23-أغسطس-2021

غرافيتي في غزة (Getty)

رسالة واحدة من الشرق إلى الغرب، رسالة جليلة جليّة، قولٌ فصل: المقاومة ولا شيء سواها! تشتد صولة المقاومين فتتسع قاعدة دعم القضية الفلسطينية، تتغير الأزمنة فتتجدد الأدوات وتتنوع المنابر، وتمتد أذرع جديدة تصل إلى كل معقل كان يستعصي على خطاب الفلسطينيين اقتحامه، نشهد في أيامنا هذه ثورة في أساليب دعم القضية والتوعية بحقوق الشعب الفلسطيني، من وسائل التواصل الاجتماعي التي سهلت نقل المعلومات ونشرها، إلى مقاطعة البضائع والمنتجات الصهيونية، إلى المقاطعة الأكاديمية والدراسات الداعمة لفلسطين، سواء كانت في سياق أرشفة التاريخ وحفظ التراث الثقافي والنتاج الفكري الفلسطيني، أو مواكبة تطورات الصراع العربي-الصهيوني، أو في نقد سلطة الاحتلال وإثبات جرائمه، إلى غير ذلك من الموضوعات التي يعمل الباحثون فيها على إثراء الجانب الحقوقي، والتوعوي، والإنساني للقضية، إلى جانب إثراءهم للمصادر العلمية والتاريخية الدقيقة. هذه العوامل وغيرها عملت على خلق موجات من الوعي بالقضية حول العالم، نشهد موجة عظمى منها الآن.

الرسالة الواحدة من الشرق إلى الغرب، الرسالة الجليلة الجليّة هي القول الفصل: المقاومة ولا شيء سواها

نضيف لتلك العوامل زيادة التوجّه لتعلم العربية من قبل الناطقين بغيرها في السنوات الأخيرة، نتناول في هذا المقال تعليم العربيّة للأجانب، كيف يمكن للّغة العربية أن تخدم قضيتنا، وكيف يمكن لها أن تشكّل نقطة تحوّل في وعي متعلمها تجاه الاحتلال، الاستعمار، والتدخلات السياسية والعسكرية في الوطن العربي.

اقرأ/ي أيضًا: وسائل الإعلام الكندية.. تأييد أعمى وتحيز واضح لإسرائيل

تروي بيج ديجارليه الناشطة الحقوقية والتي تعمل على دعم القضية الفلسطينية منذ بداية التحاقها بكلية العلوم السياسية في جامعة ويسترين في كندا عن بداية نشاطها ودعمها للقضية، تعرّفت على أهم الحقائق حول الصراع العربي الصهيوني عن طريق النادي الطلابي (Students for justice in palestine) بحسبها كانت لحظة صادمة تلك التي اكتشفت فيها أن القضية ليست مجرد صراع على ترسيم الحدود بين دولتين والتي كرّستها وسائل الإعلام في كندا طيلة عقود، كما هو الأمر في كثير من دول الغرب، وإنما هي قضية احتلال وتهجير وعنف ممنهج وممول من اقتصاديات كبرى حول العالم، ومنذ ذلك الحين تقول إنها أخذت على عاتقها مسؤولية نشر الوعي والتعريف بحقوق الفلسطينيين وشرح حقيقة الصراع لمن أعرفهم في دائرتي الضيقة، زملائي في الجامعة والعمل، والناشطين الذين التقي بهم في شتى المناسبات والأنشطة التي تهدف إلى دعم القضايا الحقوقية والإنسانية، تقول: "من هناك بدأ يتشكل لدي الوعي بالقضية الفلسطينية، ومن بعد ذلك قررت الذهاب لزيارة فلسطين حيث بدأت تعلّم اللغة العربية والمشاركة في المسيرات والوقفات الاحتجاجية لمساندة الفلسطينيين والوقوف في وجه الاحتلال"، ولهذا السبب باتت الآن ممنوعة من دخول الأراضي الفلسطينية من قبل سلطة الاحتلال.

تتحدث ديجارليه باعتزاز فتقول أن أولى المُفردات والعبارات التي تعلمتها كانت تتمحور حول القضية، قبل أن تتعلم القراءة والأبجدية تعلمت كلمات مثل (الاحتلال الصهيوني، اعتقال، مقاومة) كان ذلك في سياق تعلمها اللهجة العامية الفلسطينية من الأصدقاء والبيئة المحيطة، تقول: "لقد تعمّقت علاقتي بالقضية نتيجة تعمّق علاقتي باللغة العربية، أو ربما العكس، كنت كلما تقدّمت في تعلّم اللغة ازداد لديّ الوعي بالسياق الثقافي والاجتماعي والحقوقي للفلسطينيين، وكلما تعمّق فهمي للقضية ازدادت حصيلتي اللغوية وتمكنت من تطوير مهاراتي في المحادثة والاستماع والكتابة".

أما عن خطوات اشتباكها مع القضية فتقول أنها تناولتُ في رسالتها الماجستير موضوعًا متعلقًا بفلسطين أيضًا، حيث كانت الدراسة تدور حول كيفية ظهور الفلسطينيين في السياسة والإعلام في كندا، وأنها تعمل الآن على أطروحة الدكتوراه حول المشروع الصهيوني الممول من كندا (Canada Park)،  حيث يستغل الصهاينة أراضٍ من قرى عمواس وبيت نوبه وبيت نبالا لإنشاء حديقة واسعة على هذه الأراضي المحتلة، تطمح ديجارليه لأن تتمكن من استخدام بحثها الأكاديمي للضغط على الحكومة والتأثير في سياساتها لوقف هذا النوع من الدعم والتمويل للصهاينة، وبحسبها فهي تتعلم الآن العربية فصيحة وعاميّة لتتمكن من تضمين شهادات أهالي هذه القرى حول أحقيّتهم في هذه الأراضي، ولتثبت أنها كانت مأهولة، ولتبطل الأكاذيب التي روّج لها الصهاينة على مر عقود.

إن المفردات الأكثر استخدامًا للتعبير عن الاحتلال الصهيوني في الإعلام الغربي هي: الصراع (Conflict) والمعاناة (Struggle) أو الأزمة (Crisis)

وتُشير أيضًا إلى أهمية الانتباه للمصطلحات المستخدمة عند الحديث عن القضية في وسائل الإعلام الغربية، تقول إن المفردات الأكثر استخدامًا للتعبير عن الاحتلال (Occupation)، هي الصراع (Conflict) والمعاناة (Struggle) أو الأزمة (Crisis)، وترى أن هذا أسلوب احتيالي يخفي الحقيقة، فاختلاف التعريف أو الاصطلاح يعني بالضرورة اختلاف الفكرة التي تصل للناس، وهو ما يتم فعله عن عمد، كذلك تنتقد استمرار استخدام وسائل الإعلام أسلوبًا تضليليًا بالامتناع عن ذكر الفارق الكبير في عدد الضحايا واختلاف موازين القوى.

اقرأ/ي أيضًا: تعليم اللغة العربية في الدول الغربية بين الأولويات الاستراتيجية

اللغة العربية واحدة من اللغات الرسمية الست المعتمدة في الأمم المتحدة، وإلى جانب الدخول في الإسلام والعمل في حقل البحوث والدراسات الإسلامية، يُقبل الأجانب على تعلمها لأسباب أكاديمية تتعلق بالتخصصات التي يدرسونها، حيث تعتمد الدراسات الإنسانية في كثير من الجامعات الغربية على دمج تعلّم اللغات الأجنبية ببرامج الدراسات الثقافية والعلوم السياسية والفلسفة والأديان.

في السنوات الخمس عشرة الأخيرة صرّحت الوكالات الحكومية الأمريكية عن حاجتها الماسّة للعاملين الناطقين بالعربية، لمعالجة القضايا السياسية والعسكرية والاقتصادية المُعقّدة والتي تتعلق بانخراط الولايات المتحدة بقضايا الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، إذًا هنالك فرص كبيرة للعمل في القطاعين العام والخاص لمن يتقن هذه اللغة، العديد من الشركات والمؤسسات بحاجة للمختصين الناطقين بالعربية لتعزيز فهمها لحالة السوق بالنسبة للشركات الخاصة، ولتطوير الاستراتيجيات والبرامج اللازمة لدعم الاقتصاد والتعليم وغيرها من القطاعات بالنسبة للمؤسسات غير الربحية.

ازداد الإقبال على تعلم اللغة في السنوات العشر الأخيرة، يتضح ذلك في دراسة صادرة عن الأكاديمية البريطانية (The british Academy)، يظهر من البيانات التي تم العمل عليها أن دراسة اللغة العربية تتزايد باستمرار، الكثير من المراكز الأكاديمية والجامعات تقدّم كورسات متنوعة في اللغة العربية الفصحى بكافة المستويات واللهجات العامية على اختلافها. كما أن هنالك مؤسسات تقوم بعمل ورشات تدريبية للراغبين في امتلاك المهارات الأساسية لتعليم اللغة العربية للأجانب، مثل مركز شارك الذي التحقت الأستاذة ميرا ندّاف بإحدى ورشاته التدريبية وتمكنت بعد ذلك من البدء في تعليم العربية للأجانب في لندن.

من خلال تجربتها ترى ميرا أن توفر فرص العمل في المؤسسات الإنسانية والمنظمات الدولية التي تنفذ مشاريعها في الدول العربية ساعد على تقدّم المزيد من الطلبة لتعلم اللغة، وأن تصاعد الحركات اليسارية في مختلف الدول والحراكات السياسية لعب دورًا هامًّا في جذب الكثيرين للتعرف على الثقافة واللغة العربية، وتشير إلى أن هذه فرصة ذهبية يجب استغلالها لتغيير الصور النمطية عن العرب والمسلمين التي كرسها الإعلام الغربي، وللتوعية بالقضية الفلسطينية وكافة القضايا العربية من استعمار، وهيمنة، وتدخلات خارجية.

باتت لندن تعرّف على أنها المركز الأساسي لاعتماد وتوفير دراسات وكورسات اللغة العربية في المملكة المتحدة، بفضل توفر عدد كبير من المعاهد التي تعلّم اللغة، ولدور جامعة لندن SOAS الفعّال في جذب الطلاب لتعلّمها، حيث يتم سنويًا تسجيل حوالي 1000 طالب في دورات اللغة العربية المختلفة التي تُطرح ضمن برنامج تعليم اللغة العربية للناطقين بغيرها في الجامعة.

بات تعلّم اللغة العربية خطوة هامّة جدًا على طريق تعزيز فهم القضية فلسطين بشكل كبير لدى الأجانب

تتحدث خريجة قسم العلوم السياسية لوفيس بارتولاين عن تجربتها الغنيّة هناك، حيث ساعدها السياق المحيط في الجامعة على تطوير الوعي الكبير لديها بالقضية الفلسطينية، تذكر أنه خلال دراستها للغة العربية كانت محاطة بكثير من طلاب اللغة العربية والطلاب العرب الذين استفادت من معرفتهم واهتمامهم الجدّي بتثقيف أنفسهم حول القضايا العربية. تقول "شاركتُ على الدوام بالوقفات الاحتجاجية التي تنظمها الأندية الطلابية لدعم فلسطين، حضرتُ في إحدى المرات حلقة نقاشية جمعت ما بين صهاينة وطلاب آخرون معادين للصهيونية، تدور حول قضية فلسطين والاحتلال الصهيوني وحقوق الفلسطينيين، النقاش انتهى بطرد الطلاب الصهاينة من القسم".

اقرأ/ي أيضًا: تعلم العربية من الثورة المصرية (1 - 4)

تقول بارتولاين أيضًا أن تعلّمها للغة العربية كان خطوة هامّة جدًا، عززت فهمها لقضية فلسطين بشكل كبير، "عندما تتعلم العربية تنخرط في السياق العربي، وكل شيء في السياق العربي يحيلك إلى فلسطين". تروي لوفيس تفاصيل بدء تعرّفها على القضية، معلوماتها الأساسية كان مصدرها مساق العلوم السياسية الذي تلقته في مدرستها الثانوية في ألمانيا، تُشير إلى أن المدرسة كانت ذات توجه علماني، وأنه كان ينتهي دومًا أي نقاش يخص القضية الفلسطينية بالحديث عن الهولوكوست، ولم يكن من الممكن ذكر مصطلحات مثل احتلال أو استعمار أو الفصل العنصري، علاوة على أن مستوى معرفة الطلاب بالقضية كان دون الإدراك أو الوعي بأهمية المصطلحات ودقّة التوصيف، إضافة إلى أنه كان يتم طرح حل الدولتين كحل وحيد ونهائي للقضية، وأنه كان يتم التشديد عليه، ومن ناحية أخرى كان يتم التركيز بشدة على أن القضية شديدة التعقيد، وأنه من الصعب جدًا فهمها أو حلها، تقول لوفيس "القضية ليست معقدة، القضية قضية حقوق! ليس من الصعب الحصول على مصادر للقراءة والاطلاع على حقيقة الصراع، لماذا يرفض الناس تثقيف أنفسهم في هذه المسألة؟".

وتتحدث عن تجربتها الشخصية مع الاحتلال الصهيوني عند زيارتها لفلسطين عام 2016، وأنها رأت بعينيها ممارسات الاحتلال وعدوانه على الفلسطينيين، وشهدت أساليب القمع والمضايقات التي يتعرض لها الفلسطينيون على الحواجز ونقاط التفتيش، تقول "لم أستطع تجاوز شعوري بالغرابة والرعب من مدينة تل أبيب، إنها مدينة معزولة ومُصنّعة غير صالحة للعيش".

والآن هي لا تريد العودة لفلسطين، لأنها تدعم المقاطعة (BDS)، وإذا قامت بزيارة فلسطين ستضطر لدفع تكاليف الرحلة التي سينتفع منها الكيان الصهيوني. تقول بارتولاين "أشعر بالمسؤولية تجاه القضية، أرى أنني مسؤولة عن نقل صورة ما يجري في الحقيقة لأصدقائي وأهلي وكل من أعرف، لذلك أحرص على الدوام وبشكل خاص في هذه الفترة التي تشهد تصعيدات كبرى، على نشر المحتوى الداعم لفلسطين على صفحاتي في مواقع التواصل الاجتماعي".

تنتقد لوفيس الإعلام الألماني فتقول: تُمنع في ألمانيا مُقاطعة منتجات الكيان الصهيوني بحجة أن المقاطعة تعني العداء للسامية، كما أن الإعلام الألماني يتحدث فقط عن حق الكيان الصهيوني في الدفاع عن النفس ويصف حماس والمقاومة بالإرهاب، وتشير أن هذا تلاعب واحتيال لا ينبغي السكوت عنه، وأن للفلسطينيين الحق في مقاومة الاحتلال والدفاع عن أنفسهم، وعلى العالم أجمع أن يقوم بدعمهم. تعتقد لوفيس أنها اكتسبت معرفة دقيقة وتفصيلية عن حقوق الفلسطينيين، وتاريخ الصراع مع الصهاينة، عن طريق الدراسات والأبحاث التي أجرتها في الجامعة، بالإضافة للكثير من الأفلام والندوات والكتب التي قرأتها، كما أنها قرأت رواية رجال في الشمس لغسان كنفاني ضمن دراستها للغة العربية في معهد قاصد لتعليم اللغة لغير الناطقين بها في عمّان.

هل يمكن تعليم اللغات بمعزل عن السياق الثقافي والسياسي وتجارب الاحتلال والاستعمار التي تؤثر وتتأثر بثقافة ولغة بيئاتها؟

يتحدث المدير الأكاديمي لمعهد قاصد الدكتور خالد أبو عمشة عن تركيز المعهد على الجانب الأكاديمي دون إغفال الجانب الثقافي، يقول: "هنالك كورسات متقدمة لتعليم اللغة العربية لوسائل الإعلام، يتم طرح الصراع العربي الإسرائيلي في سياقها، من قبل أساتذة متخصصين لديهم الإلمام بالقضية، ولديهم الخلفية الثقافية المطلوبة لإجراء النقاشات حولها بشكل موضوعي وعلمي. وهنالك كورسات تعنى بالأدب يقرأ الطالب ويتعلم من خلالها عن كتّاب وأدباء فلسطينيون وعرب، مثل محمود درويش وغسان كنفاني وغيرهم، كما أنه من الممكن استضافة بعض المختصين لعقد ندوات نقاشية ضمن المساق الذي قد تطرح فيه القضية للنقاش، ويركز على أن الأمر في النهاية منوط ببرنامج أكاديمي"، ويقول: "نحن نوجه الأساتذة في المعهد إلى التعامل بذكاء عند الحديث عن القضية لحساسيتها، ولتعليم اللغة ضمن إطار من المهنية دون بث شعور عند الطلبة بأن هنالك محاولات لفرض آراء أو توجهات سياسة ما عليهم".

اقرأ/ي أيضًا: المقاطعة الأكاديمية لإسرائيل: انتصارات وتناقضات

هذا يطرح تساؤلات عدّة حول رسالة التعليم والسياسات الأكاديمية، محددات العلاقة ما بين المؤسسات الأكاديمية والأنظمة السياسية، أخلاقيات العمل الأكاديمي وعلاقته بالسياق الثقافي، هل يمكن تعليم اللغات بمعزل عن السياق الثقافي والسياسي وتجارب الاحتلال والاستعمار التي تؤثر وتتأثر بثقافة ولغة بيئاتها؟ وهل من المهنية والاحترافية إغفال أو تحاشي الحديث حول قضايا إنسانية كبرى في السياقات الأكاديمية في الجامعات والمعاهد والمدارس؟

ربما نحن بحاجة لتسليط الضوء أكثر على هذا القطاع والاستفادة منه لتوسيع قاعدة الدعم لقضايانا العربية، ولتقديم صورتنا الحقيقة للآخر، وذلك ممكن جدًا، السياق الأكاديمي يسمح بتزويد الطلبة بمراجع تسرد الوقائع التاريخية بأسلوب علمي واحترافي، والسياق الثقافي يساعد على إمدادهم بكافة الخيوط التي يحتاجونها لرصد العلاقة ما بين تجربة الاحتلال وانعكاسها على الواقع، عن طريق السينما، الموسيقى، الفن، وكل ما يحيط بهم.

 

اقرأ/ي أيضًا:

المقاطعة والبحث عن جبهة أخلاقية

ملف| 73 عامًا: فلسطين ثورة.. فلسطين ربيع