأولوية أي جهد حاليًا يجب أن تبقى منصبة على وقف العدوان على غزة، وعلى الرغم من ذلك، فإنه يجب على الجميع العمل على مساعدة الغزيين على المضي قدمًا، فبينما يستمر النضال حول العالم في وجه الاستكبار الصهيوأمريكي والأوروبي لوقف المذبحة، يجب على الجميع الاستعداد لليوم التالي، فالمناصرة لا يمكنها أن تتوقف بتوقف العداون الوحشي، بل سنحتاجها لسنوات طويلة قادمة، لنرمم ما يمكننا ترميمه، ونبني على ما تم تحقيقه من خلال تضحيات أكثر من مليوني إنسان من أهلنا في غزة. 

في اليوم التالي، يجب العمل من خلال جميع أدوات المناصرة من أجل فك الحصار تمامًا، ووأد جميع مشاريع التهجير في مهدها، وإعادة الإعمار لدعم صمود أهلنا في غزة، وترك الغزيين وحدهم يقررون كيف سيعيشون وكيف سيديرون شؤونهم. بحيث تستمر جهود المدافعة لإنهاء أية خطط صهيوأمريكية تشمل التهجير أو إعادة إحتلال غزة بشكل مباشر، أو غير مباشر من خلال أدوات الاحتلال من المتعاونين والكمبرادور، أدوات لطالما اعتاد الاحتلال على استخدامها كواجهة لتنفيذ جرائمه المستمرة منذ أكثر من 75 سنة في فلسطين. 

في اليوم التالي، يجب العمل من خلال جميع أدوات المناصرة من أجل فك الحصار تمامًا، ووأد جميع مشاريع التهجير في مهدها، وإعادة الإعمار لدعم صمود أهلنا في غزة

والسؤال الذي يخطر على بال الكثيرين فورًا هل ما زالت غزة بعد تدمير كل البنى التحتية تقريبًا قابلة للحياة؟  هل يستطيع من صمد سبعة عشر عامًا تحت الحصار، وواجه الإبادة الجماعية والتجويع والتعطيش والتهجير لأكثر من ثلاثة أشهر ليومنا هذا الصمود دون توفر أدنى مقومات الحياة لفترة أطول؟ هل يجرؤ أي شخص مرفه منا على الطلب من أي شخص واجه كل هذه الأهوال أن يصمد أكثر؟ الوحيد القادر على الإجابة على هذه الأسئلة هم أهلنا في غزة، ومهما كان خيارهم وإجابتهم فهي الصحيحة دون نقاش، وأما نحن فلا بد من أن نستمر في تقديم الدعم والنصرة بكل الأشكال التي نستطيع طالما بقيت الحاجة لها موجودة.

ومن أهم أشكال الدعم والنصرة بعد توقف العدوان بالطبع ستكون إعادة بناء غزة بعد هذا العدوان الهمجي، هذا الإعمار يتطلب نهجًا شاملًا متعدد الأوجه والطبقات، يشمل جميع الجهات ذات العلاقة في الداخل والخارج، أفرادًا ومؤسسات، دون التعويل كثيرًا على كثير من الأنظمة التي تواطأت في أسوأ الحالات والتزمت الصمت حيال الإبادة الجماعية في أفضلها.

يشمل هذا النهج في بدايته، وعلى المدى القصير، جهود الإغاثة الفورية والمساعدات الإنسانية لتوفير الغذاء والماء والمأوى والمساعدة الطبية مباشرةً، مع الاعتماد على المؤسسات المحلية والإقليمية وتخفيف الاعتماد على بعض المؤسسات الدولية التي تم الاعتماد عليها تاريخيًا، وللأسف أظهرت انحيازها وتواطؤها خلال هذه المآساة.

مما يتطلب استمرار جهود المدافعة للضغط على دول الحصار، ورفع كلفة الحصار عليها بكافة الوسائل المتاحة، من أجل فكه وفتح المعابر بشكل كامل ومستمر دون أية تقييدات، حتى يتمكن الغزييون من الحصول على كل ما يحتاجونه، ويتمكنون من التنقل والسفر، بحسب الحاجة او الرغبة.

وهذا يتطلب العمل على ثلاثة محاور، الأول، المدافعة والدبلوماسية والعمل القانوني لفتح المعابر وضمان عدم إغلاقها مرة أخرى، مع العمل الجاد على إعادة إحياء وتفعيل ميناء غزة ومطارها على المدى المتوسط والطويل، مع أن هذا قد يبدو صعبًا جدًا في ظل استمرار الاحتلال الإسرائيلي والغطرسة الأمريكية.

والثاني، تطوير المنظومة اللوجستية القادرة على توفير المواد والمعدات في أسرع وقت وبسلاسة، من خلال منظومة عمل متكاملة تشرف عليها المؤسسات المحلية والإقليمية ذات السمعة الطيبة ضمن إطار حوكمة وشفافية وعدالة متكامل ومعلن، وبالتنسيق الكامل مع العاملين على الأرض في غزة.

والثالث، توفير الدعم المادي المتواصل لتغطية كافة الاحتياجات والمتطلبات مع التركيز على نماذج التمويل الجماعي على المستوى الإقليمي التي تستجيب للاحتياجات الحقيقية بشكل شفاف ومحوكم، والعمل على تحميل الاحتلال ورعاته الغربيين كلفة ما دمروه، وفي ما عدا ذلك من تمويل غربي اعتيادي العمل على خطط مستقبلية بعيدة المدى تقلل الاعتماد على مثل هذا الدعم قدر الإمكان.

وعلى المديين المتوسط والطويل، يجب البدء فورًا بالتخطيط لإعادة الإعمار وبناء البنية التحتية، وإيجاد حلول مناسبة وعملية للإسكان الفوري للمهجرين، فمع تدمير الاحتلال لمعظم المباني السكنية لا نستطيع الافتراض أن الناس ستعيش في الخيام لسنوات دون الخدمات الاساسية، وعليه يجب التفكير في تطبيق حلول مبتكرة، ولو مؤقتة، توفر بشكل سريع أماكن سكن مقبولة حتى يتم البدء بإعادة الإعمار وعودة الناس إلى مساكنهم. وهنا أيضًا توجد عدة محاور يمكن العمل عليها بالتوازي. الأول، كما ذكرت سابقًا العمل على تحميل الاحتلال الإسرائيلي وشركائه الغربيون كلفة إعادة الإعمار وإصلاح الدمار الشامل الذي نتج عن جرائم حربهم، وهذا يتطلب الكثير من جهود المدافعة والملاحقة القانونية والضغط السياسي.

المحور الثاني، يعيدنا لمربع فتح المعابر وحرية دخول البضائع ومواد البناء والمعدات. والمحور الثالث، توفير الخدمات الاساسية فورًا بحيث يتم التركيز على إعادة الخدمات البلدية الأساسية كأولوية، مع توفير الخدمات الطبية اللائقة من خلال استصلاح ما يمكن استصلاحه من المستشفيات والمراكز الصحية المدمرة وإعادة تجهيزها بالمعدات والكوادر، وتعويض النقص بالمستشفيات الميدانية، بما يشمل المدافعة من أجل دخول الكوادر الطبية المتطوعة والمعدات والأدوية لغزة بسهولة وسرعة، مع توفير إمكانية علاج من لا يمكن علاجه في غزة في الخارج فورًا.   

وبمجرد ضمان وضع مقبول مؤقتًا للسكان تكون خطط الاعمار الشاملة قد وضعت، وتبدأ عملية الإعمار الحقيقية بإصلاح الطرق والمستشفيات والمؤسسات التعليمية والمرافق الأساسية، بشكل يتم فيه تصميم مرافق مستقلة قدر الإمكان في مجالي الطاقة والمياه خارج سيطرة المحتل. مع إعادة تأهيل البنية التحتية الزراعية والصناعية لتنشيط الاقتصاد وخلق فرص العمل ودعم المشاريع والمؤسسات المحلية ضمن برنامج تعويضات وتشجيع شامل.

لا بد من الحفاظ على زخم مناصرة غزة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وإعادة تشكيل حركة المناصرة ما بعد توقف العدوان لتحقيق خطط إعادة الإعمار بعيدًا عن المخططات الصهيوأمريكية

ولطالما كان التعليم جزءًا أساسيًّا من حياة الغزيين، وعليه إعادة النهضة التعليمية أمر بالغ الأهمية عند الحديث عن مستقبل غزة، من خلال إعادة بناء الأنظمة والمؤسسات التعليمية التي دمرها الاحتلال لضمان حصول جيل الشباب على التعليم والمستقبل الذي يستحقون. من خلال برامج متكاملة تضمن تأهيل البنية التحتية للمدارس والجامعات، وتأهيل كوادر جديدة لتعويض من فقد خلال الإبادة الجماعية، كما يمكن في المراحل الأولى وضع برامج للمتطوعين من الخارج لسد الفجوة في الكوادر مؤقتًا. كما يجب على المؤسسات الأكاديمية الإقليمية والدولية القيام بواجبها الأخلاقي ودعم إعادة النظام التعليمي في غزة من خلال مختلف البرامج والأدوات المتاحة، بما يشمل المنح الدراسية للغزيين مع برامج حوافز ومكافأت مجزية إن قرر هؤلاء العودة للمشاركة في بناء غزة بعد التخرج، ومن معرفتي بالغزيين فأنا مؤمن بأن غالبيتهم ستعود من تلقاء نفسها.

لا أعلم كيف لأي إنسان أن يختبر جميع الأهوال التي اختبرها الغزيون ويستمر في المضي قدمًا! لكن يبدو أن الغزيين جبلوا من طينة أخرى خصصت للمقاومين والصامدين، ومع ذلك فهم في النهاية بشر مع قوة احتمال محددة ولا يجوز أن نفترض أنهم أبطال خارقون، وعليه تأتي أهمية برامج الدعم النفسي والتعافي وإعادة التأهيل لمساعدة الأفراد والمجتمع في غزة على التعامل مع الصدمات والخسارة والفظائع التي اضطروا لمواجهتها، تحت قصف وحصار الاحتلال الهمجي، من خلال برامج مخصصة لغزة وأهلها تتوفر لجميع من يحتاجها.

ولتحقيق كل ذلك لا بد من الحفاظ على زخم مناصرة غزة على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وإعادة تشكيل حركة المناصرة ما بعد توقف العدوان لتحقيق خطط إعادة الإعمار بعيدًا عن المخططات الصهيوأمريكية. بحيث يتم بناء الشبكات وتعزيز التعاون بين الحكومات والمنظمات ومجموعات العمل والناشطين، وتنسيق الجهود وتعزيز أثرها بما يضمن الاستخدام الفعال للموارد والخبرات، وبشكل يسهم في الاستمرار في المناصرة  ورفع مستوى الوعي العالمي حول الوضع بحيث يحظى بمزيد من الدعم والموارد، من خلال نموذج جديد ومرن ينطوي على تسخير جهد شامل وتعاوني يمكن للجميع المشاركة فيه كأفراد أو مؤسسات أو دول، بالتبرع والتطوع وتبادل الخبرات والدعوة والعمل.

هذا نموذج يضمن الاستدامة والتنسيق الفعال بين مختلف الجهات المعنية لتجنب ازدواجية الجهود وتعظيم الأثر، ويحقق الالتزام طويل الأمد من قبل الجميع لإن إعادة الإعمار هذه المرة ستكون مهمة صعبة للغاية وشديدة التعقيد وستستغرق وقتًا طويلًا سيحتاج فيه الغزيون لكل الدعم الممكن، الدعم الذي لم ننجح في تقديمه بشكل مناسب حتى هذه اللحظة خلال هذه الإبادة المستمرة. وأعتقد أنه لا داعي للتذكير بأن كل هذا سيكون بلا معنى دون استمرار العمل الجاد والدعوة الحقيقية لتحرير كامل فلسطين.