24-أكتوبر-2023
الجدار العازل

البعض وصفها بأنها "أفضل ما قاله عربي على الشاشات آخر عشرين سنة"، آخرون أسقطوا عليها معايير المناظرة السياسية الأكاديمية ولم يروا فيها أكثر من مجرد رطانة شعبوية تدغدغ مشاعر الجماهير. آخرون أفرطوا بين جانب المغالاة بالمديح والقسوة في النقد، لكن الجميع اتفقوا على أن مقابلة الإعلامي الساخر باسم يوسف مع المذيع البريطاني بيرس مورغان قد حققت المرجو منها كمادة إعلامية، انتشرت وأحسنت الانتشار. إذ بلغ عدد مشاهدات المقابلة على يوتيوب 18 مليون مشاهدة حتى وقت كتابة هذه السطور.

باسم يوسف

 

كان بالإمكان أن تكون المقابلة أفضل مما خرجت به، من الناحية المعلوماتية على الأقل. وهذا الجانب الذي ينطلق منه فريق المُنتقدين، إذ أنها لم تقدم فعلاً ما لا يعرفه أي عربي نشأ في مدرسته يتعلّم عن فلسطين وقضيتها. بيد أنها لم تكن أبدًا مقابلةً عن المعلومات، ولا عن "تبسيطها للمتابع الغربي الجاهل بالقضية المعقدة"، بل كانت مرتكزة على طريقة الأداء وحدها وفعاليته. 

على سبيل المثال، وفي برنامج بيرس مورغان ذاته، حملت مقابلته مع البروفيسور الفلسطيني محمد حجاب قيمة معلوماتيةً أعلى من مقابلة يوسف وضوحًا، لكنها لم تنل إلى الآن ثلث ما نالته حلقة الأخير. والسبب ليس قوة الإقناع أو الحجة لدى أي من الضيفين، بل كسر يوسف الصورة التي جاء مشاهد بيرس مورغان راسمًا إياها في ذهنه، مجرد عربي غاضب آخر يصرخ بحقّه عن ذاك الصراع الأبدي الذي لا ينتهي، بسخريته المستمرة. والتعبير عن الغضب بالنُكات والمفارقات، لقول ما يحذر الخطاب الجاد من قوله.

وإن كانت مقابلة باسم يوسف هي ما خطف الأضواء مؤخرًا، إلا أنها لم تكن الضربة الصائبة الوحيدة في ظل الجنون الإعلامي الذي نشهده. مع فشل معظم وسائل الإعلام الغربي في الامتثال لما ادّعت يومًا الامتثال له من حياد وموضوعية ومهنية وعدم تمييز، برع موقع "ذا أونيون" الساخر في تغطية الأحداث في غزة بإنصاف عجز عنه نظراؤه "الأكثر جدّية"، ساخرًا بذلك من الواقع نفسه الذي تعيشه صناعة النشر، إذ أعلن منذ اللحظة الأولى في أحد مقالاته دعم إسرائيل "لأن ذلك أقل جلبًا للمشاكل، بحسب ما يبدو".

وبخلاف ما يتجلى في التعليقات على هذا النوع من الأخبار والمواد الصحفية الذي يجرؤ على دعم "الطرف الآخر" في الإعلام الغربي، من تُهمٍ تبدأ بدعم الإرهاب ولا تنتهي بمعاداة السامية وتقويض الديمقراطية، كانت التعليقات أكثر تقبّلاً لهذا النوع من الأفكار "الراديكالية". أحد المعلّقين كتب: "يبدو أنه من الأفضل أن ندعم من لا نتعرض للإلغاء بسببه"، في تعبيرٍ ساخر ينطوي على خيبة من الهرج الذي أصاب بعض المجتمعات تجاه اتخاذ طرفٍ في "صراع"، وصل حد مطالبة وزير الداخلية الفرنسية بسحب الجنسية عن لاعب كرة القدم الفرنسي كريم بنزيما بسبب موقفه.

على مقالٍ ساخرٍ آخر بعنوان "أهالي غزة المُحتضرون يتعرضون لانتقاداتٍ لعدم إدانتهم حماس في كلماتهم الأخيرة"، علّق متابع: "تعلم أننا في مأزق عندما ندرك أن ذا أونيون هو المصدر الأكثر دقة للأخبار لدينا". ولم يختلف هذا الانطباع كثيرًا عربيًا، ففي أحد الأخبار التي نشرها موقع "شبكة الحدود" بعنوان "إسرائيل تدعو لإخلاء مستشفيات غزة قبل تعرضها لصواريخ الجهاد الإسلامي التي ستضل طريقها"، كتبت إحدى المتابعات "أخبار الحدود تصير واقعية أكثر يوم بعد يوم".

يخبرني أحد محرري شبكة الحدود، أن عددًا من الأشخاص من دائرته صاروا ينتظروا مساء كل يوم "ليقرأوا تعليق الحدود على الأحداث"، هذا تؤكده طفرة في التفاعل وعدد المشاركات لم يشهد الموقع مثيلًا لها منذ سنوات، ودعواتٌ في التعليقات لتكثيف نشر المحتوى الساخر باللغة الإنجليزية لمشاركته مع أصدقائهم غير الناطقين بالعربية، ربما لثقة منهم بقابلية إيصال الأفكار عبر هذا النوع من المحتوى أكثر مما قد يُنظر إليه على أنه "سرديات مظلومية مملة"، وصلت حد تبرع أحد الصفحات لترجمة تقرير نشرته الشبكة بعنوان "صور توثق السلام الذي تنعّم به الفلسطينيون قبل ظهور حماس وتخريب عيشتهم"، في ردّ على الادعاءات التي تبرّئ إسرائيل من تهمة ما آلت إليه الأمور وإلقائها على حماس، إلى الإنجليزية ونشره.

إذًا، ما الذي أنجح هذا الأسلوب؟ لطالما كانت السخرية أداة بالغة الفاعلية في متناول المضطهدين لمجابهة الظلم الواقع عليهم. يمكن أن تكون السخرية مضحكة، ويمكن أن تكون غير وقورة في بعض الأحيان، لكنها غالبًا ما تكون جامعة. وكما كتب الفيلسوف الألماني جورج فيلهلم فريدريش هيغل، "الكوميديا هي إنكار السلبية والاستهزاء بموقف لا يمكن الدفاع عنه"، فيما تقول أبحاثٌ عديدة في علم النفس أن السخرية إحدى أنجع آليات مواجهة الشدائد.

يقول جميل خضر، أستاذ اللغة الإنجليزية الفلسطيني وعميد الأبحاث في جامعة بيت لحم في الضفة الغربية، في مقالته “إعادة تحميل الضحك: جيجيك ونظرية الكوميديا” أن الفكاهة يمكن أن تكون أداة للتحرر. ونقلاً عن الفيلسوف جون موريل، كتب خضر: "علاوة على ذلك، فإن الكوميديا والفلسفة (التحررية) تتعارض مع الإيمان الأعمى والطاعة المطلقة، وتشكك في السلطة والتقاليد أو ترفضها".

انطلاقًا من ذلك، فإنّ مقالاتٍ من قبيل تلك التي نشرتها شبكة الحدود (بايدن: من المؤكد أن الإسرائيليين لم يقصفوا مستشفى المعمداني لأنهم أخبروني أنهم لم يفعلوا) أو ذا أونيون (الجيش الإسرائيلي يقول إنك أنت، أيها القارئ، من فجرت المستشفى)، تذكّر القرّاء بأن الروايات الإسرائيلية حول هوية القاتل تستحق التشكيك. فإسرائيل تزعم أن الانفجار كان نتيجة صاروخ ضل طريقه أطلقته حركة الجهاد الإسلامي، وهو ادعاء دعمته وتبنّته الولايات المتحدة وبريطانيا وعدد من دول العالم دون إعادة نظر فيه. 

لإعادة النظر تلك في هذه الأوقات المبكّرة من الحادثة أهمية بالغة تتجاوز تفاعلات الإعجاب وتعليقات الإدانة. في مايو/أيار 2022، على سبيل المثال، عندما قُتلت الصحفية الفلسطينية-الأميركية ومراسلة قناة الجزيرة شيرين أبو عاقلة، ادّعت إسرائيل في البداية أنها قُتلت برصاص فلسطيني. بعد مرور أشهر وانشغال العالم، كلٌّ بقضاياه، قال الجيش الإسرائيلي إنه من المرجح أن تكون أبو عاقلة قد قُتلت برصاص جندي إسرائيلي. وبعد مرور عام، لم تتم محاكمة أي شخص في الجيش الإسرائيلي، ولم يتم الإعلان عن أي إجراء تأديبي. بعدما كانت إسرائيل قد تعهدت في نوفمبر/تشرين الثاني من العام نفسه بعدم التعاون في تحقيق مكتب التحقيقات الفيدرالي في وفاة الصحفية، وهو تحقيق وصفه بيني غانتز بأنه “خطأ فادح”، تمامًا كما تتنصل إسرائيل اليوم من الإجابة عن سؤال التحقيق.

إن الحروب، وخاصة غير العادلة منها، يتم تبريرها دائمًا تقريبًا باستخدام مصطلحات أخلاقية تسهّل تأطيرها برؤية عالمية ثنائية: الخير مقابل الشر، المتحضر مقابل الهمجي، المدافع عن الحرية ضد الإرهابي، وما إلى ذلك. ولكن بطريقة هزلية، بالغة الجدّية، تفكك السخرية النزعة العبثية لتحويل القضايا المعقدة إلى روايات ثنائية الأبعاد، وتدفع أولئك المشككين إلى منطقة غير مريحة من اللاطمأنينة. هذا ما تفعله السخرية الجيدة. تحقق وتنتقد وتُسائل. وكلها تهديدات لا يرغب بمواجهتها كل من يسعى لفرض سطوته.