03-أبريل-2023
عائلة

(GETTY) عائلة

تجلس جدّتي القرفصاء أمام مائدة خشبية دائرية الشكل، تدعك عجينة ملساء طيّعة تتلوى بغنجٍ بين أصابعها، وتفردها على سطح المائدة بـ"القلقال" (المطلمة) فتنساب بسلاسة لتصير رقيقة في سُمك ورقة، ثم تقصّها في شكل رقائق مستطيلة، تُدخل كلّ واحدة منها في مَكَنة يدوية لتخرج في شكل شرائط دقيقة جدًا، فتأخذها منها خالتي وتضعها جانبًا لتجفّ.. إنها "النّجارة" أو "الرشتة" (تختلف التسميات حسب الجهات).

وبينما يداها لا تتوقفان عن الحركة، تقصّ علينا جدّتي خرافات قديمة شيّقة، حفظنا وما مللنا منها، عن "عبيريقة الفكرون" و"بوك عكرّك والغول" و"سبعة صبايا في قصبايا"..

"-سَبْعَه صْبايا في ڤَصْبايا يطيح اللّيل وناكلهم!

-هَوْووو وَصّانِي عليهم سِيدي الرّئيس والله مانعطيهم"

نستمع إليها للمرة الألف بعد المائة وأفواهنا مفغرة على اتساعها، بنفس دهشة المرة الأولى التي قصّتها فيها على مسامعنا. حكايا خُطّت من أعاجيب تسلب ألبابنا، نحن أبناء العشرينات والثلاثينات الذين نعود بين أطوارها إلى سنوات طفولتنا الأولى مأخوذي البال.

وبينما نحن، أبناء الجيل الأول من الأحفاد، نتحلّق قبالة الجدّة ننهل من عذب حكاياها، يفضّل أبناء الجيل الأصغر الفرار إلى الشارع للّعب بما حصّلته مدّخراتهم من "مفرقعات" (فوشيك وجاكس)، لينطلق صخب "حفلة" من الألعاب النارية، لا تنتهي إلا بانتهاء آخر ملّيم ممّا حملته جيوبهم، أو بزعيق أحد الجيران الذي ينهرهم عن إحداث الضوضاء فيفرّ أطفال الحيّ كلّ إلى جحره ليتخفّوا بضع دقائق يظلّون خلالها في وضع المترقّب ثم يتسلّلون إلى الشارع من جديد وكأنهم لم يتعرضوا للتوبيخ قط.

هكذا تكون أغلب أمسياتنا خلال شهر رمضان المبارك، وما قد يختلف بين اليوم والآخر، هو ما تعدّه جدّتي، فمرّة تعدّ "الرشتة"، وأخرى تفتل "الحلالم"، وأحيانًا تفضّل إعداد رقائق "الملسوقة" بنفسها، ومرّات يخطر لها إعداد حلويات للسهرة فتتفنّن في تشكيل إسطوانات "وذنين القاضي" أو تزويق طبق "البقلاوة"، أو تشكيل مكعّبات "البجاوية" وغيرها من الأطباق الشهية التي تعدّها لنا وترشّها عسلًا وحُبًّا، رغم ما يتطلّبه ذلك منها من جهدٍ وطاقة، هي التي لم تفقدها سنواتها السبعين نزرًا من حيويتها وفكاهتها وحبّها للحياة.

هي ذي جدّتي، تحبّ دومًا أن تكون لها بصمةٌ على موائدنا وفي دكاكين مطابخنا، فتجد لدينا، من يديها، زيتونًا مملحًا وزعترًا مجفّفًا وتوابل مرحيّة بعد أن قطفتها وجففتها بنفسها وقامت برحيها. هي تكره كلّ ما هو مصنّع. "لن تعمّروا طويلًا إذا واصلتهم العيش على هذا النحو المزري"، هكذا تردد دومًا وهي تشزرنا كلما لمحت بحوزتنا معلّبات مواد غذائية مصنّعة.

أمي، كذلك، ورثت عنها نفس العادة، إذ تفضّل دومًا إعداد "عولتها" (مؤونتها) من جلّ مستحقات المطبخ بيديها، ونادرًا ما تلجأ إلى اقتناء ما هو مصنّع من معلّبات مواد غذائية، ليس فقط حفاظًا على صحتنا ممّا قد يخطر -وما لا يخطر أيضًا- على البال من مواد "مسرطنة" قد تحتويها المعلبات، حسب ما يخيّل لها، وإنما أيضًا من أجل حُسن حوكمة مصاريف المطبخ. أراهن -هزلًا- لو أنها تقلّدت منصب وزيرة المالية لأصبح لدينا فائض في خزينة الدولة ولَمَا اضطررنا لكلّ هذا التذلّل للمؤسسات الدولية المانحة لتتصدّق علينا ببعض فتات بالكاد يلبّي بعض احتياجاتنا.

من العادات التي دأبنا عليها أيضًا خلال رمضان، في عائلتنا المصغّرة، التداول على تلاوة القرآن أجزاءً فيما بيننا بنيّة ختمه جماعةً، فتشرف أختي الصغرى على توزيع وردٍ لكلٍّ منّا يوميًا، حتى إذا ما خلّصنا الأحزاب الستّين، نكرّر العملية بأوراد مختلفةٍ عمّا سبق أن تلاها كل واحدٍ منّا.

ربّما لسائلٍ أن يسأل عن دواعي ذلك والحال أن بإمكان كلٍّ منّا ختم كتاب الله كاملًا بمفرده، لكنّنا وجدنا في هذا التمشّي التشاركي رونقًا خاصًّا، فتزيد من حسّ الارتباط بالغير، بأفراد العائلة، خاصّة بالتفكير أنّ الأجر سيكون مشتركًا بينك وبينهم، فضلًا عن تضاعف المسؤولية في هذا الخصوص، إذ تحسّ أنّك بتَّ ملزمًا بتلاوة وردك اليوميّ باعتبار أن العملية كلّها مرتبطة ببعضها البعض، وإذا ما تخلّفت عن واجبك اليوميّ ستتحمّل وزرك ووزر غيرك، فالاتّفاق اتّفاق. ويا ويل من يتخلّف من توبيخ أختي، أختي الصغرى.

أختي هذه محتالة جدًا فيما يتعلّق بغسل الأواني، وما أدراك ما أواني إفطار رمضان. كلّما حلّ دورها في الغسيل، ما تنفكّ تتودّد لأمّي حتى تساعدها في ذلك، وأحيانًا أخرى، لمّا تذهب محاولاتها لاستعطاف والدتي سدًى، لا يبقى لها إلا أن تلجأ لأساليبها الملتوية فتعمد لترك الأكل في أكبر عدد ممكن من الصحون لتتخلص منها بوضعها في غياهب الثلاجة، حتّى ولو كانت حبّة زيتون، دون أن أشير إلى الطناجر الكبيرة التي تملؤها بالماء وسائل التنظيف وتتركها جانبًا بتعلّة أنه تعسّر عليها غسلها، ويا لسوء حظّ من يكون من نصيبه تنظيف المطبخ غداة دورها. يراودني دائمًا سؤالُ لِمَ الأخوات الصغريات غالبًا ما تجدهنّ ماكرات؟

أمّا عن أبي، في رمضان، فالأسلم لكَ ألّا تعترض سبيله في ردهات المنزل أو في الحديقة أو في أيّ مكان آخر قبل موعد الإفطار، خاصة خلال الأيام الأولى من رمضان. فغياب النيكوتين يعبث بذهنه أيّما عبثٍ، وما إن تبدأ أعراض الانسحاب تظهر عليه حتى يكون مجرّد ترك فانوس غرفة ما منيرًا كفيلًا بأن ترعد وتمطر. وقبل موعد أذان المغرب بربع ساعة، الويل لنا إن لم يجد الكانون "زاهرًا" (مشتعل الفحم على أتمّه) و"عالة الشاي" (عدّة الشاي) جاهزة إلى جانبه في بهو البيت، حتى يتسنى له إعداد الشاي بمزاجٍ بوضع خلطته الخاصة من الحشائش الحمراء والخضراء وتزكيتها برشّة من النعناع المجفف. وما إن يرفع الأذان، حتى يأكل حبة تمر ويعبّ كأسًا من الماء دفعة واحدة، يؤدي صلاة المغرب، وبالكاد يأكل بضع لقيمات، حتى يخرج للحديقة ليدخّن ويشرب كأس شايٍ. وما إن يدخل من جديد حتى تكون سحنته قد اعتدلت وأسارير وجهه قد انفرجت، لينطلق حينها في تبادل الحديث ولعب دور الناقد للمسلسلات والبرامج الرمضانية، ويقول جملته الشهيرة "مش كان حطيتولنا السبوعي خير؟" (سلسلة كوميدية تعيد بثها القناة الوطنية الثانية "حكومية" منذ سنة 2006 دون انقطاع).

بالنسبة لأمي، هناك حالتان عليكَ أن تتجنبها خلالهما أيّما تجنّب في رمضان. إذا ما رأيتها تُحيط جبينها بوشاحها الأخضر المزركش بأزهار وردية وحمراء، فذلك علامة على بلوغ غضبها أشدّه ما تسبب لها في صداعٍ، في تلك الحالة الأسلَم لكَ أن تبحثَ عن ملجأ يأويك في تلك الليلة على أن تجاورها، فوارد جدًا أن تتسبب كلمة تبدر منكَ بغير محلّها في ضربة مرتدّة بمقلاة على رأسك.

أما الحالة الثانية فهي عندما تسمعها تتحدث بمفردها، بينما خطابها موجّه إلينا، بنبرة حادة ونسق متسارع بينما تطبخ أو تقصّ الخضار، وخاصة إذا ما لقطت أذناك عبارة من قبيل "تو نهجّ ونخليهاكم واسعة وعريضة" (سأغادر المنزل بلا رجعة) أو "كاينّي لا جبت ولا خلّفت.. مانيش أم حدّ أنا" (لست أمّ أي أحد منكم). في هذه الوضعية، حذارِ يا صديقي أن تقع في مرمى ناظريها، لا تنسَ أنّها تقطّع الخضر بسكّين. والوقاية، في الحالتين، خيرٌ من العلاج.

هذه، وإن اختصرت، بعض الأجواء التي دأبت على عيشها مع عائلتي خلال رمضان. تفاصيلٌ، على بساطتها وعصبيّتها في أحيانٍ ما، تساوي ليَ الكون وما اتّسع.. لهذه التفاصيل وغيرها أحبّ هذا الشهر الفضيل وأنتظر حلوله دومًا بفارغ الصبر وأحزن لانقضاء أيامه سريعًا..