04-مايو-2021

ناطحات سحاب زجاجية في لندن (Getty)

الإنسان كائن هش، تقتله فيروسات غير مرئية. لكنه مع ذلك هو كائن مسلح بأدوات.

منذ زمن بعيد، كان يمكن استخلاص تعريف للإنسان بوصفه كائن ملتجئ. أي أنه يحمي نفسه باللجوء إلى كهف أو مغارة أو بيت طيني أو خيمة. لكن هذا التعريف اليوم أصبح ناقصًا، وأحيانًا معاكسًا للوقائع.

للزجاج خاصية هامة تمعن في جعل المدينة مجرد إعلان براق لا مضمون فيه

مدن العالم الحديثة تحتفل بالزجاج. أبنيتها زجاجية، وقسم كبير من هياكل السيارات الحديثة بات زجاجيًا، وأدوات الحداثة المتأخرة كلها من زجاج أيضًا. الزجاج الذي يعكس أوضاع الخارج، لا يعود قابلًا لاحتواء الناس، أو الاحتفال به، إذا كانت ثمة حرب تدور بين عصابات خارج النافذة. كما أن العيش في قفصه غير ممكن إذا لم تكن حرارة القفص الداخلي مكيفة على النحو الذي يبقي على المشهد لكنه يفقده معناه الأصلي. الصيف هو صورة الصيف، ليس حارًا والحشرات اللاسعة لا تملأ فضاءه، والشتاء ليس باردًا، والثلج الذي يغطي الطرقات يمنحها منظرًا بهيجًا. إنما مع ذلك ورغم كل الزجاج وما خلفه، ثمة رجال ونساء في كل مدينة يصارعون عواصف القيظ والبرد خارجًا لتوصيل طلبيات الطعام ساخنة وغير ملوثة، ولفتح الطرقات التي أقفلتها الثلوج، منعًا لتجمد شرايين المدينة. لكن هؤلاء لا يستطيعون احتلال المشهد. غالبًا، وإذا لم تحل فاجعة غير متوقعة في المدينة، فإن صورة هؤلاء تكون غائبة عن مشاهد المدن التي تصلنا من خلف الزجاج.

اقرأ/ي أيضًا: عواقب السؤال

وللزجاج خاصية أخرى أيضًا تمعن في جعل المدينة مجرد إعلان براق لا مضمون فيه. فالزجاج ليس إسمنتًا، ويحتاج رعاية يومية. بوسع طائر أن يفسد مشهده وهيأته، وبوسع الغبار والمطر أن يجعله فاقدًا لوظيفته. وعليه ثمة جهد فائض لتنظيفه والعناية به. أبنيتنا اليوم، الأحدث والأثمن منها، تحتاج لرعاية يومية، ولم تعد ملجأ بقدر ما صارت عرضا مبهرًا يستجدي العناية اليومية.

في المدن الحديثة أيضًا تعيش الكلاب مع البشر. الكلاب التي كانت لزمن مضى تستطيع تدبر أمرها من تلقائها، باتت اليوم عاجزة عن العناية بنفسها. لقد قرر الإنسان أن يجعلها كائنات غير مستقلة، وها هي تعيش في المدن بوصفها كائنات ضعيفة وهشة وتجتهد في خلق وظيفة لها وتفشل. فقط نحن نعيش معها رغبة منا في أن نكون أربابًا على كل ما حولنا. أبنيتنا، كائناتنا الأليفة، مدننا، طعامنا، شرابنا، هذه كلها تحتاج إلى عناية مفرطة قبل أن نستخدمها. وكلها تحتاج إلى وسائل حفظ مكلفة. لنتخيل مجموعة قراصنة نجحوا في قطع التيار الكهربائي عن مدينة نيويورك أو دبي في شهر آب/أغسطس مثلًا. ما الذي سيبقى من المدينة، في الحال هذه على حاله، بعد أن تتحول فرنًا حراريًا يشوي كل ما فيها ومن فيها؟

نبالغ في ادعاء سيطرتنا المطلقة على كل ما حولنا، والحداثة اليوم تريد الإيحاء بأنها قادرة على تحويل الأشياء والكائنات عن وظائفها الأصلية

اقرأ/ي أيضًا: رجال أشدّاء دون سروج ونبال

الأرجح أننا نبالغ في ادعاء سيطرتنا المطلقة على كل ما حولنا، والحداثة اليوم تريد الإيحاء بأنها قادرة على تحويل الأشياء والكائنات عن وظائفها الأصلية. مع ذلك، لا أجد سببا للاعتراض. كل ما في الأمر أننا بتنا غير قادرين على العيش المعاصر من دون كل هذه التقنيات. وأن العولمة التي توفر لنا هذه الوسائل كلها، تحجبها عن بلاد أخرى ومدن أخرى في الوقت نفسه. ومع هذا الحجب تصبح تلك البلاد خارج الحاضر المهيمن، وخارج تعريفاته ومبادئه وممنوعاته وموجباته. هل هي نظام عنصري؟ ربما، لكن الأكيد أنها تصطفي طبقات متطلبة لتحفظها في أوعية الحفظ وأدواتها، وتطرد أخرى إلى العتم والهامش والطبيعة المعادية.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حارس الموتى

حاملو مفتاح النبيذ