16-مارس-2018

عتيق رحيمي

عتيق رحيمي (1962) روائي فرنسي-أفغاني، وُلد في مدينة كابول. وهو أيضًا سيناريست ومُخرج سينمائي. هرب عتيق رحيمي من جحيم طالبان في بلده الذي ظلّ متصلًا به وبآثار الحرب فيه. حصل عتيق رحيمي على شهادة الدكتوراه في تخصص الاتصالات البصرية، وهو فائز بـ"جائزة غنكور" عام 2008، عن روايته "حجر الصبر"، وجائزة الأدب الفارسي في إيران في 2010 عن روايته "الأرض والرماد"، ومن رواياته أيضًا "ملعون ديستوفسكي".

عتيق رحيمي: أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب يصنعون الحرب

في "حجر الصبر"، التي ترجمها إلى اللغة العربية صالح الأسمر وصدرت عن "دار الساقي" عام 2013، يعود عتيق رحيمي برهافة فنية إلى أشدّ الحقب التاريخية عنفًا التي مرّت بها بلده أفغانستان، مستوحيًا نصه من مصدرين اثنين: حادثة اغتيال الشاعرة الأفغانية ناديا أنجومان من طرف زوجها، أما المصدر الثاني فهو أسطورة "الحجر الأسود" الذي يقال إنه يمتص هموم الناس حين يبوحون بأسرارهم أمامه، قبل أن ينفجر ويتفتت.

اقرأ/ي أيضًا: ليلى سليماني ... صوت الفرنكفونية الفائز بـ"غونكور"

بين حادثة الاغتيال وأسطورة الحجر الأسود، نسج عتيق رحيمي روايته ليسرد برهافة كبيرة قصة امرأة، يتعرّض زوجها لإصابة بليغة في الحرب. وأمام جسد رجل على مشارف الموت، تفتح المرأة أبواب حياتها السرية، لتخرج من غرفها المعتمة حكايات وأسرار كبيرة. امرأة تواجه شبح الفقدان، في عزّ حرب عبثية، وداخل مدينة هجرها الإله، وتركها تغرق في فوضاها العارمة. بماذا تفكر هذه المرأة، وحيدة مع عزلتها القاسية؟

استسلمت هذه المرأة، التي لم تكن تحمل اسمًا، لحالة من البوح الممزوج بكثير من الغضب القديم، كأنّ ثورة عارمة اندلعت فجأة داخلها، حرّرتها من خوفها المزمن، لتعلن كرهها الشديد للرجال، وتحديدًا لهذا الرجل المسجّى أمامها بين الحياة والموت.

ومع هذا، لم تجد من تبوح له غير هذا الزوج، الذي يتحوّل فجأة إلى حجر الصبر، الذي تروي عنه الذاكرة الشعبية، بأنه الحجر الذي يملك القدرة على الاستماع إلى مآسي الناس، فيمتلئ بها قبل أن ينفجر، ليتخلّصوا نهائيًّا من عبء تلك المآسي.

لقد أحسّت هذه المرأة فجأة بحاجة إلى السرد، إلى الكلام، فالكلمات ستحررها من قدرها، بعد أن تخلّى عنها العالم، وتركها لمصيرها القاسي.

حجر الصبر

ترمي ببصرها إلى كوة في سطح بيتها، لتحاور السماء بعيون بائسة: "ما من صوت، ما من صوت" (ص 20)، فهي تناجي السماء الصمّاء. صار أكبر خوفها هو الخوف من الوحدة والفراغ، إذ يبدو الفراغ في مدينة تلقي بنفسها في فم مارد الحرب وحشًا جشعًا، بلا قلب رحيم.

ماذا عن أسرارها الكبيرة؟ وهي تنظر إلى جسد زوجها الذي تباغته جيوش من النمل والذباب، تفتح علبة أسرارها، كما لو أنّها الفرصة التي لا تعوّض حتى تنتقم من هذا العالم، ومن زوجها. تتكلم إليه، وتخبره أنّ بنتيه ليستا من صلبه، فهو يجهل أنّه رجل عاقر، وأنّ ابنتيه هما ثمرة علاقة أقامتها سرًّا مع عشيقها الذي تحب.

شعرت هذه المرأة أنّ جسد زوجها صار الآن ملكًا لها، تفعل به ما تشاء، وترجمه بأسرارها. فشرط البوح هو أن يكون الرجل على مشارف الموت، ويكون عاجزًا حتى عن الإنصات إلى تلك الحقائق الخطيرة.

تُخبره، أنّه في سنوات غيابه، كانت تتعرّض لتحرشات إخوته الذكور، فجلهم كانوا يرغبون في مضاجعتها، وكانوا يتجسّسون عليها، وهي عارية في حمامها، تغتسل، وهم يستمنون أمام منظر جسدها العاري.

تفضح هذه الأسرار طبيعة المجتمعات الأصولية الغارقة في التخلّف، فرغم ادعائها العفّة، وتشدّدها فيما يتعلق بالجسد، أو بعلاقتها بالمرأة، فإنه في الوقت ذاته مجتمعات تعاني من الكبت الجنسي. الذي يتحوّل إلى مدخل ذكي، لتفكيك طبيعة هذا المجتمع الغارق في حروب عدمية باسم الإله. تقول البطلة: "إنّ أولئك الذين لا يعرفون كيف يمارسون الحب يصنعون الحرب" (ص 87).

عبر أسلوب البوح، تضع الرواية بطلتها أمام المعنى المرغوب للحرية، إذ يمكن أن نقرأ هذا في قولها: "في الواقع، ما حرّرني هو روايتي لهذه الحكاية [...] هو أنّني قلت كلّ شيء، قلتُ لك: أنت" ( ص 60).

وكلّما استمرت في السير في طريق الحكاية، تحرّرت دواخلها أكثر، وأحسّت بأنّ ثقلًا ما أخذ يتبدّد في الطريق، ويتبخّر في الهواء. وبسبب السرد استرجعت شيئًا من هدوئها. لكنّها ذهبت بعيدًا في تقدير قوة سردها، حين منحت له سلطة الحياة؛ فحكاياتها هي التي أجّلت موت زوجها. "نعم، أنت حيّ من أجلي، من أجل أسراري" (ص 61). ثمّ تضيف: "نعم، أنت حجر الصبر الخاص بي" (ص 63).

تنتهي الرواية، بجريمة قتل، إذ يستفيق زوجها فجأة من غيبوبته، يمسك بها بقوة، ويضرب برأسها على الحائط، لكنها تتمكن من أن تستل خنجرًا وتغرزه في قلبه. نهاية كهذه تترك أسئلة كثيرة، هل كان زوجها في غيبوبة حقًّا؟ ألم يكن ينصت إلى بوحها، ما جعله في الأخير ينتفض، ويهجم عليها بكامل قواه؟ ثمّ ما المغزى من قتل المرأة لزوجها؟

في المجتمعات الغارِقة في الحروب، غالبًا ما يكون موقع المرأة إمّا مقتولة أو  قاتلة

أجمل ما في الرواية هو نهايتها المفتوحة على التساؤل، لكنّها تفتح مساحات للتأمّل في مآلات المجتمعات المتعصِّبة الغارِقة في الحروب، وموقع المرأة فيها؛ فإمّا مقتولة أو قاتلة، دفاعًا عن شرفها تارةً، وعن حقها في الحياة تارة أخرى.

اقرأ/ي أيضًا: كلنا نصدقك يا يانكوفيتش

يموت زوجها، لكن الحرب لم تضع أوزارها، وحرّاس المعبد يزدادون ضراوة مع مرور الوقت.

رواية عتيق رحيمي، تذكرني برواية "سنونوات كابول" للروائي الجزائري ياسمينة خضرا، فهذه الرواية تدور أحداثها كذلك، في زمن حرب الطالبان، وتتعرّض بدورها لوضع المرأة في مجتمع متهالك.

إنّنا اليوم، نشهد عودة هذا الواقع التراجيدي، باستفحال الفكر المتطرف، وانتشار الحركات المتطرفة، التي تعادي الحياة، وتعادي الفن، وتقيم محاكم التفتيش في كلّ زوايا الوجود. نشهد اليوم، تطورًا خطيرا لروح الأصوليات التي غزت العقول، وأصابت الناس بالعمى، وفي هذا الزمن بالذات، نشعر بالحاجة إلى سرد الحكايات، لأجل التحرر من هذا الواقع، ومن أجل مقاومة انحرافاته الخطيرة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ضياء جبيلي: البصرة مدينة حكايات مستمرة

ربيع علم الدين يفوز بـ"فيمينا": خصوصية الروائي