06-يوليو-2020

قرية الديرون في محافظة حماة (فيسبوك)

يبقى الحديث عن الريف والمدينة ضمن إطار التركيز على ما يسمى في علم الاجتماع السياسي الهامش والمركز.  فعليًا، لا يوجد فرق بين الريف والمدينة من ناحية رتابة الأعمال الاجتماعية وروتين اليوم، لكن الاختلاف يكون غالبًا في نمط الحياة ونوعية المعاش والخدمات المتاحة، على اعتبار أن سكان كل من الريف والمدينة يعيشون الآن في منازل تحتمل ذات التركيبة ولديهم أعمالهم الخاصة بهم ويمارسون حياتهم ضمن فضاء اجتماعي متشابه إلى حد ما. لكن إذا ما انتقلنا إلى داخل كل من الريف والمدينة، نجد أن العوامل النفسية لأبناء كل منهما تختلف اختلافًا كبيرًا سواء في التفكير أو في العقيدة أو في التفاعل تجاه قضايا الرأي العام.

بعد عام 2011، وبفعل الأحداث الحاصلة في البلاد، بدت الأمور عكس ذلك، وبدأت العلاقات تتعقد في الريف

 لا ننكر أن مستوى الوعي قد تغير في الريف السوري منذ بداية عام 2000، وبالتالي فقد أصبح الطلب على الخدمات أكبر، انطلاقًا من أن العمل في منظومة التطوير والتحديث لم يكن حكرًا فقط على المدينة، سواء على مستوى الصحة والتعليم والطاقة أو الأمور اللوجستية التي تسهل عمل الأفراد والمهنيين في البلاد. وعلى المستوى الثقافي، لم يكن الريف السوري بمعزل عن التحولات الثقافية التي شهدتها سوريا، بل إن الريف قدم العديد من الأدباء والشعراء والمفكرين أمثال محمد الماغوط وحنّا مينه وجبرائيل سعادة وغيرهم ممن أسهموا في رفد الحركة الفكرية وتكوين جيل شابّ وواعٍ ساهم في الحركة السياسية في القرن العشرين على وجه الخصوص.

اقرأ/ي أيضًا: لعنة السوري

ومنذ عام 2000، تغلغلت الثقافة المدنية في الريف السوري بشكل كبير في ظل الانفتاح الحاصل على المدينة أولًا، وعلى العالم أجمع ثانيًا بفعل الانتشار الواسع للتلفزيون والإذاعة، وفي مرحلة لاحقة، الانترنت.  خلق هذا الانفتاح نحو العالم "الجديد" تغيّرًا على مستوى التثاقف، الذي يشير إلى تغيير العادات والطّباع بفعل الانتقال إلى العيش في بيئة جديدة أو تبني أفكارها التي تنتشر عبر الإعلام. إلا أن مسألة الانفتاح هذه لم تؤخذ بكل ما تضمنته من معاملات اجتماعية وإنسانية وعلاقات أسرية، بل تم اقتطاع جزء منها وهو التقني والحياتي الخاص بالطعام واللباس والشراب، دون أي تعديل طرأ على بنية العلاقات الاجتماعية وأهدافها.

إذا ما بدأنا من التعداد السكاني، فإن الريف السوري فيه أقل كثافة سكانية، فعدد قليل من الناس يقطنون في مساحات واسعة تحتمل أن يعرف بعضهم البعض، وخياراتهم في العلاقات وتنوّعها محدودة جدًا، لتكاد تكون معدومة. لكن، وعلى الرغم من العزلة والتشتت المكاني في الريف السوري، إلا أن ما يحدث هو في غالب الأحيان عكس مفهوم "العزلة " في ظل اختراق الخصوصية، واهتمام الأهالي بحياة الآخرين حتى لو كانوا ضمن نطاق مكاني أبعد. وبالتالي، فإن امتناعك عن كشف هويتك ورغباتك واهتماماتك لن يطول، وسترضخ لعادات وتقاليد الأهالي في الريف.

فعليًا، فشل الإعلام التقليدي في إحداث تجانس بين الريف والمدينة، الأمر الذي أنتج شعورًا بالنقص لدى ابن الريف، الذي يجد في ابن الريف الآخر ساحة لإكمال نقصه عبر انتهاك خصوصيته. بمقاربة بسيطة، حياة الريفيين أشبه بحوض أسماك أو ما يسمى نفسيًا "Gold Fish Bowl"، الذي يشير إلى عدم القدرة على إخفاء أي من الأمور الشخصية أو العائلية في ظل نمط علاقات سهلة التشكل، لكنها معقدة المصالح والأبعاد. هذه العلاقات لا تتيح المجال أمام ابن الريف لإخفاء خصوصياته عن أولئك الذين في محيطه، إذ إن أسئلة العمل والمرتّب والعلاقات العاطفية، وأسئلة الأسرة وعلاقاتها، كلها حاضرة في أي من الاجتماعات في الريف، بشكل مباشر أو غير مباشر. إلا أنه، وعلى الطرف المقابل لا يمكننا إنكار أن الريفي اليوم لا يعد قادرًا على إظهار رغباته وميوله واهتماماته على أي مستوى كان، وخاصة ذلك الطائفي والسياسي والديني، كون "حوض السمكة" مكشوف وظاهر للعيان، ولا يمكن حمايته في مجتمع منغلق.

نظريًا، وبحكم التباعد المكاني بين المساكن، على عكس المدينة حيث البنايات او "البلوكات"، تبدو العزلة في الريف أسهل وبالتالي فإن الاحتفاظ بالرأي والمعتقدات وخصوصيتها أسهل من المدينة. بعد عام 2011، وبفعل الأحداث الحاصلة في البلاد، بدت الأمور عكس ذلك، وبدأت العلاقات تتعقد في الريف. وكان على سكان الريف، خاصة أولئك ممن خالطوا مناخ المدينة، أن يتبنوا التوجه السائد في الريف من أجل المحافظة على حياتهم أولًا وأسرهم ثانيًا، في ظل حالة من اختلاط الأوراق. يمكن أن نشير هنا إلى نظرية "دوامة الصمت" في العلاقات العامة والإعلام، والتي تقوم على أن الأشخاص يتبنون الرأي السائد في حال الخوف من تطبيق عزلة قسرية عليهم من قبل المجتمع المحيط بهم. وبالتالي، فإن هذا ما يدفعهم إلى السكوت كون تبنيهم رأيًا مخالفًا لا يسمح لهم بالتحدث، لحساب الأغلبية الناطقة بالرأي العام الذين يرون فيه صوابًا.

ينطبق هذا على التقاليد المجتمعية الريفية، والتي ليس من الممكن تغييرها بسهولة طالما أن الأغلبية لا يريدونها أن تتغير. قضايا مثل الزواج المبكر، تعليم الإناث، الإمامة في المساجد، الانتماءات السياسية، كلها تعتبر قضايا ذات حساسية يتبنى فيها أصحاب الرأي الأضعف في الريف الصمت خوفًا من عزلة قسرية أصعب من تلك الاختيارية.

فسر ابن خلدون العلاقات المجتمعية، خاصة تلك التي تخضع للعادات والتقاليد، أنها مسألة انصياع الأقلية للأغلبية، وأن اتباع العادات والتقاليد ليس بسبب قوة الأموات والسلف، بل بسبب ضعف الأحياء وهوانهم، وعدم قدرتهم على مجاراة متطلبات العصر الذي هم فيه. وبالتالي، فإن ابن خلدون ينفي قداسة العادات والتقاليد، ويرفض فكرة الانصياع لها، خاصة في المجتمعات المغلقة، والتي عاد الريف السوري اليوم نموذجًا لها.

 

اقرأ/ي أيضًا:

أن يولدَ المرءُ ساكِتًا

الرقة.. عزف منفرد للموتى والهاربين