17-مارس-2020

السجون المصرية بيئة لانتشار الأوبئة (أ.ف.ب)

"يستحيل السير في الغرفة دون الاحتكاك بأجساد المحتجزين، كنا نسير على النيام حتى نذهب إلى الحمام البلدي الذي يفصله عن المحتجزين قطعة قماش". هكذا تحدث أحد المحتجزين في تحقيق استقصائي نشرته صحيفة المصري اليوم في 2016 عن أوضاع المحبوسين في أقسام الشرطة المصرية، وقت أن كانت الصحافة تمتلك بقايا من هامش حرية يمكنها من القيام بدورها الرقابي قبل تأميمها تمامًا في وقت لاحق.

 اتخاذ إجراءات استثنائية في مصر كلها والتعامل مع السجون كما في الحالات العادية، جريمة مكتملة الأركان، لا يتعلق فقط بتهديد حياة عشرات الآلاف داخل السجون، بل يتعداه إلى احتمالية تحولها إلى مراكز وبائية

"شبر وقبضة"، هكذا عنونت الصحيفة التحقيق في إشارة إلى المساحة الممنوحة لكل سجين داخل غرف الحجز، مساحة لا تتجاوز الثلاثين سنتيمرًا تجعل الاحتكاك بين المساجين هو الأصل، وانتشار الأمراض بينهم بشكل سريع حتمي، خصوصًا مع ضعف مناعتهم نتيجة ضعف التهوية وعدم التعرض للشمس لأسابيع.

اقرأ/ي أيضًا: رغم اكتشاف حالات "كورونا" خارجة من مصر.. تجاهل رسمي مستمر

في العام التالي (2017) نشر مركز النديم والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية تقريرًا مشتركًا تحت عنوان "يا تعالجوهم يا تفرجوا عنهم" عن الإهمال الطبي في السجون المصرية عرضا خلاله 14 شهادة تم توثيقها عن الصعوبة الشديدة التي يواجهها المرضى من السجناء في حالة احتياجهم للعلاج داخل السجن، نتيجة النقص الحاد في أنواع كثيرة من الأدوية داخل مستشفيات وعيادات السجون وغياب آليات المراقبة والمتابعة لأداء أطبائها.

هذه تقارير وشهادات عمرها ثلاث سنوات على الأقل وتتحدث عن سوء حالة السجون وكونها بيئة خصبة لانتشار الأمراض حتى في الظروف العادية. يزداد الأمر سوءًا وكارثية حين يتعلق الأمر بفيروس قاتل سريع الانتشار رأسماله التجمعات الكبيرة وفرائسه السهلة كبار السن والمرضى وضعاف المناعة.

لذلك فإن اتخاذ إجراءات استثنائية في مصر كلها والتعامل مع السجون كما في الحالات العادية، جريمة مكتملة الأركان، لا يتعلق فقط بتهديد حياة عشرات الآلاف داخل السجون، بل يتعداه إلى احتمالية تحولها إلى مراكز وبائية ينتشر ويتحور داخلها الفيروس وينتقل عبر الضباط والأمناء والمجندين والموظفين إلى مصر كلها.

الأزمة في مصر أن الحبس بات أصلًا، الآلاف محبوسون احتياطيًا دون مبرر في قضايا سياسية ليس بها دليل واحد ويتم التجديد لهم بانتظام، وقبل خروجهم بعد عامين كما ينص القانون يتم إدخالهم في قضية جديدة ليبدأوا عامين جديدين، حتى في القضايا الجنائية يخضع المتهمون لحبس احتياطي يمتد لشهور رغم انتفاء مبرراته التي يحددها القانون فقط بالخوف من التلاعب في أدلة القضية، آلاف العجائز والمرضى يستحقون الخروج بعفو صحي ولا يحدث، مئات السيدات الغارمات يقبعن في السجون بسبب قسط ثلاجة أو ثمن بوتاجاز، وأعداد كبيرة يمكن استبدال حبسهم بتدابير أخرى كما يحدث في كل دول العالم ويبقون رغم ذلك في السجون.

اختصار الأمر في السجناء السياسيين اختزال مخل، صحيح أن التوسع في حبس ذوي الآراء والمعارضين السلميين فعل غير أخلاقي ويفاقم أزمة اكتظاظ السجون، لكن أيضًا هناك ظلم كبير واقع على قطاعات أخرى لا تستحق السجن. اللجوء للعقوبات السالبة للحريات يبقى دائمًا استثناء، هذا كلام عام يُقال في كل زمان، لكن حينما يتعلق الأمر بكارثة إنسانية عالمية يُفترض ألا نحتاج أصلًا إلى حملات ومقالات وعرائض للنائب العام، وأن يكون تخفيف الكثافات داخل السجون جزءًا من خطة الدولة لمواجهة انتشار الفيروس مع الإسراع في الإعلان عن هذه الإجراءات، لأن التجربة مع فيروس كورونا علمتنا أن الأهم من اتخاذ القرار هو توقيت اتخاذه، وأن تأخر القرار يوم واحد يمكن أن تترتب عليه كارثة قومية يصعب احتواؤها.

أول قرارات الحكومة بشأن السجون كانت تعليق الزيارة، وهو بالإضافة إلى كونه عقابًا جماعيًا للمساجين الذي يقتصر اتصالهم بالحياة على هذه الزيارة فهو أيضًا لا يضمن عدم انتقال الفيروس إلى الداخل عبر الضباط وأمناء الشرطة والموظفين والطهاة والموردين، وهو ما دفع إيران مثلا للإفراج عن 85 ألف سجين من بينهم سجناء سياسيون.

القرار الأصح والذي يجب البدء به الآن هو إخلاء سبيل آلاف المحبوسين، بدءًا من المحبوسين احتياطيًا، مرورًا بالمحكوم عليهم من كبار السن والمصابين بأمراض مزمنة، وصولًا إلى المحبوسين في جنح ومخالفات بسيطة، لأن الهدف من سجن أي شخص أصلًا يفترض أنه حماية المجتمع، فماذا إن كانت حماية المجتمع في خروجه؟

تستطيع الدولة أن تتخذ ما تشاء من الإجراءات الاحترازية، فرض إقامة جبرية على المُخلى سبيلهم، استخدام الشريحة الإلكترونية التي تحدد أماكنهم كما يحدث في دول كثيرة، إدراجهم على قوائم الممنوعين من السفر، ولا أظن أن الآلاف من الموجودين في السجون حاليًا يهددون خطرًا يذكر على الأمن القومي ولا أشك في قدرة الدولة على إعادتهم جميعًا للسجون مرة أخرى إن أرادت.

بادروا بالقرار قبل أن تضطروا إليه، ووقتها ربما يكون الأوان قد فات والخسائر أكبر من أن تعوّض.

 

اقرأ/ي أيضًا: 

الفيروس الجديد

من لا يعرف.. يخفْ!