24-أكتوبر-2023
فلسطينيون في مخيم رفح قرب الحدود مع مصر عام 2001

(Getty) فلسطينيون في مخيم رفح قرب الحدود مع مصر عام 2001

عقدت نقابة المهن التمثيلية المصرية وقفة تضامنية مع الشعب الفلسطيني، يوم الثلاثاء، 17 تشرين الأول/ أكتوبر الجاري، وشهدت الوقفة وجود عدد كبير من الفنانين سواء الذين لهم حضور قوي في الساحة الفنية أو الذين خفَّ وهجهم منذ سنين، لكن الأكيد أن كثيرًا منهم مقرّب من النظام الحالي في مصر وداعم له بشكل معلن، إلى جانب أن مثل هذه الفعاليات لم نشهدها في مصر منذ الحرب على غزة عام 2012 تقريبًا، فالنظام الحالي يتعامل مع أي تجمعات بحذر شديد، ولن يحدث مثل هذا التجمع في نقابة المهن التمثيلية إلا بإذن أمني، إن لم يكن بتوجيهات وأوامر مباشرة، مع توجيهات أخرى للتغطية الصحفية والإعلامية ومحاولة التأثير على الرأي العام وتوجيهه، وقد صدق الظن عندما سمعت كلمة الرئيس عبد الفتاح السيسي في اليوم التالي خلال المؤتمر الصحفي مع المستشار الألماني أولاف شولتس بقصر الاتحادية، تزامنًا مع السماح بتظاهرات داعمة لفلسطين في الشوارع والميادين والجامعات المصرية، فضلًا عن عقد جلسة طارئة في مجلس النواب لنظر تداعيات الأوضاع في غزة، وحضور النواب متشحين بالشال الفلسطيني ويلقون خطبًا حماسية، ويمنحون الرئيس تفويضًا جديدًا لحماية الأمن القومي، ثم الدعوات المعلنة بمباركة الأمن وتنسيقه إلي تظاهرات أو تفويض شعبي جديد للقيادة السياسية، وبعيدًا عن التطرق لأبعاد أخرى تخص محاولة النظام البحث عن شرعية جديدة، والتفاف شعبي حول القيادة السياسية، بغرض تهدئة الأمور داخليًا وتمرير هذه الفترة بسلام دون صراعات تخص ركائز الحكم حيث الجميع متوحد خلف قضية أكبر، لكن لنناقش الفكرة الأم التي ولّدت كل هذا الغضب وكل هذه التطورات الداخلية؛ محاولة الدفع بأهالي غزة ناحية الجنوب وتوطينهم في سيناء.

تحدث الرئيس السيسي مع المستشار الألماني أنه إذا كان هناك فكرة لتهجير الفلسطينيين، توجد صحراء النقب، وبالتالي يمكن نقل الفلسطينيين إلى هناك حتى تنتهي "إسرائيل" من مهمتها المعلنة في "تصفية المقاومة" أو الجماعات المسلحة في حماس والجهاد الإسلامي، ثم تعيدهم مرة أخرى "إذا شاءت"، كأنه يقدّم لهم خطة بديلة للتهجير بدلًا عن التفكير في سيناء، ورغم أن هذا التصريح تحديدًا أُخذ على السيسي بشكل منبطح وتواطؤي مع الاحتلال إلا أن بقية الحديث له جانب من الوجاهة.

فكرة التهجير وتوطين الفلسطينيين في سيناء ليست وليدة الأحداث الراهنة، بل ولدت مع نشأة إسرائيل بعد نكبة 1948، لدمج الفلسطينيين في البلدان العربية المجاورة

أشار السيسي إلى أن فكرة النزوح أو تهجير الفلسطينيين من قطاع غزة إلى مصر، يعني حدوث أمر مماثل في الضفة الغربية وتهجير أهلها إلى الأردن، وبالتالي إفشال فكرة وجود دولة فلسطينية، كما أن العملية العسكرية التي تشنها "إسرائيل" على قطاع غزة، من الممكن أن تستمر لفترة طويلة، وهي عملية فضفاضة، وبالتالي تكون بمثابة حجة لتبرير عدم الجاهزية لعودة الفلسطينيين إلى القطاع.

أما النقطة الأبرز، هي فكرة تهجير الفلسطينيين إلى سيناء، تعني ببساطة نقل فكرة المقاومة من قطاع غزة إلى سيناء، وتصبح سيناء قاعدة للانطلاق بعمليات ضد إسرائيل، حسب ما قاله السيسي، وبالتالي يكون من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها وعن أمنها القومي، فتقوم بتنفيذ ضربات داخل الأراضي المصرية، ما يترتب عليه رد الدولة المصرية والدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل، وسقوط اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، كامب ديفيد، الممتدة منذ 1979.

فكرة التهجير وتوطين الفلسطينيين في سيناء ليست وليدة الأحداث الراهنة، ففكرة التوطين في شبه جزيرة سيناء وتوزيع ودمج الفلسطينيين في البلدان العربية المجاورة، ولدت مع نشأة إسرائيل بعد نكبة 1948، وتكررت المحاولات في كل مرة يتغير فيها النظام المصري، وفي كل مرة تُقابل الفكرة بالرفض القاطع سواء الشعبي أو الحكومي، رغم اقتراب الفكرة في بدايتها من التنفيذ عام 1953، بخطة أولية لتوطين 12 ألف أسرة ضمن مشروع مشترك بين الحكومة المصرية ووكالة الأونروا والولايات المتحدة الأمريكية، لكن انتفاضة آذار/مارس 1955 أفشلت هذا المخطط وأحبطت مساعيه، بعد مظاهرات واحتجاجات في قطاع غزة الذي كان يخضع للإدارة المصرية في ذلك الحين، ما جعل الرئيس جمال عبد الناصر يتراجع عن موقفه.

تكررت المحاولات مرة أخرى بعد عقد اتفاقية السلام بين مصر وإسرائيل، في عهد الرئيس أنور السادات، وقوبلت مجددًا بالرفض، ثم حاول الإسرائيليون مرارًا على مدار ثلاثين عامًا من حكم الرئيس مبارك، وما إن قامت ثورة 25 كانون الثاني/يناير 2011، وبعد وصول جماعة الإخوان المسلمين للحكم، عاد المخطط مجددًا للبروز، محاولين استغلال ضعف الدولة المصرية في ذلك الحين، وبحث النظام الجديد عن قبول ودعم دولي لترسيخ أقدامه، إلا أن الخطة قوبلت كذلك بالرفض من الرئيس الراحل محمد مرسي.

وخلال النظام الحالي، لاحت خطة التوطين مجددًا في الأفق مع ما عُرف بصفقة القرن التي حاول الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب تنفيذها في 2019، وقوبلت كذلك بالرفض والفشل، ومع عملية طوفان الأقصى التي نفذتها المقاومة الفلسطينية، ثم الرد الوحشي المستمر حتى اليوم من الإسرائيليين على قطاع غزة، في محاولة للملمة كبريائهم وفشلهم، والحصار الشامل علي القطاع ودفع الفلسطينيين إلى النزوح ناحية الجنوب، عادت مخططات التوطين في سيناء إلى الواجهة مرة أخرى، وحسب ما نراقبه من دلالات في التوجهات الأمنية المصرية وفي خطابات الرئيس وفي الرسائل الإعلامية الموجهة من القنوات المقربة من النظام، يبدو أنه لا نية لدى النظام المصري أيضًا في قبول هذا السيناريو.

لكن هناك رأيًّا يقول إن الرئيس المصري غير رافض من حيث المبدأ، لكنه يريد الخروج بأكبر قدر من المكاسب عبر المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي والأمريكي، بما في ذلك إسقاط الديون التي أثقلت كاهل الاقتصاد المصري، ووضعت الدولة المصرية في أزمة حقيقية خلال السنوات الماضية، بينما الأجهزة الأمنية متمثلة في القوات المسلحة وجهازي المخابرات يرفضون هذا المخطط بشكل قاطع لما يمثله من خطورة على الأمن القومي المصري.

أرى أن الإسرائيليين قد يتمنوا الخلاص من صداع قطاع غزة وتهجير الفلسطينيين والقضاء على المقاومة ونزع السلاح الموجود في القطاع، ولكني أيضًا أرى في هذا السيناريو خطورة أكبر على إسرائيل نفسها، وأظن أنه لا رغبة لديهم في الوقت الحالي تحديدًا في التصعيد بهذا الاتجاه.

هناك عملية سلام بين مصر وإسرائيل منذ عهد السادات، ولا رغبة عند الجانبين في خوض صراع عسكري، في الوقت الذي نزعت اتفاقية كامب ديفيد الفعالية عن الجيش المصري حسب بنود الاتفاقية، بتقسيم سيناء إلى ثلاثة مناطق وتخفيض التسليح والعتاد، وتلخص دور الجيش في سيناء في محاربة الإرهاب خلال السنوات الأخيرة، وفي تأمين وحماية الحدود، وبالتالي غلق جبهة مشتعلة محتملة ضد الجانب الإسرائيلي، كما هو الوضع في الجنوب اللبناني.

انتقال الفلسطينيين إلى سيناء ضمن خطة للتهجير لن يُنهي القضية الفلسطينية بقدر ما سيزيد اشتعالها، فستفتح جبهة جديدة للمقاومة من سيناء، وعندها ستسقط اتفاقية السلام وتصبح إسرائيل في مواجهة جديدة، ليس فقط مع الجيش المصري، إنما مع عموم الشعب المصري الذي لم يقبل باتفاقية التطبيع من أساسها، وما زال يرى في إسرائيل عدوًا مباشرًا، فضلًا عن احتمالية عودة بعض التنظيمات الإرهابية المسلحة مثل تنظيم الدولة الإسلامية "داعش" إلى الواجهة مرة أخرى.

لا أظن أن إسرائيل ترغب في فتح جبهة جديدة بهذه الدرجة من الغموض والاحتمالات المتعددة، إلا إذا كان هناك تواطؤًا وتعاونًا واتفاقًا مسبقًا مع الأمن المصري لإبقاء الأمور تحت السيطرة، ولكن أيضًا لا تسير الأمور دومًا كما هو مخطط لها، وكما تريد الحكومات، وكما تقتضي الصفقات السياسية، فأحيانًا يكون للشعوب رأي آخر وإرادة مختلفة ينتزعونها من بين فكي النظام الحاكم، هذه الصورة الملتبسة في الوقت الحالي، قد تقتضي بالتراجع خطوات خلال الفترة المقبلة بعد تنفيذ الإسرائيليين لانتقامهم وعقابهم الجماعي من قطاع غزة.