في الأيّام القليلة الماضية، تردّدت العبارة القائلة: "المتظاهرين العاطلين هم اللّي بيخربوا على المظاهرة".. فتراني كلّما تحدّثت عن المظاهرة جاءني بها أحدهم كتعليق ضروريّ يتبعه تحليل عن الشّغب يستحقّ الإشادة والتّصفيق. لا أستسيغها. ذلك أنّها غالبًا ما تتحوّل من كونها مجرّد "رأي" إلى "بديهيّة" ملحّة سرعان ما يداولها النّاس إذا أطلقها أحدهم لتبديد شرعيّة التّظاهر والتّشكيك في جدواه؛ يجدر علينا الانتباه من هذين الأمرين في مثل هذه الأوقات.
في إحدى قنوات الرّاديو، على سبيل المثال، يتحدّث المذيع عن أعمال الشّغب ويحذّر منها ويدعونا للتّأهّب. وأتساءل هنا، لم لا يخبرنا المذيع عن صور التّظاهر الحميد التّي تفوق تلك التّي تستهويه نوعًا وتكرارًا. لم لا يخبرنا عن لحمة المتظاهرين، أو عن صور التّظاهر المسؤول الذّي تشارك المتظاهرون حمله أثناء تواجدهم في الشّارع. هل رأى أكياس النّفايات التّي علّقت على أطراف الشّوارع؟ أو ألقى السلام على الشّباب الذّين حملوا صناديق المياه يوزّعونها على بقية المتظاهرين؟ أم شهد حشمة رجل انتبه من المسافة التّي تفصله عن امرأة في التّظاهر فحاول الابتعاد بجسده رغم ضيق المكان؟
جسم المظاهرة: نظرة مكانيّة عضويّة
كنت من الواقفين على مظاهرة الرّابية يوم الأربعاء 18 تشرين الأول/أكتوبر. تجدر الإشارة أنّها المظاهرة التّي قامت في إثر المجزرة التّي ارتكبتها إسرائيل ليلة الثّلاثاء 17 تشرين الأول/أكتوبر في المستشفى الأهلي المعمداني في غزّة، والتّي فاق عدد ضحاياها الخمسمئة شهيد دون ذكر من تركته الغارة جريحًا. عبرت مناطق متعدّدة للتّظاهر، وخلال عبوري لمناطق التّظاهر، وجدتُ أنّ المظاهرة، خلافًا للشّكل الذّي بدأت عليه، فهي لم تعد تتبع مركزًا واحدًا. بل صارت ذات مراكز متعدّدة. وهذا التّطوّر طبيعي في ظلّ عدد المتظاهرين المتوافدين على المظاهرة والفترة التّي امتدّتها المظاهرة.
إذا شاركنا في مظاهرة وكنّا ضمن محيطها البعيد عن مركزها، سنلاحظ ضعف تردّد الصّوت حال حاول الوصول إلينا. في تلك اللحظات بالذّات، وللحفاظ على جسم المظاهرة، يبدأ تشكّل مراكز جديدة
ممكن أن أشرح قصّة تعدّد المراكز هنا بسرد بسيط: إذا شاركنا في مظاهرة وكنّا ضمن محيطها البعيد عن مركزها، سنلاحظ ضعف تردّد الصّوت حال حاول الوصول إلينا. في تلك اللحظات بالذّات، وللحفاظ على جسم المظاهرة، يبدأ تشكّل مراكز جديدة. عند كلّ مركز، يتبادل المتظاهرون دور الهتاف. يصعب تبادل هذا الدّور بداية المظاهرات، مثلًا. ذلك أنّ المتظاهر العاديّ (دون المنظّمين) ربّما لا يحفظ الهتاف. هذا من جهة. أمّا من الجهة الأخرى، فربّما يتردّد المتظاهر العاديّ في أخذ زمام المبادرة بإطلاق صوته في الهتاف. لذلك، في أوّل مظاهرة، كانت تصدر الهتافات من مجموعة من الأشخاص غالبًا هم المسؤولون عن الحشد والتّنسيق، لكن مع استمراريّة المظاهرات، والتزام المتظاهرين بالحضور، فنحن لا نحفظ الهتافات فقط، بل نمتلئ بالشجاعة اللازمة لإطلاقه. تزيدنا لحمتنا في التّظاهر قوّةً وتمكّننا من المبادرة في النّشيد. لذلك من الظّلم الادّعاء بأنّ شغب "البعض"، يخرّب على كلّ المتظاهرين. فلا مركز المظاهرة هو مركز واحد ولا الجموع واحدة. ما يخرّب على المتظاهرين حقًّا هو اختيار قصّة الشّغب وتصديرها بوصفها وصمة على الجميع اتّقاء شرّ حدوثها مجدّدًا.
سلوك المظاهرة: مراجعة لعقد المواطنة
إن نظرنا إلى التّظاهر كفعل عفويّ يعبّر النّاس به عن رغبتهم في مساءلة الحكومة أو تمرير حاجة ما للحكومة، فبه أيضًا، تتجسّد علاقة المواطنين مع حكومتهم وأتحدّث هنا عن الطارئ منها في مساحات التظاهر بشكل غير متكلّف. لو كنّا نعيش في كنف المدينة الفاضلة، كان لهذه العلاقة أن تبنى على أسس وثيقة يحافظ عليها الطّرفان. من جهة، التزام الحكومة بخدمة المواطن وحمايته والحفاظ على حقوقه. ومن جهة أخرى، التزام المواطن بواجباته جميعها تجاه حكومته. تصوغ مثاليّة المدينة الفاضلة جملةً من التّوقعات تحكمها ثقة الطّرفين ببعضهما البعض.
إذا شئنا أن نكون واقعيّين، فعلينا التّصريح بأنّنا لا نعيش في كنف المدينة الفاضلة. نعلم جميعنا، بأنّ العلاقة التّي تجمع الفرد منّا مع الحكومة تختلف عن تلك التّي تجمع أشقّاءنا، أو جيراننا، أو أيّ من نظرائنا ممّن يشتركون معنا بهذه الرّقعة السّياسيّة. في عمّان، كما في أيّ مكان، فإنّ الحكومة هي من يسنّ الخطوط العريضة لهذه العلاقة بينها وبين المواطنين، ويتمثّل ذلك في قدرتها على صون حقوق مواطنيها، وعلى بذلها الجهد الضّروريّ للعدل بين مختلف قاطنيها.
من الهامّ إذن طرح السّؤال الذّي يحاول فهم نوع العلاقة بين الحكومة والنّاس في نفس المواقع التّي نصدر بها الأحكام على ردود أفعال بعض المتظاهرين. علينا أن نتخلّى عن النّظرة التّي تسائلهم كأفرادٍ "متمرّدين" يتمادون على أجهزة النّظام وشخوصه وأدواته لنتقمّص عينًا تراهم كمواطنين قد دُفعوا إلى محكّ خطر بسبب انتهاك حقوقهم وسلبهم صوتهم. لا أقدّم هنا صيغةً لتبرير الأذى أو الإساءة، ولكن دعوة لوضع التّعميمات المتسرّعة جانبًا ولفهم السياقات الاجتماعية والسياسية التّي تجعل من هذه الأحداث أمرًا ممكننًا في مساحات التّظاهر.
قد يحكم شكل هذه العلاقة تاريخ طويل ذو طابع تراكميّ أو تاريخ قصير عابر منوط بظروف المظاهرة نفسها. فغالبًا ما تختلف سمة التّاريخ الطّويل باختلاف المناطق التّي يسكنها المواطنون، ووضعهم القانونيّ، ورتبهم الاجتماعيّة، وانتماءاتهم السّياسيّة، وطبيعة عملهم ودخلهم الاقتصاديّ.
في كتابها "قاع المدينة"، تروي لنا الكاتبة لينا شنّك أشكالًا وألوانًا من صور المعاناة التّي يعيشها مجموعة من الأشخاص في جبل الجوفة في عمّان وكيفيّة انعكاس ذلك على حياتهم اليوميّة. يوازي كلّ قصّة من قصصنا مع الحكومة سجلّ خاصّ يوثّق علاقة كلّ منّا معها. فيكون السجلّ بمثابة الوثيقة المبرّرة لكلّ المشاعر التّي تدفعنا إلى محكّات خطرة. نعم، تحمل سجلّاتنا تاريخ خيباتنا وإخفاقاتنا.. وسواء شئنا أم أبينا، هذه السجلات هي رفيقة دربنا في كلّ خطوةٍ من خطواتنا.
أمّا بالنّسبة للتّاريخ العابر والذّي يزول لحظة فضّ المظاهرة، فعلينا أن نعرف أنّ التّظاهر السّلميّ هو حقّ قد كفله الدّستور الأردنيّ. وأنّه، وحسب شهادتي وشهادات كثير من أصدقائي من المتظاهرين، فلم يسبق أن بدأ المتظاهرون بالتّدافع ضدّ صفوف الشّرطة الواقفة. إنّ الوجود الأمني في الشّوارع والسّاحات والسّماوات غالبًا ما يكون مبرّره فرض الأمن والنّظام وحماية الشّعب، سواء من نزل منه إلى الشّوارع أو من لم ينزل. وهو أمرٌ لا نختلف معه. لكن، من السّذاجة أن نفترض أنّ الاعتداء على شخص بالدّفع الشّديد أو الصّفع أو الضّرب دون أيّ وجه حقّ، قد يترتّب عنه ذات السّلميّة التّي بدأت بها المظاهرة. فلا يُعقل أنّ ذات الشّخص المنتفض لكرامة أهلنا في غزّة، سيقبل الظّلم على نفسه تحت ضرب أبناء بلده.
إنّ استيعاب المدينة لأشكال التّظاهر يقرّبها من الفضيلة أكثر، فلا بوّابات ولا حدود تُفرضُ على الوافدين إلى المظاهرة ولا مراجعة أو تدقيق لتاريخ علاقتهم مع حكومتهم على عتبات المظاهرة
عن فضيلة التّظاهر
في كثير من الرّوايات التّي نتبادلها أنا وصحبي وصحبهم عن التّظاهر، تتصدّر تلك اللّحظات التّي نتواجه بها مع الشّرطة والدّرك حماستنا. نبحث في عيونهم عن ضمير الدّولة الأردنيّة التّي نصرخ بأعلى أصواتنا لمخاطبتها. في واحدة من المرّات التّي كنت أحاول بها الوصول إلى موقع مظاهرة رُتّبت بجانب السّفارة الأمريكيّة، سألت أحد رجال الشّرطة الواقفين في حزام أمنيّ كان قد لفّ المنطقة عن كيفيّة الوصول، فأشّر لي بالذّهاب نحو مكان بعيد دون اهتمام. مشيت نحوه، ثمّ أشار لي شرطيّ آخر نحو اتّجاه آخر. لم أعلم إن كنت قد ضللت الطّريق أم أنّ الإرشادات التّي أشير نحوها كانت تضليليّة. وعيت على تيهي بعد قضائي شيئًا من الوقت أدور حول نفسي، فسألت أحدهم: "احنا رح ننجنّ من الليّ عم بصير. شو نعمل بحالنا؟ وين نروح؟ من حقّنا نتظاهر.. هذه مظاهرة مرتبلها وحقّنا نوصل الها". فما كان من الشّرطيّ إلّا أن ردّ وقال: "واحنا برأيك مش منجنّين من اللي بيصير".
على افتراض حسن نيّتها، لكنّ المبالغة في الحديث عن لحمة الأردنيّين ما بين صفوف الأمن وصفوف المتظاهرين مبتذلة. لسنا بحاجة لذلك، فعندنا ما يكفي من القصص التّي تكفي لإغراق صفحات كتب كثيرة. ما نحن بحاجة له حقًّا هو تفعيل هذه اللّحمة للأخذ بيد الشّعب والاستماع إلى صوته. فضلًا عن البحث عن قصص تعانق الضّمائر داخل مساحات التّظاهر، فلنتحدّث عن يقظتها وعمّا هي قادرة عليه في ظلّ ما يطالب به النّاس. كيف السّبيل إلى ذلك؟ بالتّأكيد شيطنة المتظاهرين ووصم المظاهرات بالشّغب لردع المتظاهرين من الخروج إلى مساحات التّظاهر ليس الحلّ.
إنّ استيعاب المدينة لأشكال التّظاهر يقرّبها من الفضيلة أكثر، فلا بوّابات ولا حدود تُفرضُ على الوافدين إلى المظاهرة ولا مراجعة أو تدقيق لتاريخ علاقتهم مع حكومتهم على عتبات المظاهرة. لا عتبات للمظاهرة.. يكفيك أن تصل حتّى تدخل. بالتّظاهر، يتجسّد حقّ النّاس في مدينيّتهم ومدينتهم. وهنا نجد أنّه كلَما ازداد عدد المتظاهرين ازدادت قدرتهم على انتزاع حقّ التّظاهر نفسه. هو الحقّ الذّي تسعى السّلطات إلى تقليصه بالدّفع بحدوده، فتغدو محاولات المواطنين لممارسته في نطاق حدوده الطّبيعيّة تمرّدًا. إنّ وصف "الشّغب"، بحكم تعريفه، يفترض تراتبيّةً معيّنة يحكم بها الواصف على الموصوف. تتطلّب هذه التراتبيّة أن يمارس الأوّل سلطة معيّنة يُخضع الثّاني بها. إنّ استسهال العامّة لمداولته يزيد من إشكاليّة استخدامه لما ينطوي عليه هذا الاستسهال من غياب للمعنى الذّي يقوم عليه التّظاهر والجدوى منه. عوضًا عن الخوض في هذا الحديث وعرضه كلّما تحدّث أحدهم عن المظاهرات، ربّما علينا أن نذكّر أنفسنا بالأساسيّات لنسأل، "لماذا يخرج المتظاهرون إلى الشّارع؟ لمَ هم غاضبون؟". بينما نقوم بطرح هذه الأسئلة، فلنضع كلمة "شغب" جانبًا ولنصحب كلمة "انتهاك" بدلًا عنها علّها تعيننا على الوصول إلى روايةٍ حقيقيّة عن التّظاهر لا يكون فيها وصف الشّغب فضفاضًا بما يسمح به خيالنا الخاضع.