28-يوليو-2020

الكاتب ماهر عبد الرحمان

بين الرواية الغربية والبحر قصة طويلة منذ رواية "الشيخ والبحر" لإرنست همنجواي إلى "موبي ديك" لهيرمان ملفيل، ومن "عمال البحر" لفيكتور ايغو و"ذئب البحار" لجاك لندن و"عشرون ألف فرسخ تحت الماء" لجول فارن وأعمال أميليو سالغاري، وصولًا إلى "1900 - مونولوج عازف البيانو في المحيط" لألساندرو باريكو.

صورة البحر الذي يكتبه ماهر عبد الرحمان، إنه بحر أسود تتجمع على شاطئه دماء خاثرة لضحايا كثر

غير أن تلك الوقفة الغربية الطويلة في وجه البحر روائيًا لم تتأكد عربيًا بشكل لافت إلا من خلال الروائي السوري حنا مينه، فظلت الرواية العربية نزيلة المدن والقرى الجبلية والصحاري متهيبة البحر، وإن اقتربت منه فكّرت شخصياتها في الفرار منه وعبره نحو الضفة الأخرى، أو ابتسره الكاتب في خلفية للأحداث الروائية. خلافًا لذلك يعود بنا الكاتب ماهر عبد الرحمان إلى البحر، في روايته الأولى "عين الحمام" (مسكلياني، 2020) عبر طير الباز إلى الماء وسردياته.

رواية البحر الذي لا يضحك

منذ التصدير يضعنا الكاتب أمام حتمية المحاكاة، محاكاة العنوان لصورة الغلاف وللمتن، فنكتشف أن "عين الحمام" ليست سوى "الهوارية" المدينة الساحلية الجبلية التونسية المعروفة، وهكذا يضحي الكاتب منذ البداية بلغز العنوان لكي يراهن على شيء آخر كما يضحي كاتب الرواية البوليسية المعاصرة أحيانًا بكشف الجاني من أول صفحة بعد أن يعرض علينا الجثة، فيفتتح، مثلًا، أرنستو ساباتو روايته "النفق" بالجملة التالية "سأكتفي بالقول إني خوان بابلو كاستيل، الرسام الذي قتل ماريا ايرببارني، أظن أن المحاكمة ما تزال ماثلة في ذاكرة الجميع، ولا حاجة لإيضحات أوفى عن شخصي".

اقرأ/ي أيضًا: الحبيب السالمي.. بكارة المكان ومجهر الثورة

هذا الشيء الأعمق الذي يراهن عليه الكاتب هو النص، فالأمكنة لا تكتسب قيمتها بأسمائها إنما بسير أناسها. هكذا يشطب الكاتب الاسم المتعارف ليكتب حياة الناس، سيرة طائر الباز الذي يسكن في كل واحد من أهل عين الحمام.

نقرأ في التصدير: "قال لي مجانين الرواية وعتاتها: دخلت أزقتنا وبيتونا، وصعدت جبلنا، ومخرت بحرنا، وتكشفت على أسرارنا، لتسرق ملامحنا من قرية الهوارية، فلما تذكر كل المدن والقرى حولنا بأسمائها وتدّعي أن اسم الهوارية عين الحمام".

إن ماهر عبد الرحمان بهذا التصدير الذي يأتي رجع صدى للشخصيات الداخلية في الرواية يعارض تقليدًا في التصديرات التي تأتي من كتب وأقوال غير المؤلف، وهو بذلك يؤكد المعنى الأول للشطب بعدم الاستناد إلى شيء من خارج نص الرواية.

بل يتبرأ في إجابته من شخصياته وهو بذلك يدفع بالبطاقة البريدية السياحية للهوارية جانبًا ليعلن أنه كتب وجهًا آخر لها لا يعرفه أحد، رسمه في الظلام أناس آخرون هم شخصياته فيقول: "أنتم خرجتم لي من مغاور الجبل ويمّ البحر ومن تحت الحجارة والتّراب، وتقاطرتم عليّ من سحب دكناء جاءت بكم من بعيد، وتلبستموني كعفاريت الجنّ، وتوالدتم في خواطري. فلما غمست قلمي في دواتي لأخط بعض حكايات العشق، لم أكن أعرف منكم بضعة إنس من قوم ألفتهم. ولقد دفعتكم عني وصارعتكم، حتى صرعتموني، فكمشتم يدي وجعلتموها ناسخًا لجنونكم وعبثكم ونذالتكم وأطماعك وأحلامكم التعيسة. لأنكم تعرفون عشقي لقريتكم أردتم أدبي مطية لكم. الهوارية وأهلها منكم براء، لهذا هي: عين الحمام".

تبدأ رواية "عين الحمام" بلعن البحر، فالشخصية تقف في بداية الرواية لتلعن البحر بأقسى اللعنات والدعاء عليه بالفناء

إن هذا الرد في التصدير المنسوب للكاتب يعلن أولًا أنه لم يذهب إلى كتابة هذه الرواية بل كان يريد أن يكتب غيرها، وأنه تورط في كتابة عين الحمام وكان يريد كتابة الهوارية ويروي قصص عشق حدثت فيها. كما يعلن الكاتب سخطه على شخصيات روايته الذين ورطوه واستغلوا حبه للقرية ليكتب سيرهم، فالكاتب هنا لم يتورط بل قُرصن وتعرض إلى تحويل وجهة وكتب الرواية تحت الضغط والتهديد، كما كان الكاتب الشهير بول شيلدون في رواية "ميزيري" لستيفن كينغ يكتب تحت سطوة وتهديد آني ويلكس؛ المرأة المتوحشة المريضة نفسيًا التي كانت واحدة من المعجبات برواياته.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "مقبرة الفراشات" لسامي المقدم.. أعطه قناعًا وسيصدح بالحقيقة

ينطلق الروائي في "عين الحمام"، خلافًا لكتّاب البحر، بلعن البحر فالشخصية تقف في بداية الرواية لتلعن البحر بأقسى اللعنات والدعاء عليه بالفناء.

"مت أيها البحر.. مت... جفّف الله مياهك... كلّ مياهك حتى تصبح أكداس رمال تتلاعب بها الريح، فلا يغرق في أمواجك أحد".

هكذا تتضح صورة البحر الذي يكتبه ماهر عبد الرحمان، إنه بحر أسود تتجمع على شاطئه دماء خاثرة لضحايا كثر، بعضهم قضى نحبه غرقا فيه ولفظه، وبعضهم مزق بعضهم على شاطئه أو قريبًا منه. فعين الحمام هنا مرعبة كعيني "حمامة" باتريك زوسكيند تلك الحمامة التي أسرت "جوناثان" بطل الرواية ومنعته من الخروج من بيته.

يضعنا الكاتب منذ الفقرة الأولى من الفصل الأول في فضاء ينزع عنه آدميته بإلحاقه بعالم الجنون وبشكل كامل، وهو بذلك مهد لكل العنف الذي ستشهده الرواية فإذا كانت كل قرية تعرف بمجنونها فعين الحمام لها "مجانين كثر من رجال ونساء، أما بهاليلها فلا يخلو منهم حيّ أو بيت".

في هذا الفضاء المتآمر تنطلق أحداث الرواية بين الحاضر والماضي التي تستحضرها الشخصيات أو الراوي العليم لكشف تركيبة الشخصية ورسم صورتها وتبرير مواقفها من الآخرين ومن الأشياء والعالم. وفي هذا الفضاء يتحرك تونسيون وأجانب: رابح الصياد ومليكة المومس وخليفة و زوجته الألمانية كاترين ووالدها شماتلوخ وزبيدة وكابوشا المنحرف المضارب بالأسماك والشنتي المهرب والجويني وطليبة المجنون.

في رواية "عين الحمام"، يضعنا الكاتب منذ الفقرة الأولى من الفصل الأول في فضاء ينزع عنه آدميته بإلحاقه بعالم الجنون

كل شيء في الرواية ينتجه البحر، الحب والهجرة والعنف والقتل من البحر ذلك البحر الغريب الذي يشد سيرته إلى أسطورة قديمة ترويها إحدى شخصيات الرواية :"حكى رابح لصديقه أنّ ملك البحر أراد التوسّع باتّجاه الأرض، فتحالف مع ملك الرّياح. كانت مياه البحر تتقدّم تدفعها العواصف لتصبح أمواجًا عاتية وتغزو اليابسة. تخاصم ملك البرّ مع ملك البحر وقال له "يا ملك البحر، أنت تحتلّ أكثر من ثلثي الأرض فاترك ما تبقّى للبشر والحيوانات لتعيش عليها بأمان". أجاب ملك البحر "البشر قتلة وسارقو خيراتي، سآخذ كلّ مرّة أرواحهم لمّا يركبون أمواجي، وسيرسل صاحبي ملك الرّياح أعاصيره على بيوتهم ليطيّر أسقفهم، ويقتلع الأشجار من مزارعهم". خاف ملك البرّ على رعاياه، وأمر الأرض بأن تعلو إلى فوق لتصدّ الرياح والأمواج، فطلع جبل عين الحمام من قاع البحر بقواقعه وأصبح سدّا بين القرية والبحر ورياحه العاتية".

اقرأ/ي أيضًا: "أخبار الرازي": قفا نبكِ على الثورة التونسية

ما يحسب لهذه الرواية أنها أدخلتنا إلى عالم البحر التونسي ونشرت ألواحه من جديد (نسبة لرواية البحر ينشر ألواحه للروائي التونسي محمد صالح الجابري) من الصيد إلى التجارة إلى المؤامرات التي تحدث على ضفافه وموانيه، كما حملتنا إلى هوامله التي لا ترى في البطاقة البريدية السياحية من نساء وجنس وما تتعرض له المرأة في ذلك الفضاء الوحشي الذكوري من اعتداء. حتى أننا نكاد أحيانًا نكون أمام رواية "يملكون ولا يملكون" لإرنست همنغواي حينما يكشف البحر عن وجهه القبيح من تهريب ومؤامرات وحقد بين رجاله ونسائه.

لا يمكن أن نغفل عن استثمار السيري في هذه الرواية لا تجربة الهجرة فقط، بل علاقة الكاتب بالبحر وهو الصياد العاشق للبحر والذي يهرع إليه كل أسبوع تاركًا العاصمة تونس ملاحقًا سمك سمكة الشيخ والبحر، ليعود بها كل مرة كاملة دون نقصان متحديًا عجوز همنجواي الخائب سانتياغو.

رواية الآخر  العدو الحميم

استطاع الروائي أن يربط بذكاء بين الفضاء الأوروبي الألماني والفضاء التونسي، عبر توظيف التاريخ التونسي وأحداث الحرب العالمية الثانية التي دار بعضها على التراب التونسي.

المتأمل في شخصيات ماهر عبد الرحمان يلاحظ أن لها دائمًا أصولًا وليست مقطوعة من شجرة، كما نقرأ في في رواية ما بعد الحداثة، فالشخصية لها قصة لكنها أيضًا لها أب وأم، والأم لها قصة وكذلك الأب له قصة، وهكذا تتشابك قصص العائلات والسلالة لصالح القصة الأصل التي تشاهد في الحاضر فلا يترك القارئ الرواية إلا بعد أن تكون صارت كل الشخصيات مكتملة في ذهنك، لا فيزيولوجيًّا ونفسيًّا فقط بل تاريخيًّا وعائليًّا، فلا شيء يحدث بالصدفة في عين الحمام وهذا ما يشرع لحجم الرواية الكبير نسبيًا.

ينقلنا ماهر عبد الرحمان إلى الريف الألماني لنكون أمام فضاء آخر مضاد للفضاء التونسي، فضاء مزدحم هو الآخر بالعنف الذي تحوّل إلى فائض في العمل مع صهر خليفة المقاتل الألماني السابق؛ شماتلوخ، الذي شوه جسده في معركة بتونس في الحرب العالمية الثانية حولته بعد ذلك إلى ماكينة عمل لينسىى مصابه قبل أن يتذكره بارتباط ابنته بالتونسي خليفة.

لغة ماهر عبد الرحمان لغة روائية بامتياز، هي لغة متخففة من البلاغة، براغماتية، حوارية تصل حد نقل الرطنات الخاصة

لغة ماهر عبد الرحمان لغة روائية بامتياز، هي لغة متخففة من البلاغة، براغماتية، حوارية تصل حد نقل الرطنات الخاصة، تنزل نحو العامية ساعة وتنزل أكثر نحو التهجين أحيانًا وترتفع نحو الحكمي والفلسفي تارة أخرى، تنحصر مهمتها في نقلها لما يجب أن ينقل على ألسنة الشخصيات أو الراوي العليم. ولكن اللغة أيضًا تميزت بمعجم غير مسبوق في عالم الرواية في تونس وهو المعجم البحري المتعلق بالأسماك والطيور البحرية والأدوات المستعملة في الصيد، وعلاقة عالم البحر بعالم الأرصاد الجوية نجح الروائي في نقله عبر الوصف، خاصة الحوار الذي كان محكمًا في كل الرواية، مما يؤكد فرضية أن الكاتب قارئ جيد لإرنست همنجواي وتشارلز ديكنز، فبين متانة سرد الأدب الإنجليزي ورشاقة الحوار الأمريكي نهض عالم "عين الحمام".

اقرأ/ي أيضًا: "برق الليل" أو دون كيخوته التونسي.. أول رواية عربية تحاور ميراث ثيربانتس

خاضت الرواية في مواضيع شتى منها السياسي والاجتماعي، وتأرجحت بين الماضي البعيد من خلال شباب الشخصيات والتجربة الطلابية وواقعهم اليوم وقد دحرجتهم الكهولة نحو لقاء جديد وما زالت ذاكرتهم مثخنة بالأحقاد والمشاعر والشبق، بعضهم ازداد توحشًا وبعضهم هذبته التجربة والمعرفة. عالم قديم يتداعى أمام القارئ عبر تراجيديات صغيرة تنتج تراجيديا أكبر اسمها "عين الحمام"، حيث الدم والاغتصاب والتهريب والمخدرات والقتل والجنون ورائحة السمك النتن تملأ السماء التي يتصارع فيها نورس وباز صراعًا دمويًا.

لم يكن لماهر عبد الرحمان روايات منشورة من قبل، لكنه لم ينبت كجبل عين الحمام في الرواية بشكل أسطوري، بل كان كتابه السيري الآخر "يوميات حامل ميكروفون" في نقد وتحليل التجربة الاعلامية في التلفزيون التونسي بشّر بميلاد روائي مهم منذ سنوات. كان سرده يحمل من الرشاقة ما يدفع بالعمل نحو الأدبية. ولم تمض سنوات قليلة حتى ظهر في المشهد برواية عين الحمام في 460 صفحة، رواية حملت القليل من مزالق الرواية البكر، وكل مواصفات الرواية الناجحة ترشحها واقعيتها وتفاصيلها وطرافتها لتكون عملًا دراميًا ناجحًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رواية "منزل بورقيبة".. نداء استغاثة

مكتبة أيمن حسن