12-يونيو-2017

أب يلفظ أنفاسه الأخيرة بين طفليه، في الشمال السوري

هكذا يكون الموت من كل حدب وصوب عندما تصير مدينة هدفًا لجميع المتقاتلين على "تحريرها"، ويصبح بشرها صيدًا طارئًا ومزعجًا في الطريق إلى الطريدة الفريسة، وأما الحجر والتاريخ فليس سوى جدران وأقبية وبيوت عالية وواطئة ومخابئ للإرهاب والقتلة.

ثمة موت بالتقسيط عاشه أهالي مدينة الرقة السورية منذ أن قرّرت العصيان

وحدهم الموتى مرميون في قلب الرمل.. هنا الرقة المدينة التي اختارها البغدادي عاصمة لدولته الجديدة، أو اختارتها أقدار الذين خططوا لنهايات بهذه القسوة لمدينة متجاورة عريقة تاريخيًا وبشريًا. في الجانب الآخر ثمة الموصل، وهنا تضيق فرجة التأمل القاصرة... هنا الواقع القذر، والمخطط الأقذر.

اقرأ/ي أيضًا: عملية الرقة.. هل تحقق حلم أكراد سوريا في الفيدرالية؟

صور كثيرة ستعبرك دون هوادة، طفلان يراقبان جسد والدهما القتيل، خيام محمولة في سيارات شحن صغيرة مع أعمدتها وأطفالها، ووجوه مصابة بأبعد من الدهشة والفزع والمجهول، ورمال لا تنتهي، قبور لا نهائية لعالم كان يتأملها قبل قليل، معتقدًا أنها أقل من العدم.

داخل المدينة التي صارت دولة السواد وخلافة الذبح، التي طوال سنوات لا تدخلها إلا كاميرات الناشطين والمغامرين، ولكنها اليوم مفتوحة الطرقات والأحياء على هزيمة سهلة لذلك البعبع الأسود الذي غيّر دولته إلى حيث موت جديد، وأما من بقي من حجر وبشر فيقتَلون بالفوسفور والنابالم والمدفعية وطلقات سوريا الديمقراطية.

قبل سنوات الحصار والقتل تحول سكان الرقة ومدن خط الفرات إلى مهجّرين باحثين عن لقمة العيش في مدن شقيقة داخل الوطن، في تلك السنوات لم يعد مسموحًا لهم حفر بئر ماء، وكان عليهم تغيير موسم القطن، وهم سكان النهر الأعظم في بلاد الشام، هم جيران الماء الذي يسقي مزارع مسؤولين على بعد مئات الكيلومترات، لكنه عاجز عن سقاية حقل قطن على كتفه.

يروي الناجون حكايات الموت على دفعات، فثمة موت بالتقسيط عاشه أهالي المدينة منذ أن قررت العصيان، وتبديل الراية، وأول الموت كان الراية السواء التي حكمت البشر بمنطق التقويم وإعادة الضالين إلى دينهم ورشهم بالسيف، وتحويلهم سحالٍ وعقارب وأفاعٍ قادرة على الحياة وسط الرمل، ومن أراد غير ذلك فالذبح والقذف من شاهق وبتر الأطراف والقطع من خلاف... صارت الرقة وبشرها صورة المدينة الوباء الذي يبحث العالم عن ترياق خلاصه.

في الرقة يتساوى الموتى في نصيب الهلاك، من بقي فيها ينتظر حماقة الصيادين أو غضب الفريسة المحاصرة، ومن هرب وظن لوهلة أنه نجا فالرمل فخ الطرائد التي ينتظرها الباحثون عن مجد القتل.. هنا يتساوى الموت داخل أسوار عاصمة الخلافة وخارجها، والباحثون عن زرع راياتهم في الصدور وعلى الحجارة وأطراف الأحياء وأسطح البيوت هم أكثر من الباحثين عن النجاة من محرقة صائدي الانتصارات.

صارت الرقة وبشرها صورة المدينة الوباء الذي يبحث العالم عن ترياق خلاصه

اقرأ/ي أيضًا: "قسد" قاب قوسين أو أدنى من الرقة.. وترامب بين نيران الفضائح وغضب تركيا

الرقة وحدهما تطارد موتها، وتحاول انتقاء الموت الأسرع والأقل ألمًا، وهي التي ذاقت كل صنوف الموت، فلم يعد مهماً كيف تُقتَل، ومهم جدًا أن تموت سريعًا دون أي إحساس بصرير السكين على العنق.

الرقة سمفونية الموت المنفرد، والعزفُ العويلُ الذي يهز عار العالم وعرش قبحه.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الجناح "الفنّي" في داعش!

لماذا لن تنتهي "داعش" بعد الموصل؟