02-مايو-2017

أم كلثوم لـ لميا زيادة

هذا هو الجزء الأول من أربعة أجزاء لمقال مترجم، تم نشره في مجلة "نيويوركر" للصحافي بيتر هيسلر. المقال يتناول تجربة الصحفي في تعلم اللغة العربية خلال خمس سنوات له ولعائلته، واكب خلالها الثورة المصرية، والحالة السياسية والثقافية والاقتصادية لمصر، مرورًا بحكم الإخوان المسلمين وانتهاءً بتولي السيسي لرئاسة مصر.


خلال الثورة المصرية كانت الدروس اللغوية وسيلة للتعرف على الحالة السياسية والثقافية والاجتماعية للبلاد. عند الانتقال من بلد إلى آخر كشخص بالغ، تتدفق اللغة من حولك مثل النهر. ربما يكون الطفل أقدر على التأقلم السريع، ولكن معظم البالغين سيبدؤون بجمع الكلمات والعبارات التي تبدو أكثر أهمية، وهذا ما فعلته بعد انتقال عائلتي إلى القاهرة في تشرين الأول/أكتوبر من عام 2011. كان ذلك الخريف الأول بعد الربيع العربي؛ وقد أجبر حسني مبارك، الرئيس السابق، على الاستقالة في شباط/فبراير من ذلك العام. 

خلال الثورة المصرية كانت الدروس اللغوية وسيلة للتعرف على الحالة السياسية والثقافية والاجتماعية للبلاد

كل يوم من أيام الأسبوع، نجتمع، وزوجتي ليزلي، مع مدرس لمدة ساعتين في مدرسة للغات تدعى "كلمات"، حيث درسنا اللغة العربية المصرية. في نهاية كل دورة، قدمنا قائمة المفردات الجديدة التي تعلمناها. في أوائل كانون الأول/ديسمبر، بعد الجولة الأولى من الانتخابات البرلمانية في البلاد، التي كان يهيمن عليها الإخوان المسلمون، كانت الكلمات التالية تملأ دفاتر ملاحظاتنا:
مسجد
خشوع
صلاة
الإمام
شيخ
لحية
السجادة
حرام.

اقرأ/ي أيضًا: عارف حجّاوي: أخاف من الخائفين على اللغة العربية

لعدة أيام، ذهبت إلى ميدان التحرير، لتغطية الثورة المستمرة. وفي حال سمعت كلمات أو عبارات غير مألوفة، كنت أحضرها إلى الصف. في كانون الثاني/يناير، بعد أن أصبح بعض المتظاهرين يشتبهون في نواياي كصحفي، كان دفتر الملاحظات يغص بسلسلة جديدة من الكلمات:
عميل
السفارة
الجاسوس
إسرائيل
إسرائيلي
اليهودي.

في الشهر التالي، تعلمت عبارات كـ"الغاز المسيل للدموع" و"الذبح" و"هل يمكنك التحدث ببطء أكثر؟". ظهرت "نظرية المؤامرة" في دفتر الملاحظات الخاص بي في نفس اليوم الذي ظهرت فيه عبارة "البطاطا المقلية". في بعض الأحيان كنت أتساءل عن غرابة ميدان التحرير، وما كانت لغتي العربية لتكون عليه لو كنت قد وصلت قبل عشر سنوات. لكن كانت ستكون مختلفة في أي وقت، في أي مكان: إذ لا يمكنك أبدًا أن تخطو في نفس اللغة مرتين. حتى العبارات الأبدية أخذت نسيجًا جديدًا في ضوء الثورة. بعد أن استطعت أن أفهم بعض البرامج الإذاعية، أدركت أن المتصلين والمضيفين يتبادلون التحيات الإسلامية لمدة نصف دقيقة كاملة قبل أن يستقروا على حجج ساخنة حول النظام الجديد. وكان مقررنا التعليمي بعنوان "دردشة" - "تشاتر" - يحمل مجموعة محادثات سرعان ما استخدمتها مع الجيران، عبارات لن تلمسها في ميدان التحرير:
"السلام عليكم"
"السلام عليكم ورحمة الله وبركاته".
"كيف حالك؟"
"سلامتك! هل أنت بحالة جيدة؟"
"الحمد لله"
"مع السلامة".
"مع السلامة".

أعد أحد معلمينا، رفعت أمين، مادة من خمس صفحات بعنوان "تعبيرات عربية عن الآداب الاجتماعية". وقد تمت إضافتها إلى كتاب "دردشة"، الذي تضمن أصلًا بعض الدروس عن التقاليد الاجتماعية، بما في ذلك العين الحاسدة، والاعتقاد بأن الحسد يمكن أن يسبب سوء الحظ. في "دردشة"، تمت طباعة رموز لقنابل صغيرة مع صمامات محترقة بجانب العبارات التي حتى أثناء الثورة، كانت مؤهلة لتكون متفجرة: "ابنك ذكي حقًا، يا سيدة فتحية". لحسن الحظ، كانت هذه القنبلة متبوعة بمجاملة عملت على نزع الصمام فورًا وإبطال أثرها التفجيري: "ما شاء الله، سيدة فتحية، ابنك ذكي حقًا".

ظهرت "نظرية المؤامرة" في دفتر الملاحظات الخاص بي في نفس اليوم الذي ظهرت فيه عبارة "البطاطا المقلية"

وكثيرًا ما كنت أسمع عبارة "ما شاء الله"، أو "مشيئة ربنا "، عندما كنت خارجًا مع ابنتيّ التوأم. مرة ابتسم شخص مسن لطفلتي الصغيرتين وقال: "وحش وحش!"، الأمر الذي حيرني حتى أوضح لي شخص ما أن المجاملة العكسية هي وسيلة أخرى لإبعاد عين الشر. رفعت علمنا أيضًا ما يقوله شخص ما عندما يعود شخص آخر من رحلة، أو يتعافى من مرض، أو يذكر شخصًا ميتًا (الله يرحمه). كما أنه يمكن أن ترد المتسولين بنوع من المسؤولية المؤجلة عندما تقول: "الله يسهّلك". هناك حتى عبارة مخصصة لأي شخص حلق شعره أو ذقنه: "نعيمًا". كان حلاق الحي يقول هذا في كل مرة ينهي قص شعري، لكني لم أكن أفهم حتى أخبرنا رفعت بذلك خلال البرنامج التعليمي. في المرة الأولى التي أجبت الحلاق بشكل صحيح، ابتسم لي، وبعد ذلك ولمدة خمس سنوات اتبعنا السيناريو:
"نعيمًا"
"الله ينعم عليك". 

اقرأ/ي أيضًا: هل اللغة العربية بالمغرب في مهب الريح؟

كان رفعت في الخمسينات من عمره، وهو رجل رقيق متأهب وله عيون تومض كلما استثير. كان لديه شعر أبيض كثيف وجلده الداكن ميراثه من الصعيد، وهي مصر العليا. وكان والد رفعت من المقاولين الذين نشأوا في قرية جنوبية تعرف باسم أبيدوس، التي كانت على الأرجح وطن ملوك الأسرة الأولى، قبل خمسة آلاف عام. كان رفعت فخورًا بهذا التراث، وكالعديد من الجنوبيين الذين نشأت أسرهم وارتقت في السلم الاجتماعي خلال منتصف القرن الماضي، كان رفعت ناصريًا مؤيدًا للرئيس جمال عبد الناصر، الذي قاد ثورة 1952، وكان صعيديًا هو الآخر. كل مساء، في الساعة العاشرة، يتابع رفعت على "قناة روتانا" إعادة بث حفلات المغنية أم كلثوم. مرة، قدم رفعت ورقة عمل للبرنامج تضمنت الجملة الآتية "ليس هناك مصري حقيقي لا يحب أم كلثوم".

لكن رفعت كانت له صفات أخرى بدت غريبة في مصر. كان مسلمًا، لكنه يشرب الكحول، ويتجنب المساجد، ولم يكن يصوم خلال شهر رمضان. وقال إن الحج كان مضيعة للأموال التي من الأفضل أن تنفق على الفقراء. منذ سن المراهقة، كان يتبع نظامًا غذائيًا نباتيًا في الغالب، وهو أمر نادر بين المصريين. أخبرني إخوة رفعت أن والدهم كثيرًا ما وبخه عندما كان يرفض تناول لحم البقر والضأن، لكنه كان ثابتًا في موقفه. حتى بعد بلوغه، واحد من عدد قليل من أطباق اللحوم التي تناولها كان الدجاج الذي تعده شقيقته الكبرى، وردية، التي تملك أسلوبًا خاصًا لإزالة الجلد.

كانت وردية تجلب أحيانًا وجبات طعام إلى شقة رفعت، لأنه رجل بدون امرأة. قبل عقد من الزمن، كان يعاني من سرطان الغدد الليمفاوية، وكانت تطهو له أسبوعيًا. وفي مرحلة ما، ولفترة وجيزة، كان قد ارتبط بامرأة أجنبية، لكنه بدا سعيدًا لأن تلك العلاقة لم تنجح. عاش وحده، ما يعد أمرًا غير عادي في مصر، وقالت لي وردية إنها لا تتفق مع رفعت حول أمرين على وجه الخصوص: الدين واعتقاده أن الرجال والنساء متساوون. لكنه كان قد أقنعها بتقديم أفضل تعليم ممكن لبناتها - قائلًا إن هذا سلاح. وكررت وردية: "إذا خذلها زوجها، فسوف يكون لها سلاح في متناول اليد". "يمكنها الاعتماد على نفسها".

العامية المصرية لديها تقليد أدبي ضعيف ولكن، في نفس الوقت، شخصية نابضة بالحياة

كان رفعت طبيعيًا في وجود النساء، وهذا كان أحد أسباب انضمامنا ليزلي وأنا لبرنامجه. حيث تشتهر القاهرة بالتحرش الجنسي، كما أن رد فعل الذكور على النساء قد يمتد أيضًا إلى النقيض. أحيانًا نمشي ليزلي وأنا معا في حيّنا، الرجال المهذبون جدًا يوجهون كل المحادثة لي، ويتجنبون بعناية النظر في عيني زوجتي. ولكن لم يكن هناك أي تحيز من هذا القبيل مع رفعت، الذي كان يدرس الكثير من الأجانب؛ منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي حتى أنه كان قد عمل كمدرس خاص للممثلة إيما تومسون، التي كانت تصور فيلمًا في القاهرة. بالنسبة لبرنامجنا، أعد رفعت دروسًا تعكس في كثير من الأحيان انتقاداته الاجتماعية، لدرجة أن الرجال أحيانًا يمكن أن يحرموا من الأسماء في مواده:
هدى: ماذا فعلت؟ أنت لا تفعل شيئًا واحدًا في المنزل.
زوجها: ماذا تقصدين؟
هدى: أعني أنك يجب أن تساعدني قليلًا في الأعمال المنزلية.
زوجها: اسمعي، عملك ليس ضروريًا، وانت تنفقين نصف راتبك على التنقل والنصف الآخر على الماكياج.

اقرأ/ي أيضًا: "العلمو نورون".. مجزرة اللغة العربية في العراق

في عدة مناسبات، ذكر رفعت أن أم كلثوم، التي تزوجت متأخرة في الحياة ولم يكن لها أطفال، ربما كانت مثلية. أبدى إعجابه بهذه الأيقونة، وقال إنه يقدّر بعمق الحرية الشخصية، لكنه أيضًا يعشق عبد الناصر، الذي ألقى المعارضين والمثقفين في السجن. لقد دعم رفعت حركة التحرير، وأعتقد أن مصر بحاجة إلى تغيير اجتماعي خطير، لكنه حصرنا في "التعبيرات العربية للآداب الاجتماعية". ومع مرور الوقت، اهتديت لرؤية تعقيدات شخصيته كسمة مصرية جوهرية. إن للبلد ديانة مهيمنة، وقومية قوية، وهياكل أسرية تميل إلى أن تكون قريبة من نقطة الرهاب من الخارج. ولكن هناك أيضًا سلالة مضادة من الفردية، وكثير من الناس هم ببساطة شخصيات فردية طبيعية. يبدو أن رفعت ومراوغته فطرية ولذلك اختاره أشقاؤه بحكمة لاحتضانهم.

كان رفعت سعيدًا جدًا باللغة العربية المصرية التي تشترك في النزعة الوطنية في الجمع بين الأضداد: التقليد والجدة والنظام والفوضى. قبل الانتقال إلى مصر، التحقنا ليزلي وأنا ببرنامج ميدلبري الصيفي، حيث أمضينا شهرين في دراسة الفصحى، اللغة العربية الفصيحة. وفي القاهرة انتقلنا إلى العامية المصرية، التي لديها تقليد أدبي ضعيف ولكن شخصية نابضة بالحياة. في حين أن علماء الفصحى يفخرون دائمًا بنقائها، فإن اللغة العربية المصرية موحلة من قبل العديد من الروافد. بعض الكلمات تأتي من اللغة القبطية، وهي اللغة التي تنحدر من الفرعونية المصرية، وهناك العديد من المصطلحات الواردة من اليونانية والفارسية والتركية والفرنسية والإنجليزية. مثل كلمة "يشيّر"، المأخوذة من "شير" على الفيسبوك وتم استخدامها كفعل عربي. لكن رفعت يستطيع أيضا تطبيق دروس من اللغة الكلاسيكية على ما سمعته في التحرير. فمثلًا قال لنا أن كلمة "دبابة" مستمدة من جذر عربي يعني "أن يتدخل بكثافة". ومصطلحي "غرب" و"غريب" يشتركان في جذر واحد. قال وقتها: "هذا ليس لأن الغربيين غريبون"، وأعطى نظريته الخاصة. "بل لأن ذلك هو المكان الذي تغرب فيه الشمس، وهو لغز حيث يذهب".

"طوب الطين"، كانت في الهيروغليفية القديمة "الجبيت"، ثم أصبحت "توبة" عند القبطيين

اللغة رائعة للمتجول فيها. استورد العرب كلمة "شاه" من الفرس، ثم العبارة الشاه مات: مات الملك، تم إدخالها إلى اللغة الإنجليزية كـ"كش ملك". صباح أحد الأيام في الصف، علّمنا رفعت كلمة "طوب الطين". في الهيروغليفية القديمة كانت "الجبيت" ثم أصبحت "توبة" عند القبطيين، ثم غير العرب أحرفًا معينة جعلت الكلمة "طوبة"، لاحقًا جلبت الكلمة إلى إسبانيا "كدوبار"، ثم إلى الجنوب الغربي الأمريكي حيث كان هذا الشيء الثقيل قد تم شحنه عبر أربعة آلاف من السنين وسبعة آلاف ميل، هبط أخيرًا على أنه "أدوبي".

اقرأ/ي أيضًا: عبدالله العلايلي.. من فقه اللغة إلى فقه الدين

ومن المفاجئ أن بعض الكلمات القبطية بقيت حية في مصر، وهي حقيقة تعكس مدى سرعة تبني السكان الأصليين للغة العربية، على الرغم من سمعتهم في مقاومة الثقافات الخارجية. بدأ المصريون في التحول إلى المسيحية بعد وقت ليس بطويل من زمن المسيح، ولكن معظم الناس لم يتعلموا لغات حكامهم الأجانب المتعاقبين: البطالمة والرومان والبيزنطيين. في عام 640 م، وصل أول جيش عربي إلى مصر، التي كانت محافظة للإمبراطورية البيزنطية وقتها. كان الجيش مكونًا من أربعة آلاف جندي فقط، غير أنه وفي غضون عامين كان قد غزا البلاد. وبحلول عام 700، كانت الدوائر الرسمية للدولة المصرية تستخدم اللغة العربية. بعد مئة وخمسين سنة أخرى، اختفت القبطية بشكل أساسي كلغة يومية في مصر السفلى. وبحلول القرن العاشر، اشتكى أسقف يدعى سيفيروس من أنه حتى المسيحيون المصريون لا يمكنهم التواصل إلا باللغة العربية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

اللغة والدلالة والسلطة في البيئة العربية

تاريخ "الحنفية".. صراع اللغة والفقهاء