04-مايو-2021

فوتوغرافيا لـ عمر البحرة/ سوريا

  • من فرط شوقه للجواب تسرّب السؤال من بين أسنانه، كما تتملص السمكة متلهفة من شبكة صاحبها الصياد.

مع أن السؤال قديم وما يزال بمثابة العتبة التي ينطلق منها المستفسِر نحو فضاءات أرحب في معرفة العالم، فإن لم يصل المتسائل إلى مبتغاه قادته الأسئلة إلى أسئلة أخرى، ربما كانت هي نفسها غدت في يوم ما جزءًا من الجواب على سؤاله السابق، وفي هذا الصدد يُشير الشاعر قاسم حداد إلى أن على المرء، وخصوصًا الباحث عن الحقيقة أو أخواتها أن "لا يثقْ، وأن يسأل الشكَّ، ويمشي على شوكِهِ"، بينما يعتبر الشاعر السوري أدونيس أن على السائر في دروب التنوير وقاصد مشارب المعرفة أن لا يكف عن السؤال بما أنه دليله الدائم وطاقته الفريدة التي لا يمتلك غيرها، ولا يشاركه فيها أحد، إذ يقول أدونيس في هذا الإطار "اطرح الأسئلة، إنها قوتك الوحيدة"، وحيث إن كل هذا الحث يجعل الواحد منا يتصور بأن الطريق أمام المتسائِل عبارة عن أوتوستراد مفتوح وأنه ما من عراقيل ومطبات وعواقب في انتظار صاحب السؤال.

السائر في دروب التنوير وقاصد مشارب المعرفة أن لا يكف عن السؤال بما أنه دليله الدائم وطاقته الفريدة التي لا يمتلك غيرها

ومع أنني كفرد لا أشبع من السعي وراء الاستنارة عبر القراءة أكثر من الرؤية والاستماع، إلّا أن إحساس السؤال بالنسبة لي كان وما يزال يضعني في موضع التلميذ والأستاذ أو يقربني في بعض الأحيان من حالة المستعطي، خاصةً إذا كان الذي سأقصده بالسؤال كائنًا متكبرًا أو شخصًا نرجسيًا أو مسؤولًا غليظًا، لذا فلطالما توفرت بين يديّ أدوات ووسائل تقودني إلى الأجوبة فإنني عادة ما كنت أستغني عن السؤال من الأشخاص، خاصة في زمن توفر الكتاب والإنترنت، وحيث إن المخازن المعرفية تلك تجنبنا مفاتحة المرضى النفسيين بالأسئلة، ولكن بالرغم من ذلك فجأة رأيتني منذ أيام متعثرًا عشرات المرات بكلمة القلاية أو القلايات أثناء قراءة كتابي أقوال الآباء وبستان الرهبان، ومع أن القلاية المنزلية كواحدة من أدوات الطبخ أعرفها جيدًا رغم أني لستُ من عشاق الجلوس في المطبخ كما هو حال الأديب سليم بركات، ولا لدي أي خبرة بالطبخ ما عدا المقالي، ولكني مع ذلك لم أفهم المغزى الكلي المشار إليه في الكتابين المذكورين، خصوصًا أن إيراد الكلمة كان خارج مضارب المطابخ والمأكولات، وتوقعت من خلال سياق المكتوبات بأن تكون القلاية عبارة عن صومعة دينية، ولكني لم أكن متأكدًا من فهمي التام لها، لذا خطر ببالي أن أطرح السؤال على قس من أبناء قريتي ليعطيني المعنى الدقيق للكلمة ودلالتها، لكني تراجعت عن طرح السؤال على قريبي القس، وانتظرت فترة وسألت السياسي المسيحي عبد الأحد اسطيفو عنها، فقال حينها بأنها غرفة صغيرة للتنسك الشخصي أي صومعة، ولكن غير كبيرة، هي بمقام الصومعة ولكنها فردية وليست مخصصة للتزهد الجماعي.

اقرأ/ي أيضًا: رجال أشدّاء دون سروج ونبال

أما لماذا ترددتُ في السؤال عنها من القس بالرغم من أنه قريبي وسألت بدلًا منه شخصًا غريبًا؟ لأني بصراحة خشيت من أن يعقب السؤال حديث طويل وإسهاب عريض ونقاش لست بحاجة إليه في الوقت الراهن، أما اسطيفو فسمعتُ عنه بأنه يوجز في كلامه ولا يغوص في التفاصيل؛ والسبب الآخر من خشية طرح السؤال على قريبي الذي لم يمر على اعتناقه للمسيحية أكثر من عقد ونصف، ذلك باعتبار أن الذي يعتنق دينًا جديدًا، أو مذهبًا جديدًا، أو يتبنى نظرية سياسية جديدة، عادة ما يكون متحمسًا للكلام عنها، والخوض في تفاصيل أي موضوع متعلق بمذهبه الجديد، من دون أن ينتبه إن كان المستمع مهيأ للاستماع أم لا، وحيث يكون حال المعتنق الجديد كحال من قضى شهورًا طويلة في السجن الانفرادي، إذ يكون تعطشه للكلام ربما أكثر من شوقه للوقوع على خوانٍ عليه مختلف أنواع الطعام والشراب الذي لم يذقه منذ فصول.

كما أن التردد في السؤال ذكّرني بخوف الكثير من الأقارب والمعارف في قريتي من أن يسألوا خالًا لي يدعى أحمد عن موضوع ما من المواضيع المتعلقة بالدين، لأن السؤال الصغير والبسيط حينها يتبعه أجوبة وشروح وأحاديث والدخول في مواضيع كان المتسائل في الأصل بغنى عنها، لذا كثيرًا ما كانوا يتحاشون سؤاله عن أي أمر يعنيهم أو مسألة تعترضهم، لأنهم يدركون عواقب السؤال، خاصة إذا كان واحدهم يُعاني من ضيق الوقت وليس لديه أي ترف زمني.

على كل حال هذا الأمر ساقني إلى مكانٍ ما في أفرع أمن النظام السوري، وواقعة جرت مع الفنان الكردي الراحل عبد الرحمن عمر "بافى صلاح"، إذ إنه أثناء تواجده في غرفة التحقيق في فرع المخابرات الجوية بمدينة حلب، صودف أن جاؤوا بأحدهم للتحقيق معه في نفس الفترة، وكانت تهمة ذلك الشخص المعتقل حيازة صورة زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان، وعلى ذلك الأساس تم اعتقاله، بكونهم وجدوا الصورة معلقة في منزله، ومن باب التسلي ربما أو لعله الاستهزاء بالمعتقل أو بصورة الزعيم أو بأبو صلاح نفسه، قال المحقق موجهًا سؤاله لأبو صلاح برأيك ما هي العقوبة التي يستحقها هذا الشخص المحتفي بصورة أوجلان في منزله؟ فكّر أبو صلاح قليلًا ليعرف إن كان السؤال جديًا أم هو مجرد استخفاف به وبالصورة وبالمعتقل الآخر! وأردف المحقّق قائلًا لم تعطني رأيك بالموضوع، موجهًا كلامه مرة الثانية لأبو صلاح، فهنا تحمس للجواب وشعر بأن السؤال يحمل علامات الجدية نوعًا ما، فرتّب جلسته أولًا ومن ثم قال للمحقق قبل أن أعطيك الرأي لدي سؤالان هما جوابا سؤالك، فهل تسمح لي بطرحهما عليك؟ قال المحقق تفضل يا فيلسوف زمانك اسأل: فرمل أبو صلاح ثوانٍ معدودات بسبب الذي سمعه للتو من ذلك المحقّق، ولكنه قال بينه وبين نفسه يجب أن أعبّر عن رأي ولو مرة واحدة في قلب فرع الأمن، بما أن التعبير عن وجهة النظر هنا في قلعة الاستبداد أهم من طرح عشرات الآراء في الشارع بعيدًا عن أنظار الدولة وسلطانها، فتنحنح أبو صلاح وقال سؤاليَّ هما ألم يكن عبدالله أوجلان بشحمه ولحمه مقيمًا في دمشق لسنوات طويلة؟ قال المحقق في الماضي نعم كان مقيمًا؛ استأنف أبو صلاح وقال ألم يكن الحراس الشخصيين لعبدالله أوجلان هم مجموعة من عناصر أمن النظام السوري؟ ولم ينتظر أبو صلاح الجواب ولا فكر في عواقب السؤال وتابع قائلًا: فكيف تركتم أوجلان في حال سبيله وهو محمي من قبلكم وبين أيديكم بكله سنوات ليست بالقليلة، ولا تعاقبون مَن كانوا يقومون بحراسته وحمايته عشرات السنين، والآن تودون معاقبة شخص بسيط، معتّر، فقط لأنه اقتنى صورة لأوجلان؟

في بلدان الاستبداد، بدلًا مِن أن يقود السؤال الواحد منا إلى المعرفة العذبة يأخذه إلى مرارة الضرب والشتم والإهانة

ولما عجز المحقِّق عن الإجابة وحيث رمته المقارنة في وادي الحيرة، ولم يجد حجة يرميها في ميدان أبو صلاح، ولأنه ابن السلطة وابن السلطة أجمل اللحظات لديه هي لحظات ممارسة السطوة على الناس، والتكلم معهم بأردأ الكلمات، لذا قال لأبو صلاح بصوتٍ سلطويٍّ حازم: "مِن لحظة طرحك للسؤال عرفت بأنك راح تاكول..." لم أتمِّم الجملة لأن من زارَ الأفرع الأمنية في سورية يدرك تتمتها، كما أن كل مَن خدم الجيش في ذلك البلد يعرف تتمتها ومرادفاتها التي تخرج عادةً من أفواه أصحاب القرائح المشغولة بصياغة أقذر الكلمات التي هي جزء رئيسي من قاموس السلطة العسكرية والأمنية لدى عموم النظم الاستبدادية.

اقرأ/ي أيضًا: حارس الموتى

وفي الختام لا يسعنا إلّا أن ندعو ذلك المتعطش للجواب بألا يتكئ كليًا على مقولة: إننا من خلال السؤال نصل إلى الحقيقة؛ خاصةً إذا كان من سكان البُقع المريضة بهوى السلطة والتسلط، لأنه في معظم الدول الأمنية، وفي حضرة السلطات العسكرية، وأوان سيطرة القطعان المسلحة، فمن الممكن جدًا أن يقود السؤال الواحدَ منا بدلًا مِن منابع المعرفة العذبة إلى مرارة الضرب والشتم والإهانة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

حاملو مفتاح النبيذ

في معنى الغرق