01-أبريل-2019

كان بوتفليقة زعيمًا إشكاليًا على طول فترة حكمه (أ.ف.ب)

مثل أي مريض عاجز انتهت به القناعة هذه المرة أنه فعلًا "طاب جنانو" (لفظ استعمله في خطاب شهير عام 2012 قبيل مرضه للتدليل بأن جيله انتهى زمنه)، ولن يستعيد قدراته الجسدية والعقلية كما كان يصول ويجول دائمًا، قد يعيش الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة حاليًا زمن مراجعة الساعة الأخيرة. هي المراجعة الضوضاء التي تحلّ وقت السكينة في لحظة عجز الإنسان، ولكن هكذا مراجعة، بالنسبة لبوتفليقة ولكل إنسان حاكمًا كان لا محكومًا، يكون وقعها أشدّ إذ قد يتعاظم فيها الشعور بالندم وتتبيّن فيها فداحة سوء التقدير فيما مضى.

أمام شارع ساخن إذًا تتصاعد دينامكيته من جهة، وفي ظل الوعي بأن أجنحة داخل السلطة تتصيّد لتقديمه قربانًا من جهة أخرى، وجد بوتفليقة نفسه أمام ضرورة البحث عن الخروج الآمن

لا يُعلم أعظم ما ندم عليه بوتفليقة لكن الراجح، بمقياس رجل عُرف عنه الكثير من الأنفة والكبرياء، أنه لم يكن يتمنى أن تنتهي مسيرته مقعدًا عاجزًا يصارع الموت والجزائريين هبّوا جحافل متراصّة في تظاهرات حاشدة مطالبة بإسقاط نظامه، بل ولا يقدر على مخاطبتهم بالصوت والصورة وهو الذي عُرف عنه تميّزه في الخطابة.

اقرأ/ي أيضًا: ثلاث خواطر من داخل الحراك السّلميّ في الجزائر

حاصره حراك 22 شباط/فبراير أسبوعًا بعد أسبوع في مأزق يصعب الإفلات منه، كما أفلت من احتجاجات القبائل 2001 واحتجاجات 2010، وذلك رغم حزمة التنازلات السريعة المقدّمة التي لم ترض شارعًا يحمل شعارات بسقف عال عنوانها تأسيس الجمهورية الثانية على أنقاض نظام جمهورية ما بعد الاستقلال.

أمام شارع ساخن إذًا تتصاعد دينامكيته من جهة، وفي ظل الوعي بأن أجنحة داخل السلطة تتصيّد لتقديمه قربانًا من جهة أخرى، يغادر بوتفليقة الآن مستقيلًا ولا يُعلم هل سيحفظ التاريخ اسمه كرئيس "حكيم" وربما كـ"مؤسس" لجمهورية ثانية أم سيُرمى بوصف الرئيس "المخلوع"؟

عودة مستوجبة، في الأثناء، لمسيرة بوتفليقة منذ صعوده، أو تصعيده لأكثر دقة، إلى رئاسة الجمهورية عام 1999 ومشواره في قصر المرادية، ومنه بصفة أشمل، تسليط للضوء على دائرة المشهد الجزائري طيلة العشرتين الماضيتين، سياقات وتقديرات، بالخصوص على مستوى تفاعلات أجنحة السلطة المتصارعة فيما بينها بطبيعتها وكذا على مستوى علاقة الوضع الاقتصادي والاجتماعي في بلد ريعي بملف الإصلاح السياسي.

الثعلب البومديني.. رئيس الأزمة

الانفراج الزائف هو العنوان المكثف الذي يلخص الأحداث التي شهدتها الجزائر وسط التسعينات. انفراج أنهى الفترة الانتقالية مؤسساتيًا (هياكل المجلس الأعلى للدولة والمجلس الاستشاري الوطني ثم المجلس الوطني الانتقالي) التي أدارات البلاد بداية التسعينات بعد إلغاء نتائج الانتخابات البرلمانية، وذلك بعقد أول انتخابات رئاسية تعددية في تاريخ البلاد عام 1995 أفرزت صعود اليمين زروال الذي أشرف بدوره على إعداد دستور 1996، الدستور الحالي للبلاد.

ولكنه انفراج زائف إذ اشتد الصراع داخل أجنحة السلطة ومحوره التعامل مع الجبهة الوطنية للإنقاذ والجماعات الإرهابية حتى فاز التجمع الوطني الديمقراطي (الأرندي) بالانتخابات التشريعية عام 1997، الحزب "الزروالي" الناشئ بعد سخط أجهزة الدولة على جبهة التحرير زمن أمينها العام عبد الحميد المهري خاصة بعد توقيعه على وثيقة "سانت ايجيدو" التي وصفت ما جرى بأنه "انقلاب". زيف الانفراج تأكد مع تصاعد هجمات الجماعات المسلحة خاصة عبر مذابح وحشية بالخصوص سنتي 1997 و1998 التي زادت بشكل غير مسبوق في إشاعة اللاأمن بين الجزائريين. ولم يدم الوفاق طويلًا بين زروال وبقية الجنرالات "زملائه" السابقين، وقد أُهين الرجل عبر بوابة الصحافة الخاصة فيما تُعرف بحملة صيف 97، حتى دُفع للاستقالة في زمن الحرب المفتوحة وكان محل الخلاف بين الفريقين حول مسألة التفاوض مع الجماعات الإرهابية، وإن اختلفت الروايات، قطعًا، حول تفاصيل هذه المسألة التي لا زال لا يعلم الجزائريون عنها الكثير.

كانت أجنحة السلطة بحاجة لرئيس جديد، وكانت العودة لوزير سابق اسمه عبد العزيز بوتفليقة تُداول اسمه في الكواليس لتصديره للمشهد بداية التسعينات قبل التراجع عنه ليُعاد طرحه من جديد. هو الرجل الذي قاد بعمر 27 سنة الديبلوماسية الجزائرية زمن الستينات فكان أصغر وزير خارجية في العالم حينها، ولم يكن مجرّد وزير زمن الرئيس الأسبق الهواري بومدين، بل كان في دائرته الضيقة وأحد أقرب مقربّيه، وهو من نعى بومدين وبكاه في جنازته عام 1978، بل تُداول اسمه كخليفته المحتمل. لكن الشاذلي بن جديد حل على غير المتوقع مكانه، وهو الذي سيقود الجزائر طيلة الثمانينات على نهج إلغاء معالم الجزائر البومدينية، نهجًا وأشخاصًا، ليُلاحق بوتفليقة في قضية فساد بداية الثمانينات حتى وُري على أنظار المشهد العام.

 ورث بوتفليقة نظامًا اقتصاديًا ريعيًا بامتياز قوامه النفط الذي مثل 98 % من حجم الصادرات عام 2000. وتزامنت العشرية الأولى لبوتفليقة مع ارتفاع لأسعار النفط

بوتفليقة، أحد أعضاد "مجموعة وجدة" النافذة زمن بومدين، ورغم صغر سنه في بداية الستينات، كان رجلًا استثنائيًا. تجمع روايات متقاطعة أن أحد أسباب مسارعة بومدين بانقلابه العسكري عام 1965، الذي سيسمى لاحقًا بحركة التصحيح الثوري، هو إعلان أول رؤساء البلاد أحمد بن بلة رغبته في إبعاد بوتفليقة. نشرت مجلة "لونوفال أوبسارفاتور" الفرنسية، في شباط/فبراير 2019، فحوى بعض تقارير أعدتها أجهزة الاستخبارات الفرنسية حول شخصيته، ورد في إحداها إفادة من الوزير المنتدب لدى سفارة فرنسا لويج دوج في برقية مشفرة أرسلها لباريس بعد اجتماع  مع بوتفليقة، قال فيها إنه "من الواضح أن وزير الخارجية مسؤول شخصيًا عن الانقلاب".

حينما كان بوتفليقة وزيرًا للخارجية، اغتالت الأجهزة الجزائرية عام 1970 أحد زعماء ثورة التحرير كريم بلقاسم في فرانكفورت. اغتيال خطط له الملحق العسكري لسفارة الجزائر في باريس، وفق جهاز التوثيق الخارجي لجهاز مكافحة التجسس الفرنسي. ولا يمكن لهكذا عملية قطعًا أن تتم دون متابعة مباشرة، تجاوزًا لمجرد العلم، من بوتفليقة. ولعلّ مدى نفوذه يتأكد من مذكرة بوزارة الخارجية الفرنسية بتاريخ 7 تشرين الأول/أكتوبر 1974 تقول إن بوتفليقة أجبر بومدين على إبقاء زوجته في الظلّ، إذ بدأ الرجل القصير بتحريك قضية ضدها عبر فواتير شراء مجوهرات في باريس تم إرسالها عبر السفارة الجزائرية في فرنسا، وذلك بعد أن حاولت زوجة الرئيس الظهور بشكل بارز لا يروق لبوتفليقة.

كان بوتفليقة زعيمًا إشكاليًا على طول فترة حكمه (أ.ف.ب)

هو "شخص عديم الضمير ويتمتع بذكاء حاد وطموح كبير، وقادر على المخاطرة برهانه مرة واحدة"، "محاور مُخادع ومناور كبير ومحب للسلطة ورجل كافة المؤامرات"، هذا ما انتهى إليه الفرنسيون وفق تقديرات أجهزة استخباراتهم، وهي صفات ستتأكد لاحقًا حينما استطاع بوتفليقة أن يعود من الباب الخلفي عام 1999 كمرشح توافقي، إلى حد ما، بين أجنحة السلطة ثم طيلة عشريتين كرئيس للبلاد.

في الأثناء، ليست التسريبات الأخيرة لهكذا تقارير استخباراتية بخارج عن توجيه فرنسي رسمي هو في وضع أزمة في حقيقته، ذلك أن أكثر ما يؤرّق الفرنسيين جزائريًا، وهو ما يؤرق حقيقة المتابعين للحالة الجزائرية إجمالًا، هو حالة الضبابية وعنصر المفاجأة بين الفينة والأخرى بما يصعّب مهمّة التقدير دائمًا.

اقرأ/ي أيضًا: حراك الجزائر.. ثورة الشباب على بوتفليقة والأبوية

عودة لبوتفليقة، تمثل قدرته الخطابية من أبرز سماته وتحديدًا عبر تصدير خطاب حادّ كبريائي يثير الجماهير. في خطاب شعبي في عنابة خلال حملته الانتخابية عام 1999، تحدث بوتفليقة عن الجارين تونس والمغرب بكثير من الصرامة، فالجزائريون، زمن التسعينات، كانوا يرون بلدهم في حالة انهيار ودولتهم في حالة استضعاف ويغبطون حال الجارين، ولذلك خطاب أنفة، يقدمه الرجل الوافد، يثير الحماسة لدى جزائري منهك بحاجة لخطاب يسترجع أمجادًا بدت ضائعة. في ذلك الخطاب، قال بوتفليقة "لو نشمرو على سواعدنا والله لا يغلبونا لا المغاربة ولا التوانسة"، وتحدث عن المخدرات القادمة من المغرب، وحينما قاطعه أحدهم بأن "التوانسة أعطونا تراحة (ضربونا) عام 1963"، رد بوتفليقة غاضبًا "لا أحد يضربنا بل الجزائر هي المشهورة بأنها من تضرب". وحينما كان يهيج الجمهور بين الفينة والأخرى أمام هكذا خطاب حماسي، قال الرجل الذي يطرح نفسه عليهم كرئيس جديد للجماهير أمامه "حاولوا بردوني شوية"، وكأنه يقول إنه يكفيه ما يحمله من الحماسة. لقد كانت "استعادة كرامة الجزائريين" و"استعادة مكانة الجزائر بين الأمم" من وعوده الانتخابية الأساسية.

في خطاب آخر شهير بمدينة بشار المحاذية للمغرب، توجه بوتفليقة للجماهير أمامه "هل تريدونني أن أقوم بثورة وحدي؟ حاسبوني على الجنرالات وأنا أحتاجكم جميعًا لتسوية الأمور". أراد المرشح أن يكشف، منذ البداية، مشروعه في مواجهة "الجنرالات" بخطاب حماسي جعله يظهر في صورة الرجل القوي وليس الدمية التي يحركها رجال من خلف الكواليس.

ترشح، في نهاية المطاف، الرجل القصير لتلك الانتخابات وحيدًا مستقلًا وقد انسحب منافسوه الستة بصفة جماعية بعد يقينهم بأن الرجل العائد هو مرشح السلطة في انتخابات تفتقد معايير النزاهة، فصعد الثعلب البومديني لرئاسة البلاد بنسبة تناهز 73 في المئة. كان دخول قصر المرادية هو بداية الاختبار الأصعب لبوتفليقة، إذ لم يكن السؤال منذ البداية حول حظوظه في الانتخابات بل كان حول قدرته على إدارة التوازنات داخل السلطة بعد غياب طويل عنها.

إدارة التناقضات.. التمكين الرئاسي

دخل بوتفليقة قصر الرئاسة في نهاية المطاف وهو يعلم أنه في ظرف 8 سنوات قبله دُفع رئيسان برتبة "جنرال" للاستقالة (الشاذلي بن جديد في 1992 واليمين زروال في 1998)، وقُتل آخر (محمد بوضياف في 1992)، وطبعًا عدا عن حرب مفتوحة وشرسة ضد الإرهاب هددت كيان الدولة والسلم الأهلي، وبذلك كان كمن يمشي على خيط من نار.

طرح بوتفليقة بعيد أشهر من صعوده للرئاسة قانون الوئام المدني الذي عُرض على استفتاء شعبي نهاية عام 1999 وحظي بموافقة 98.6 في المئة من الناخبين، قانون نص في فصله الأول على "تدابير خاصة بغية توفير حلول ملائمة للأشخاص المورطين والمتورطين في أعمال إرهاب أو تخريب.. بإعطائهم الفرصة.. على نهج إعادة الإدماج المدني في المجتمع". هذا القانون هو استتباع، بشكل أو بآخر، لقانون الرحمة الذي أصدره زروال سابقًا، وتأكيد على تمشي القيادة العسكرية نحو معالجة غير استئصالية وأمنية بحتة في مواجهة الإرهابيين، والحاجة لتحييد أكبر قدر ممكن منهم خاصة في سياق عالمي حينها عرف تصاعد خطر الجماعات الإرهابية الدولية وبالخصوص "تنظيم القاعدة".

اقرأ/ي أيضًا: الطلبة يلتحقون بالحراك الشعبي ضد العهدة الخامسة لبوتفليقة

ظهر بوتفليقة كصاحب مشروع الوئام المدني ولكن في جوهره هو مشروع المجموعة التي نفضت الغبار عن بوتفليقة نفسه واستقدمته لتلك المهمة الأولى. أي دوافع جعلت الحاجة إليه؟ هو ليس عسكريًا وليس ابن الأجهزة الأمنية، فقد بدأ مشواره من غرف الدبلوماسية وليس من ثكنات الجيش، وهذه الصفة كانت مطلوبة في الرئيس الجديد من كبار قادة الجيش ذلك أن من سبقه أي اليمين زروال كان عسكريًا بل وزيرًا للدفاع، وكان يجادل بقوة مع زملائه السابقين في المؤسسة العسكرية حول التعاطي مع ملف الإرهاب. بوتفليقة ليس رجل حرب وميدان، ولكنه ثعلب ديبلوماسي أثبت في السنوات اللاحقة أنه ليس مجرّد لقمة سائغة ففعل ما لم يفعله أصحاب البزات العسكرية.

لكن ما إن بدأ الوضع يستتب أمنيًا بداية الألفية الجديدة، حتى جاء الاختبار الأول لبوتفليقة في مواجهة ملفات قديمة ركُنت على الرف طيلة سنوات الجمر أمام أولوية الملف الأمني. اندلعت في نيسان/أبريل 2001 تحركات شعبية غير مسبوقة في منطقة القبائل شمال شرق الجزائر ذات الأغلبية السكانية الأمازيغية، لمطالبة السلطة بحقوق اجتماعية واقتصادية وثقافية من النظام الذي ظهر للعموم أنه لم يغيّر إلا رأسه.

منطقة القبائل الثائرة والمغبونة تاريخيًا في توازنات النظام المناطقية والعروشية خاصة منذ إبعاد "مجموعة تيزي وزو" في أزمة صائفة 62 فجر الاستقلال، هي معقل جبهة القوى الاشتراكية "الأفافاس" لمؤسسه حسين آيت أحمد أحد زعامات ثورة التحرير وهو الذي قاد انتفاضة مسلحة ضد بن بلا بعيد الاستقلال، منضمًا مبكرًا لجناح المعارضة التاريخية. وهي المنطقة التي أنجبت زعيمًا آخر للثورة هو كريم بلقاسم، أحد أعضاء "مجموعة الستة" التي أطلقت ثورة 1 تشرين الثاني/نوفمبر، والذي اُغتيل لاحقًا غدرًا في ألمانيا زمن بومدين. كانت إذن أمام بوتفليقة حركة العروش أو الربيع الأسود كما سُميّت، وقد دامت شهورًا وخلفت قتلى أمام آلة قمع أمنية، وهو ما دفعه للمسارعة إلى تعديل الدستور عام 2002 وإدراج اللغة الأمازيغية كلغة وطنية. تعديل مرّ عبر قبة البرلمان وليس عبر استفتاء شعبي.

لماذا لم يكن تعديلًا عبر استفتاء شعبي؟ لم يرد بوتفليقة تعميق الأزمة إذ أعرب صراحة عن تخوفه من أن يكون الرد الشعبي غير إيجابي، خاصة مع ما يعنيه الاستفتاء من رمي بملف اللغة الأمازيغية في ساحة الوغاء التقليدي بين الحراك الأمازيغي والتيار العروبي، مفضلًا، خلاصًة، تقصير حبل أزمة بدت حينها تنسف أسهمه الصاعدة في الداخل والخارج في الآن ذاته.

كان بوتفليقة، في الأثناء، بحاجة لماكينة حزبية ويد طولى في البرلمان، ولا موقع أضمن من جبهة التحرير الوطني التي أعادها لتتصدر الانتخابات التشريعية عام 2002 بدل التجمع الوطني الديمقراطي (يرأسه أحمد أويحيي) الذي اٌنشأ خصيصًا لخوض انتخابات 1997، قبل أن يصبح لاحقًا حزبًا ملحقًا بجبهة التحرير ضمن كوكبة حزبية تابعة لحاكم المرادية، أكثر من دورها المفترض كمفاتيح للعملية السياسية.

لكن انتهت مهام الرجل وعليه المغادرة من حيث أتى، هي جملة تردد صداها في بعض أروقة السلطة التي استقدمت بوتفليقة الذي بدأ يهمّ نفسه بالترشح لولاية ثانية عام 2004. تلك الانتخابات الرئاسية التي ستصبح نموذجًا لصراع أجنحة السلطة: رئيس حكومة بوتفليقة (بين 2000 و2003) علي بن فليس مدعومًا من قائد أركان الجيش محمد العماري يواجه بوتفليقة نفسه مدعومًا من قائد جهاز الاستخبارات العسكرية "دي أر أس" الجنرال محمد مدين المعروف بـ"الجنرال توفيق". هكذا ظهرت الصورة اختصارًا.

العماري وبومدين هما رجلان مفتاحان في النظام الجزائري، الأول تولى قيادة الجيش في العام 1993، والآخر تولى قيادة الاستخبارات العسكرية في العام 1990، ويُضاف إليهما رجل ثالث هو الجنرال إسماعيل العماري، الرجل الثاني في قيادة الاستخبارات الذي أجرى بصفة شخصية مفاوضات مع قيادات الجبهة الإسلامية للإنقاذ وفق شهادات متواترة، وآخر رابع هو العربي بلخير الذي كان مدير ديوان الشاذلي بن جديد ثم وزير الداخلية بعيد انقلاب كانون الثاني/يناير 1992، وليوضع رقيبًا على بوتفليقة كمدير ديوانه طيلة عهدته الأولى. حين الحديث عن "دولة الجنرالات" زمن تصعيد بوتفليقة، يأتي الحديث رأسًا عن هذا الرباعي.

الجنرال محمد العماري قائد الجيش كان فاعلًا أساسيًا في إنهاء المسار الانتخابي حينما كان قائدًا للقوات البرية، وذلك مع كوكبة "الجانفيين"، المصطلح الدارج للمنقلبين، مع "رأس الأفعى" رئيسه وقتها ووزير الدفاع خالد نزار، أما الجنرال توفيق فهو الذي يقود جهازًا يظهر كعصب للنظام، جهاز متعدد الأذرع في كل المواقع في الإدارة والأحزاب والإعلام. لكن وضعت الحرب المفتوحة أوزارها وانتهت عنوانًا العشرية السوداء، فتحول الصراع بين مراكز النفوذ داخل السلطة، ذلك أن أكثر ما يضير الفاعل الأمني أنه لم يعد يملك مسوّغًا أمنيًا لتأمين نفوذه وتعزيزه، وتكون المعركة أكثر ضراوة إن كان المنافس حاملًا لبزّة عسكرية أيضًا.

فاز بوتفليقة في الانتخابات وجاءه بعد أيام قائد الأركان محمد العماري مقدمًا استقالته فيما بدا استباقًا لإقالته. حاول العماري بذلك الحفاظ على الحد الأدنى من كرامة تلاعب بها بوتفليقة، فقائد الجيش وجد نفسه كالواقع في مصيدة ثعلب. لقد استثمر بوتفليقة في صراع النفوذ بين من استقدموه عام 1999 لينفذ فيما بينهم في مهمة تصفية الواحد تلو الآخر.

فبعد تجديد ولايته الثاني وتحديدًا عام 2005، أبعد بوتفليقة مدير ديوانه الذي رافقه منذ صعوده للمرادية اللواء العربي بلخير وذلك بتعيينه سفيرًا في المغرب. فيما كان الصراع الأشد لاحقًا مع حليف الأمس الجنرال توفيق الذي رفض ترشح بوتفليقة لعهدة ثالثة عام 2009 فحوصر بتجريدة من عديد الأذرع عبر حزمة قرارات أيلول/سبتمبر 2013 (إلحاق 3 أجهزة تابعة للاستخبارات العسكرية تهمّ الأمن العسكري ومديرية الإعلام التي تتابع ملف الإشهار العمومي والتحقيق القضائي بقيادة الأركان العسكرية) وذلك قبل إقالته في أيلول/سبتمبر 2015.

ما بعد العشرية السوداء.. العشرية الرمادية؟

ظهر بوتفليقة، طيلة العهدتين الأوليتين أي خلال العشرية الأولى من حكمه، في صورة الرجل المنتظر الذي أنهى سنوات الجمر وأعاد الأمن للجزائريين. "من كان يجرؤ على الخروج من بيته بعد السادسة مساءً؟"، هكذا خاطب بوتفليقة في تجمع خلال حملة انتخابية عام 2004، وهو الذي جعل من دوره في إنهاء العشرية السوداء رصيدًا سياسيًا لا ينضب كالنفط.

كان بوتفليقة زعيمًا إشكاليًا على طول فترة حكمه (أ.ف.ب)

النفط؟ ورث بوتفليقة نظامًا اقتصاديًا ريعيًا بامتياز قوامه النفط الذي مثل 98 في المائة من حجم الصادرات عام 2000. وتزامنت العشرية الأولى لبوتفليقة مع ارتفاع لأسعار النفط لتوفر الخزينة العامة للبلاد عائدات مالية ضخمة، وكأن كل الظروف تخدم الرجل الجديد. فمثلًا دخل بوتفليقة للمرداية في نيسان/أبريل 1999 وسعر البترول في حدود 29 دولار، لكنه سيتجاوز الحاجز 50 دولار منذ 2004 ليصل 161 دولار في منتصف 2008. وحينما اندلعت وقتها الأزمة المالية العالمية، راكمت الجزائر احتياطي صرف بلغ 135 مليار دولار أي ما يعادل 3 سنوات من التوريد.

اقرأ/ي أيضًا: الحكم في الجزائر.. ممنوع دخول الشباب

ستشهد أسعار النفط في السنوات اللاحقة انخفاضًا وستتقلص إيرادات الدولة ولكنها ستظلّ في مستوى مرموق. فمثلًا، قدم صندوق النقد الدولي عام 2012 طلبًا رسميًا للاستدانة من الجزائر لتأمين السيولة لمنح قروضه لعديد الحكومات في العالم. ولكن ستكون الصعوبات أكثر حدّة في الأعوام اللاحقة خاصة بعد انخفاض سعر البرميل لما دون 100 دولار منذ عام 2014 بل انهار لما دون 50 دولار سنتي 2015 و2016.

وُظّفت "البحبوحة" المالية في سياسات للإنعاش الاقتصادي عبر مخططات خماسية تهدف لدفع النمو لرفع الإنفاق العمومي من أجل تحفيز الطلب، أي سياسة كينزية محضة، إذ ترجمت الدولة العائدات الضخمة في مشاريع عمومية عملاقة على مستوى البنية التحتية، ومن ذلك أن الحكومة قررت عام 2010 ضخ 130 مليار دولار لتدارك "مجرّد" التأخير في تنفيذ مشاريع في قطاعات النقل والإسكان وغيرها.

تحققت أرقام إيجابية على مستوى مؤشرات الاقتصاد الكلي على غرار تطور الناتج الإجمالي المحلي من 48.6 مليار دولار عام 1999 إلى 102.8 مليار دولار عام 2005، ليرتفع نصيب الفرد الواحد من هذا الناتج الداخلي من 1623 إلى 3100 دولار خلال ذات الفترة. كما انخفض التضخم من 4.2 إلى 1.6 في المائة بين سنتين 2001 و2005، وارتفع النمو الاقتصادي من 2.2 في المائة عام 2000 إلى 6.9 في المائة بعد ثلاث سنوات فقط. بل بلغ الاحتياطي النقدي الأجنبي مستوى تاريخيًا قُدّر عام 2005 بحوالي 56.2 مليار دولار. وفي مستوى المؤشرات الاجتماعية، تراجعت مثلًا نسبة البطالة إلى النصف خلال 5 سنوات فقط بين عامي 2000 و2005 وتحديدًا من 29.5 إلى 15.3 في المائة، كما تراجعت نسبة الفقر بـ13 نقطة في ظرف 15 سنة (من 20 إلى 7 في المائة بين 2002 و2017).

ولكن لم تؤد هذه السياسات لتحقيق النتائج المندوبة على المستوى الاجتماعي القاعدي مع سيطرة الشعور بغياب العدالة الاجتماعية في توزيع الثروات الوطنية، وقبلها لم تحقق الإنعاش الاقتصادي المطلوب إذ لم تحجب شجرة الأزمة الهيكلية للاقتصاد الجزائري التي كانت تتبيّن أوراقها أكثر وأكثر في السنوات الأخيرة.

فبين 2000 و2010، تراجعت نسبة المحروقات من إجمالي الصادرات بنسبة 0.4 في المائة فقط أي من 98 إلى 97.6 في المائة. ومثل عدم تنوع الاقتصاد المعضلة الأساسية التي جعلت النظام يحبس أنفاسه كلّما انخفضت أسعار النفط عالميًا، وهو الذي اقتفى الطريق السهل عبر مراكمة الفوائض واستثمارها في مشاريع عمومية وأخرى غير ذات نجاعة وغير مستديمة لشراء السلم الاجتماعي مع سخاء في دعم السلع، وذلك بدل سلك طريق تنويع الاقتصاد. فمثًلا سجل القطاع الصناعي نسب نمو متدنية وحتى ارتفاع القطاع الصناعي الخاص بمتوسط نسبة 4.1 في المائة بين 2000 و2010 ارتبط بالمشاريع العمومية، وهو ما جعل قطاع البناء والأشغال هو المستفيد الأساسي عمليًا من سياسات دعم الإنعاش الاقتصادي.

وعلى مستوى المؤشرات الاجتماعية، تراجعت نسبة البطالة من 25.7 إلى 11.3 في المائة مثلًا بين 2002 و2008، لكن الانخفاض يعود لثلاثة قطاعات هي الخدمات والأشغال العمومية والفلاحة بشكل أقل ولكن المشكل أن القطاعين الأخيرين لا يوفران إلا مواطن شغل مؤقتة وغير مستديمة، في المقابل لم يشهد قطاع الصناعة زيادة في العمالة إلا بنسبة 1 في المائة خلال الفترة بين 2000 و2008. كما ظلت البلد غير جاذبة للاستثمارات، رقم مستجدّ ربما يلخص هذه النقطة، وهو تصنيف الجزائر في المرتبة 157 عالميًا خلف جلّ الدول العربية والإفريقية في مؤشر "ممارسة الأعمال لعام 2019" الذي يصدره البنك الدولي سنويًا.

كانت كل المؤشرات تؤكد أن المعضلة دائمًا هيكلية بالأساس، لا تحتاج لسياسات دعم للإنعاش الاقتصادي بل تحتاج تغييرات عميقة في بنية الاقتصاد. بيد أن الأدهى أن الجزائر بات ينُظر إليها كحالة شاذة عالميًا بين ضخامة النفقات العمومية وتحقيق نسب نمو دون المأمول. بوتفليقة اعترف بنفسه بضعف المردودية الاقتصادية في خطاب حين ترشحه في 2008، أي في عزّ "البحبوحة المالية"، حينما قال "سلكنا طريقًا كنّا نظنّ أنّه سيقودنا إلى الجنّة!".

قامت، في الأثناء، سياسات الإنعاش الاقتصادي على تعزيز الانفتاح على القطاع الخاص في إطار تنفيذ المشاريع العمومية، وهو ما أدى إلى توسع نفوذ هذا القطاع مع ما ترادف من انتشار شبكات المحسوبية والرشوة واستفحال آفة الفساد. إذ مثلت هذه المشاريع الضخمة وجبة دسمة للمافيا السياسية/المالية التي باتت أشبه بالأخطبوط مترامية الأطراف في كل المواقع.

وما كان إلا أن تُفتضح، بين الفينة والأخرى، ملفات فساد ضخمة، والحديث بالأساس عن فضيحة "مجمّع خليفة" المملوك لرجل الأعمال عبد المؤمن خليفة، قضية انكشفت عام 2002 بلغت كلفتها على اقتصاد البلاد، وفق تصريحات رسمية، 1.3 مليار دولار. اُثير تحقيق قضائي اقتصر على إطارات المجمّع الذي كان يضمّ بنكًا وشركة للبناء وأخرى للطيران وقناة تلفزية وفروع عديدة، فيما كان يؤكد المتهم الرئيسي، الذي هرب حينها إلى بريطانيا، أن بوتفليقة ووزراءه انقلبوا عليه بعد عدم دعمه لجناح الرئيس مجددًا.

وبعد بضع سنوات وتحديدًا عام 2010، استفاق الجزائريون على فضيحة فساد أخرى، ربما هي الأكبر في تاريخ الجزائر، فضيحة "سوناطراك" التي شملت بالخصوص شكيب خليل، أحد أكثر المقرّبين من بوتفليقة إذ كان مستشاره عام 1999 قبل أن يوليه وزارة الطاقة والمناجم، الوزارة "السيادية" في الجزائر، حتى عام 2010. ملف تعددت أطوراه ومسلسلاته القضائية طيلة السنوات الماضية، وكان إعداده قضائيًا وإخراجه إعلاميًا ليس ببعيد عن معركة كسر العظام داخل النظام. إذ أشرف جهاز قضائي تابع لجهاز الاستخبارات العسكرية على التحقيق فيما بدت الفضيحة تستهدف بوتفليقة رأسًا. وذلك دون تجاوز ما عُرف بـ"مشروع القرن" لإنشاء طريق سيارة يربط شرق البلاد وغربها بطول 1720 كم، والذي مثل أيضًا وجبة دسمة لمافيات الفساد، في حين خرج وزير الأشغال العمومية المورط في هذا الملف عمار غول ليتهم علنًا جهاز المخابرات العسكرية بفبركته لاستهداف بوتفليقة.

اقرأ/ي أيضًا: عصر بوتفليقة.. من تقديس الوطن إلى تقديس الفرد

لم تعد الصراعات على كعكة الفساد بل باتت ملفات الفساد توظّف في هذه الصراعات. خرج الجنرال حسين بن حديد، المستشار السابق لزروال، عام 2014 في خروج إعلامي نادر لشخص بصفته ليهاجم حاشية بوتفليقة مؤكدًا أن جهاز الاستخبارات العسكرية يملك ملفات ضد المقربين من الرئيس عن عمليات نهب بقيمة 37 مليار دولار. بالنهاية، بات الفساد في الجزائر سمة لاصقة بالنظام وليس مجرد ظاهرة عابرة، وقد استفحل في نظام ريعي منتجًا علاقات قائمة على الزبونية والرشوة وتبادل المصالح، بل أصبحت الجزائر نموذجًا مثاليًا في العالم عن العلاقة السببية بين نمط الإنتاج الاقتصادي وانتشار الفساد السياسي.

الإصلاح السياسي.. العصا والجزرة

كان ينص الدستور الجزائري على عهدة رئاسية بدورتين فقط، وكان من المفترض أن يغادر بوتفليقة قصر المرادية في العام 2009، ولكنه أبى تسليم السلطة ومغادرة منصب لطالما سعى للوصول إليه ثم حارب سنوات للبقاء فيه. أبى بوتفليقة المغادرة وهو لا يرى موجبًا أن يحيل قطافه لسلة الآخر وخزينة الدولة متورّمة حينها فوائض مالية، وهو يعي أن الكثير من مشاريعه المعلنة لم يحققها بعد فالمنظومة، تنظيمًا ورجالًا، لا زالت بذاتها ويعوزه أن يغادر السلطة دون موجب عدا "مجرّد مانع دستوري".

فصديقه السابق وخصمه اللاحق مدير المخابرات العسكرية الجنرال توفيق، لا زال في منصبه منذ بداية التسعينات ولم يقدر أي رئيس على إبعاده بل ظهر في صورة صانع الرؤساء حتى كُنى بأنه "رب الدزاير". فأن يغادر بوتفليقة منصبه سيجعله يكرس "أسطورة" هذا الرجل.

قدم الرئيس السبعيني، إذًا، تعديلًا دستوريًا انطلاقًا من "واجبه الأخلاقي" كما قال، ليتمكن من الترشح لولاية ثالثة فاز بها بنسبة بلغت 90 في المائة (مقابل 73 و85 في المائة في الدورتين السابقتين). كان دوره في إنهاء سنوات الجمر وبحبوحة مالية نتيجة ارتفاع أسعار النفط عاملين كفيلين بشراء الولاء السياسي والسلم الاجتماعي. وكان تعديل الدستور مشخصنًا، فلم يكتف بوتفليقة بفتح المجال لتجديد ولايته، ولكن عزز منصبه واسع الصلاحيات بطبعه في نظام رئاسي عبر إلغاء خطة رئيس الحكومة وتعويضها بخطة الوزير الأول تحت مبرّر "تحمل المسؤوليات واتخاذ القرارات الناجعة بسرعة"، وعليه بعد أن كان يوجد رئيس الحكومة "يضبط برنامج الحكومة" حلّ وزير أول "ينفذ برنامج رئيس الجمهورية". لم يكن تغيير التسمية تغييرًا في شكل النظام السياسي بقدر ما كان تغييرًا تعكسه فلسفة تركيز السلطة التنفيذية بيد رئيس الجمهورية، أو بأكثر دقة تركيز السلطة، كل السلطة، بيد رئيس الدولة.

لكن لم تمر أشهر حتى اندلعت شرارة الثورات العربية في الجار التونسي قبل أن تتوسع لجار آخر هو ليبيا، وكانت قد عرفت الجزائر نفسها في كانون الأول/ديسمبر 2010 مظاهرات في عديد الولايات للمطالبة بالتنمية وتحسين الأوضاع الاجتماعية، غير إنها انكمشت تباعًا.

خرج بوتفليقة في خطاب بتاريخ 15 نيسان/أبريل 2011 ليقدم حزمة إصلاحات سياسية تقوم على نقطتين أساستين: تعديل الدستور من جهة وإصدار قوانين أو تعديل بعضها لتعزيز المشاركة السياسية والمدنية من جهة أخرى. وصادق البرلمان على حزمة قوانين أساسية بداية عام 2012 أهمها قانون الأحزاب وآخر للجمعيات إضافة لقانون لتعزيز تمثيلية المرأة في المجالس المنتخبة، وذلك قبيل الانتخابات التشريعية التي انتظمت في أيار/مايو من ذات العام وأفرزت برلمانًا بذات التركيبة التمثيلية القديمة، بل إنها زادت في عدد مقاعد جبهة التحرير الوطني وحليفه التجمع الوطني الديمقراطي مقابل تراجع تمثيلية الإسلاميين (تحالف الجزائر الخضراء). عدا عن الخلل الأصلي في نزاهة الانتخابات وشفافيتها على غرار التمويل واستغلال موارد الدولة، زاد النظام الانتخابي المعتمد، في تعميق أزمة التمثيلية السياسية، ومن ذلك أن جبهة التحرير تحصلت على 14.1 في المائة فقط من نسبة الأصوات ولكنها غنمت 47.8 في المائة من مقاعد البرلمان.

أما تعديل الدستور، فمسار إعداده كان طويلًا في ظل ضبابية السلطة في تحديد منهجيته من خلال تعدد مسارات المشاورات، وقد تحول إلى ورقة مماطلة تجاه المعارضة ثم تحول إلى وعد انتخابي في رئاسيات 2014 ليتواصل الأخذ والرد بشأنه، حتى صاغت السلطة مشروع تعديل مررته على البرلمان عام 2016 دون استفتاء.

تضمن التعديل مراجعة واسعة لعديد أبواب الدستور بأكثر من 100 مادة دفعة واحدة، ونص بالخصوص على اعتبار اللغة الأمازيغية لغة رسمية بعد أن كانت لغة وطنية فقط، وحصر العهدة الرئاسية لمرتين فقط مجددًا، وتعيين الوزير الأول باستشارة الأغلبية البرلمانية مع إحداث هيئة عليا مستقلة لمراقبة الانتخابات ومجلس وطني لحقوق الإنسان.

رغم تخمة المواد الدستورية الجديدة خاصة في مجال الحقوق والحريات، وحُقن الانفتاح في مواد تنظيم العلاقة بين السلطات، مثل التعديل الدستوري تحسينًا شكلانيًا للسلطة التي حرصت على عدم المس في توازناتها. على مستوى الهيئات المستحدثة مثلًا، انحصر دور الهيئة الجديدة الخاصة بالانتخابات على مستوى الرقابة فقط مع بقاء تنظيم الانتخابات بيد وزارة الداخلية والأجهزة الإدارية في الولايات، أما المجلس الوطني لحقوق الإنسان فهو هيئة تابعة لرئاسة الجمهورية وليس من قبيل الهيئات الدستورية المستقلة. تضمن التعديل ترسيم اللغة الأمازيغية ولكنه دستر أيضًا المجلس الأعلى اللغة العربية، وهو ما يؤكد اختصارًا منطق السلطة في هذا التعديل، فيما جاءت العودة لتحديد العهدة الرئاسية انطلاقًا من انتفاء الحاجة لهذا التمديد.

يلخص الأمين العام السابق لجبهة التحرير "المغضوب عليه" عبد الحميد مهري الموقف من تعديل الدستور والقوانين الأساسية، بقوله إن "طرح تعديل النصوص من دستور وبعض القوانين الهامة، أختلف معه والسبب ما يؤخذ على النظام الحالي للحكم هي الذهنيات والممارسات والقرارات التي تتم خارج النص ولا تخضع لأي تقنين، وهي في مجموعها تمثل نظام حكم موازيًا لنظام الحكم المكتوب، وهذا النظام غير المنظور هو الذي يجب تغييره".

صرح بوتفليقة، في الأثناء، للعلن منذ دخوله للمرادية أنه لا يحب دستور البلاد إلا أنه لم يعدّله إلا تحت ضغط سابق سنة 2002 )الاحتجاجات في منطقة القبائل (أو موجب لاحق سنة 2008 )الترشح للانتخابات الرئاسية(. ولم يخرج التعديل الدستوري 2016 على هذا الإطار حيث جُرف في البداية في إطار حزمة الإصلاحات المعلنة بعد اندلاع الثورات العربية عام 2011، وإن حولته السلطة تباعًا أداة بيدها للترويج لعنوان الإصلاح والإيهام بالمضي فيه.

ولا يُعرف، في نهاية المطاف، إن كان هذا تعديل 2016 بتخمته هو ذاته التعديل "العميق" الذي أعلن بوتفليقة منذ توليه رئاسة البلاد رغبته في القيام به، وقد أشار إليه في كلمة عام 2008 بمناسبة التعديل الجزئي حينما اعترف أنه لن يلبي طموحاته للتعديل المُراد. إذ أن جميع الرؤساء غير المؤقتين في الجزائر أصدروا دساتير عبر آلية الاستفتاء، دستور 1963 (بن بلا)، ودستور 1976 (بومدين) ودستور 1989 (بن جديد) وأخيرا دستور 1969 (زروال)، وهو ما ظل ينقص بوتفليقة الذي رغم أنه أكثر رؤساء البلاد مدة بينهم جميعًا فهو الوحيد الذي لم يصدر دستورًا.

لكن عودة كرنولوجية للوراء، ماذا عن الإصلاح السياسي طيلة العشرية الأولى؟ لم يقم بوتفليقة إلى غاية اندلاع الثورات العربية، بل تحديدًا إلى غاية إصدار القوانين الأساسية المذكورة بداية 2012، بأي مبادرة إصلاحية حتى في إطار ضخ قوانين شكلانية للتجميل عدا إجباره على اعتبار اللغة الأمازيغية لغة وطنية بعد احتجاجات القبائل 2002، وهو اعتراف بحق ثقافي أكثر منه إصلاح سياسي. فلم يكن سؤال الإصلاح، بالخصوص في معنى توسيع مجال المشاركة في صنع القرار، مطروحًا لدى بوتفليقة طيلة النصف الأول من حكمه التي خصصها أولًا لمعالجة آثار العشرية السوداء (قانون الوئام المدني عام 1999 وقانون المصالحة عام 2005)، وثانيًا لتعزيز موقع رئاسة الجمهورية على حساب بقية أجهزة الدولة.

فلم ير بوتفليقة الإصلاح الحقيقي، بالنسبة إليه، إلا الخروج من مستنقع الحرب الأهلية، وثم تأمين موقعه كرئيس للدولة في مواجهة الأجهزة العسكرية والأمنية، وفرض نفوذه ضد "الجنرالات"، فكانت معركته متوجهة للإطباق على خصومه داخل السلطة وليس للانفتاح على المعارضة خارج السلطة، بل على العكس كان في حاجة لتدعيم حاشيته داخل جهاز الحزب والدولة عبر الرشوة السياسية خاصة عبر التحالف الرئاسي عام 2005 الذي استطاع عبره جلب الإسلاميين (حمس) إلى صفه.

وعليه بهذا المعنى، وفي إطار جدلية التناقضات الداخلية والحرب الخفية غير الظاهرة، الحديث عن الإصلاح السياسي أو أكثر كثافة الانفتاح السياسي كان، في أحد أوجهه وبالنسبة إليه دائمًا، معطّلًا من باب "فاقد الشيء لا يعطيه". وهو، في هذه النقطة تحديدًا، خشى أن يعيد سيناريو بن جديد بعد انتفاضة 88 حينما بادر نحو إصدار دستور جديد وتنظيم انتخابات تعددية نزيهة، لكن رفضت المؤسسة العسكرية نتائجها ودفعته للاستقالة، ذلك أن ظهره، بن جديد، لم يكن محميًا، وهو ما قد يفسر بطء بوتفليقة في المضي في إصلاحات جذرية بعد 2011، وذلك بغض النظر عن صدق نواياه وجديّته في ملف الإصلاح السياسي إجمالًا.

اقرأ/ي أيضًا: مناورة بوتفليقة حول الضمير الديني للجزائريين

نحى بوتفليقة بعد 2011 نحو توظيف مطلب الإصلاح الوافد من خارج السلطة في إطار الصراع داخل السلطة، أي توجيه الضغط القادم من "خصوم الخارج" لإفراغه نحو "خصوم الداخل" فكان كمن يضرب عصفورين بحجرة واحدة، ومن ذلك أن حرب تقليم صلاحيات جهاز الاستخبارات العسكرية منذ 2013 قبل الإجهاز على رئيسه الجنرال توفيق عام 2015 تزامنت في سياق خطاب إصلاحي لجناح بوتفليقة بعنوان تعزيز نفوذ المدنيين على حساب العسكريين.

أكثر من ذلك، وُظّف حتى مسار تعديل الدستور في هذا الصراع الداخلي ولذلك مثلًا تحدث أمين عام حزب التحرير السابق عمار السعداني عام 2014 عن تعديل سيؤدي إلى "ميلاد الدولة المدنية" في تصريح جاء ضمن مهمة سعداني في شن حملة إعلامية غير مسبوقة على الجنرال توفيق قبيل إقالته، وكان يقول هذا الخطاب للمطالبين بالإصلاحات إن رئيس البلاد يخوض معركته "من أجلكم" من الداخل.

تغيب بوتفليقة طيلة العهدة الرابعة (2014-2019) بشكل ملحوظ عن الظهور في المناسبات الرسمية وسط حالة من الترقب حول خليفته في مشهد ضبابي زاد من الطبيعة الفجئية للحالة الجزائرية بطبيعتها

حلت انتخابات 2014 وترشح بوتفليقة مجددًا واعدًا بإصلاح سياسي من بوابة تعديل دستوري وعد به منذ 2011، وكانت إلى حينها أسعار النفط مرتفعة (106 دولار زمن الانتخابات في نيسان/أبريل 2014) ما جعل الدولة قادرة على مواصلة الضخ في الإنفاق العمومي ودفع الاستهلاك، وكان السياق الإقليمي مع الأزمة السياسية وقتها في الجارة تونس، والانقلاب العسكري في مصر، وبلوغ الاحتراب الأهلي شدته في ليبيا وسوريا، عوامل أسهمت في ترويج خطاب السلطة لترويض الشارع الجزائري. صوت بوتفليقة، في نهاية المطاف، على كرسي متحرك وفاز بنسبة 81 في المائة.

خرج حينها الرئيس السابق اليمين زروال، بعد صمت طويل، مهاجمًا بوتفليقة وقائلًا في رسالة طويلة أن "البحبوحة المالية التي تنعم بها البلاد اليوم ليست نتيجة لنجاعة اقتصادية أو نمو اقتصادي وإنما بسبب ارتفاع عائدات النفط". لم تمرّ فعلًا بضع أشهر حتى شهدت أسعار النفط انخفاضًا كبيرًا (52 دولار في كانون الثاني/يناير 2015)، حتى تجد السلطة نفسها أمام أزمة مالية عمومية مع نسق انفاقها المرتفع، وذلك بالتوازي مع اشتداد حالة الجمود السياسي مع رئيس للبلاد حاضر في المشهد بغيابه.

المأزق الأخير.. حراك فبراير 2019

تغيب بوتفليقة طيلة العهدة الرابعة (2014-2019) بشكل ملحوظ عن الظهور في المناسبات الرسمية وسط حالة من الترقب حول خليفته في مشهد ضبابي زاد من الطبيعة الفجئية للحالة الجزائرية بطبيعتها. في خضم هذه الصورة بين الغموض في دائرة السلطة وعجز المعارضة، أعلن بوتفليقة، الحاضر الغائب، عن ترشحه لعهدة خامسة لانتخابات 2019 في خطوة كانت تعني استدامة حالة الغموض التي جعلت البلاد في حالة جمود أفقدتها الحيوية السياسية في الداخل والخارج.

كان بوتفليقة زعيمًا إشكاليًا على طول فترة حكمه (أ.ف.ب)

أفاضت هذه الخطوة كأسًا ملآنًا للجزائريين تتابع قطراته منذ سنوات لينفجر حراك شعبي واسع انطلق يوم 22 شباط/فبراير 2019 بعنوان رفض العهدة الخامسة، في أشمل احتجاجات على مستوى انتشارها الجغرافي وتعبئتها منذ انتفاضة 1988. ظهر ترشح بوتفليقة لعهدة جديدة إيغالًا في إهانة لطالما شعرها الجزائريون واجتراحًا لكرامتهم وتعميقًا لـ"الحقرة"، اللفظ العامّي الأكثر تعبيرًا عن الشعور بالإقصاء والتهميش تجاه "دولة الكبار". هي "حقرة" على اعتبار أن رئيس الدولة، الذي يمسك عمليًا السلطات الثلاث في نظام رئاسوي، عاجز عن إدارة شؤون الدولة، فكان السؤال، في البداية، هل هو ترشح من صاحب الشأن أم ترشيح من رجال الكواليس؟ ظهر بوتفليقة أمام الرأي العام، بهذه الخطوة، في موضع المفعول به لا الفاعل، لتتعزز شكوك الجزائريين أن حاكمهم هذه المرة، بشكل لا ريب فيه، يقبع فعلًا خلف ستار. وهو ما جعل تباعًا أحد الأسئلة المحرجة لهذا الحراك، هل كان سيندلع، أو على الأقل بتلك التعبئة الشعبية، لو لم يكن بوتفليقة في موضع العاجز طبيًا؟

لكن حراك 22 شباط/فبراير تزامن مع استمرار الأزمة الاقتصادية التي امتدت طيلة العهدة الرابعة، وهي في حقيقتها أزمة مالية عمومية نتيجة عجز الموازنات العامة بعد الانخفاض القياسي للإيرادات إثر الانخفاض الحاد لأسعار النفط منذ 2014. غير أن العجز المالي، في ظل نظام اقتصادي ريعي، يعني بصفة عضوية أزمة اقتصادية واجتماعية. انخفضت قيمة الدينار الجزائري بنسبة 50 في المائة بين 2014 و2018، واضطرت الحكومة للاقتراض لأول مرة في عهد بوتفليقة من الخارج لمواجهة العجز (قرض بقيمة 900 مليون دولار من البنك الإفريقي للتنمية عام 2016)، كما اضطرت لتخفيض الانفاق العمومي الذي يمثل عصب تغذية الاقتصاد، وطبعًا كانت تباعًا كلفة اجتماعية مظهرها ارتفاع نسبة التضخم ما أدى لتصاعد حالة احتقان اجتماعي تمظهرت في شكل احتجاجات أحيانًا على غرار احتجاجات بسبب غلاء الأسعار في منطقة القبائل عام 2017.

والعلاقة بين استفحال الأزمة الاقتصادية وحالة الجمود السياسي بسبب مرض بوتفليقة في السنوات الأخيرة هي علاقة عضوية، ذلك أن فريق الحاكم عمل على اتخاذ سياسات ترقيعية لامتصاص الأزمة على أمل انتظار عودة ارتفاع أسعار النفط لتوفير الإيرادات المالية، ذلك أن الفريق كان يعوزه المضي في خطوات إصلاحية عميقة وبالخصوص تبني خطة لتنويع الاقتصاد على المدى البعيد ومراجعة سياسة الدعم التي أثقلت المالية العمومية، وما تعنيه أولًا التأثير على الحزام المالي للسلطة الذي سيتضرر بشكل أو بآخر من هذه السياسات الحكومية، وثانيًا الكلفة الاجتماعية. زاد الجمود السياسي في تعطيل أي ديناميكية في اقتصاد ريعي "بخيل" بطبعه، ذلك أن الخيارات الاقتصادية استراتيجيًا تحتاج لقرارات سياسية قاطعة لم تكن حاشية بوتفليقة قادرة على المضي فيها معتمدة على سياسة احتواء الأزمة الاقتصادي في انتظار "الفرج".

بكل ذلك، سياسيًا واقتصاديًا واجتماعيًا، كانت كل العوامل تدفع نحو انفجار شعبي في حراك تمظهر في شكل مظاهرات أسبوعية تحولت لأشبه بكرنفالات شعبية تخرج فيها العائلات كبارًا وصغارًا، توزع فيها الحلوى والورود، وعلى مرمى قوات الأمن، دون أي مواجهات عدا بعض أعمال الشغب المحدودة.

لم ينتهج النظام نحو قمع هذه الاحتجاجات على اعتبار حجم التعبئة الشعبية المحرجة، ولكن قبلها يعرف أن المبادرة باستعمال العنف سيؤدي إلى انفلات الوضع بما قد يخرج عن السيطرة، خاصة، وهذا المهم، أن النظام "ليس على قلب رجل واحد" وهو ما يجعل عنصر الحذر هو المسيطر. خرج تسريب، في الأثناء، لحوار بين رئيس حملة بوتفليقة عبد المالك سلال ورئيس منتدى رؤساء المؤسسات، أكبر تجمع لرجال الأعمال، علي حداد، تحدث فيه الأول على إمكانية استعمال قوات الدرك "التي لا تلعب" للرصاص ضد المحتجين. لم تمر بضعة أيام من التسريب حتى اُقيل سلال وعوّضه ابن آخر لجهاز الإدارة عبد الغني زعلان في رئاسة الحملة، فيما يؤشر على المسارعة للتخلص من أي مسؤولية في تسريب يأتي في إطار معركة كسر العظام بين أجهزة السلطة.

قدم بوتفليقة، أو مجموعته بالأحرى، عرضًا أولًا بالترشح مع الاكتفاء بسنة واحدة حتى إتمام أعمال ندوة وطنية تتولى عرض الإصلاحات، وهو ما رُفض شعبيًا، ليأتي عرض آخر بتأجيل الانتخابات وتكوين حكومة كفاءات مع تشكيل ندوة وطنية تعد تعديلًا عميقًا للدستور، وهو ما لقي صدًا شعبيًا أيضًا ما يبين يقظة الشارع في الجزائر وكأنه علم دروس ما بعد انتفاضة 1988 ووعود 2011.

اقرأ/ي أيضًا: بالسخرية والاحتجاجات.. جزائريون يرفضون العهدة الخامسة لبوتفليقة

صدّر بوتفليقة، ضمن عرضه، شخصيتين لقيادة الحكومة الانتقالية وهما الوزير الأول نورالدين البدوي، وهو وزير داخلية وابن الإدارة الذي يمثل نموذجًا للمجموعة المحيطة حول الرئيس طيلة السنوات الأخيرة، كما أنشأ لأول مرة خطة نائب للوزير الأول وسمى وزير الخارجية السابق رمضان لعمامرة الذي لا يعدّ من الدائرة المضيقة لبوتفليقة. كان العمامرة وزيرًا للخارجية بين 2013 و2017 ولكن أبعده بوتفليقة من الوزارة وقتها بشكل اُعتبر مهينًا لوزير كان يحظى باحترام في الداخل حتى على مستوى المعارضة، إضافة لإشعاع دولي واسع بفضل وساطاته الأممية في إفريقيا. وقد نقلت جريدة "لومند أفريك" في مقابلة في تشرين الثاني/نوفمبر 2017 أن هناك خلافات عديدة بين العمامرة ومجموعة بوتفليقة حول إدارة الملف الديبلوماسي، غير أن الجريدة أكدت أن الرجل يلقى دعمًا من قائد أركان الجيش أحمد قايد صالح.

فيما ظهر للواجهة الديبلوماسي المخضرم الأخضر البراهيمي كاسم رُشح لرئاسة الندوة الوطنية، وكان قد استقبله بوتفليقة في إقامته الرئاسية تزامنًا مع استقبال الوزير الأول الجديد. وهكذا تعيين، بغض النظر عن صحته، موجه للجهات الخارجية أكثر منه إلى الداخل، على اعتبار أن الرجل يُعرف بصفته كديبلوماسي أممي تولى ملفات حارقة في السنوات الأخيرة وتحديدًا كمبعوث أممي في سوريا، أكثر من أنه ديبلوماسي أو رجل سياسي في الجزائر التي لا يقيم فيها أصلًا، وليست لديه اتصالات بالمعارضة. كما أن الرجل معروف بعلاقاته القوية ببوتفليقة، وهو ما يجعل أطيافًا من المعارضة، وقبلها في الشارع، تتعامل معه بحذر شديد ما يصعب مهمته التي تستوجب شخصية محل ثقة واسعة. المأزق لمجموعة بوتفليقة ليس فقط على مستوى قبول الشارع والمعارضة بالأطر والآليات المقترحة للخروج من الأزمة، لكن أيضًا في وجود شخصيات يصدرها النظام وتحظى بثقة المعارضة والشارع في آن واحد.

 بقدر سخونة الشارع الجزائري، توجد معركة حامية داخل السلطة بمختلف أجنحتها: لوبي الإدارة النافذ والمرتبط بجهاز الأحزاب وتحديدًا حزبي جبهة التحرير والتجمع الوطني، ولوبي رجال الأعمال

الحراك الجزائري مبدع في أشكاله ولكنه لن يبدع أو يخترع مسارًا أو خارطة للتغيير بخلاف المسارات التي عرفها العالم أي بما يتجاوز نظريات التغيير السياسي بمختلف مدارسها ورضوخ مجموعة بوتفليقة المنهكة من داخل السلطة بطبعها لتقديم تنازلات سريعة، يؤكد محورية الرهان من داخل الأطراف المتصارعة في النظام على امتصاص الشارع وإعادة الانتشار عبره ومنع الطرف الآخر من استغلاله.

إذ بقدر سخونة الشارع، توجد معركة حامية داخل السلطة بمختلف أجنحتها: لوبي الإدارة النافذ والمرتبط بجهاز الأحزاب وتحديدًا حزبي جبهة التحرير والتجمع الوطني، ولوبي رجال الأعمال (القطاع العام/القطاع الخاص) الذي بنى ثرواته بفضل المشاريع العمومية الضخمة وغيرها من الشبكات المرتبطة بمجموعة الرئاسة وبقية أجهزة الدولة المنتشرة كل المواقع على اعتبار أن الجميع يريد أن يحفظ مصالحه وألا يكون أي تغيير على حسابه.

إذ تشهد نخبة رجال الأعمال بطبعها صراعًا واضحًا تحديدًا بين اللوبي المحسوب على الرئاسة الذي يقوده رئيس منتدى رئيس المؤسسات خالد حداد، مقابل لوبي يقوده رجل الأعمال "القبايلي" يسعد ربراب الذي يعد الواجهة المالية لجهاز الاستخبارات الذي كان يقوده الجنرال توفيق. ربراب، الرجل الأغنى في الجزائر وفي المغرب العربي بل هو سادس أغنى رجل في القارة الإفريقية بثروة قيمتها 3.7 مليار دولار وفق مجلة "فوربس" الأمريكية، لم يفوت فرصة، طيلة السنوات الأخيرة، لمهاجمة بوتفليقة واتهامه بتعطيل مشاريعه في البلاد.

التغيير من الداخل بما ذلك حتى في أشكال الاحتجاجات الصدامية في السنوات الأخيرة (تونس ومصر) كان يعني دائمًا أن مجموعة من السلطة أو من مدارها تقفز للمشهد لإزاحة مجموعة أخرى بعنوان التغيير. هذه هي المعركة داخل السلطة التي يجب على بوتفليقة، وهو في حالة صحية متعكرة، مواجهتها للخروج من المأزق وحفظ ماء وجهه وتاريخ طويل يراه أنصاره أنه جدير بالوقوف عليه مليًا. أنصار يؤكدون أن "أول من دق مسمارًا في نعش المنظومة هو بوتفليقة"، خطاب يتراوح بين المساندة والتعاطف ينتهي في أحد أوجهه لطرح السؤال التالي: "هل مشكل فعلًا هو بوتفليقة؟ قد يأتون بغيره!"، وهو سؤال يُطرح، واقعًا، من كل اتجاه.

يبين هذا الخطاب أن بوتفليقة هادن المنظومة للتمكّن طيلة سنوات حكمه، ويذّكر أنه بعد الرئيس بومدين، غادر رئيسان السلطة بضغط من الجنرالات وهما بن جديد وزروال فيما قُتل بوضياف، ولكن بوتفليقة هو الرئيس الوحيد الذي أزاح جنرالات ظهروا كـ"أساطير" والحديث بالخصوص عن قائد الجيش الأسبق محمد العماري في 2004 والجنرال توفيق في 2015. فهو إذًا الرئيس الوحيد الذي دشن عهد الرئيس يُقيل لا يستقيل. وتلك مفارقة أن الرؤساء الجنرالات (بن جديد وزروال) يُغلبون من الجنرالات لكن الرئيس الديبلوماسي يغلب هؤلاء الجنرالات.

يتكئ هذا الخطاب أيضًا على أقوال وشهادات منها أن الرئيس الأسبق المنقلب عليه أحمد بن بلا كان يعتبر بوتفليقة ''أقل السيئين''، وقد قال أيضًا: "الجزائر ليست سهلة، وأن تحكم الجزائريين أمرًا ليس سهلًا". ويُضاف أن الفساد حالة عامة للمنظومة، كانت قبل بوتفليقة ولم يأت هو بها، وأن المعركة ضد الفساد هي معركة طويلة وليست سهلة. وينبني هذا الخطاب، في ذات الإطار، على خطاب لبوتفليقة حينما قال في 2012 في اجتماع شعبي أن "جيله طابت جنانه" وحينما هتف أنصاره حينها من أجل عهدة رابعة ردّ مكررًا "لا يُكلّف الله نفسًا إلى وُسعها"، بل وأنه كان صادقًا في المضي في الإصلاح السياسي الجذري على قاعدة تعديل الدستور، غير أن الجلطة الدماغية عام 2013 قلبت الأوراق. ينتهي هذا الخطاب لخلاصة مفادها أن بوتفليقة يود المضي فعلًا في عملية تغيير سياسي سلسة، وبأن حالته الصحية وانعدام أي مستقبل سياسي له عاملان يجعلناه صادقًا في خطواته وذلك لرغبته في أن يغادر السلطة من باب الكبير، غير أن المشكل دائمًا في الحاشية المحيطة به أولًا وفي الأجنحة المحافظة داخل النظام ضد أي إصلاح جذري ثانيًا.

السلطة في الجزائر هي سلطة تناقضات داخلية دائما منذ فجر الاستقلال ومن هذه التناقضات تبنى التوازنات وتحديد المساحات، فيما يدفع حراك 22 شباط/فبراير نحو تغيير هذه التوازنات والمساحات لصالحه والنظام لا يمانع أصلًا في هكذا تغيير، لتجديد نفسه بعد مأزق مرض بوتفليقة بل هناك أصوات منها تعتبر الحراك "فرصة" يجب الانقضاض عليها. لكن بين التغيير الذي تريده السلطة، أو كل جناح منها على الأقل، والتغيير الذي يريده الشارع فوارق عظيمة.

لكن طبيعة النظام تفترض أن أي تغيير آمن وسلس لا يتم إلا وفق احترام للقواعد التاريخية الموضوعة في جهاز السلطة خاصة في علاقة بتوازن القوى بين "مجموعة تلمسان" التي يمثلها بوتفليقة و"مجموعة الشرق"، ذلك أن العنصر الجهوي هو عنصر حيوي وغير قابل للتهميش سواء داخل السلطة أو خارجها. فيما يستلزم هكذا تغيير أيضًا شروط أو ضمانات تتعارض بطبيعتها مع استحقاقات "شرعية" منها مثلًا ضمان عدم إعادة فتح ملف العشرية السوداء لتحميل المسؤوليات وعدم فتح ملفات فساد ضخمة تشمل الجميع دون استثناء، وأن يكون العنوان الأول للصفحة الجديدة هو "الي فات مات"، أي أن يغادر من شاء أن يغادر دون خشية أن يُجرّ إلى المحاكم بل ربما قبلها ضمان ألا يستفزه الخصوم عبر حملة في جريدة يومي.! لذلك فتغيير في العمق، بما يفترضه مثلًا من إرساء عدالة انتقالية تامة الشروط وفق المعايير الدولية، يظل صعب المنال إلا إذا كانت عدالة على القياس، كما كانت مثلًا في المغرب أي عدالة نصف حقيقة وجبر ضرر لا عدالة مساءلة ومحاسبة.

خاض، بالنهاية، بوتفليقة لعقود معركة التمكين الرئاسي داخل السلطة، وحينما تمكّن وجد نفسه وهو في حالة عجز صحي أمام شارع غاضب انتفض ضد كل المنظومة في البلاد بدليل لم يشبعها قراره بعدم ترشح لعهدة خامسة. فيما تظل عملية أي إصلاح جذري تشترط إسنادًا من حليفه وقائد الأركان أحمد قايد صالح وهو يكاد الجنرال الوحيد في تاريخ البلاد الذي لا يجد جنرالات وازنة منافسة له داخل السلطة، عدا التأكيد بأن قيادة أركان الجيش هي الجهاز المسلح الأكثر كفاءة وصلاحيات وقدرة على فرض الأمر الواقع على الأرض في نهاية المطاف. إذ قدم قايد صالح خطابًا حذرًا بداية الحراك ثم تحفظ على دعم علني لخارطة طريق بوتفليقة في خطابات بدت منحازة للشارع بمنطق ميزان العبارات. وهو انحياز قياس وتقدير للوضع فيما جاء تمهيدًا لإبعاد قسري لمجموعة الرئيس كجرعة أخيرة لتهدئة حراك غاضب تطالب عناوينه باقتلاع المنظومة الكاملة مستهدفًا بذلك كل متلحف بالسلطة.

اقرأ/ي أيضًا: فشل المعارضة في تحديد مرشّح توافقي يحرك الشارع الجزائري

ولم يكن مفاجئًا أن يدعو قايد صالح بعد الأسبوع الخامس من الاحتجاجات إلى تفعيل المادة 102 من الدستور القاضية بإعلان شغور منصب رئيس الجمهورية لمانع صحي، فيما يظهر تجاوزًا لبوتفليقة الذي لو أراد تطبيق هذه المادة لبعث كالعادة برسالة لوكالة الأنباء الرسمية. ونقلت عدة تقارير كواليس هذه الدعوة كاشفة أنها جاءت بضغط من قيادات الجيش على قائد الأركان الذي حاول إلى حتى الساعات الأخيرة إقناع المجموعة الرئاسية بتعديل خارطة الطريق المرفوضة شعبيًا، وذلك قبل دفعه للخروج علنًا لعرض دعوته المتعارضة مع الفترة الانتقالية المقترحة من رئاسة الجمهورية.

بوتفليقة، في الأثناء، لا يصارع مرضه فقط، بل يصارع أيضًا من أجل إنقاذ نفسه فيما سيذكره التاريخ حول نهاية مسيرته السياسية

طرح تفعيل هذه المادة معضلتين أساسيتين أولهما أنها بحاجة لتوافق تام داخل السلطة إذ تستلزم إجماع أعضاء المجلس الدستوري مع العلم أن 4 منهم عينهم بوتفليقة بما فيهم رئيس هذا الهيكل صديقه الحميم الطيب بلعيز، مع الإشارة أن المجلس أكد بنفسه بعد أيام من دعوة قايد صالح أنه لم يجتمع لدراسة تفعيل الفصل الدستوري المذكور. وهو تفعيل يحتاج لاحقًا تحصيل أغلبية ثلثي أعضاء غرفتي البرلمان للتصريح بثبوت المانع الصحي وتولي رئيس مجلس الأمة رئاسة الجمهورية مؤقتًا، ثم ينعقد المجلس الدستوري بعد 45 يومًا للإقرار بالإجماع مجددًا الشغور النهائي، ليتم مجددًا تحصيل أغلبية ثلثي الأعضاء من أجل إعلان الشغور النهائي وعقد انتخابات رئاسية في ظرف 3 أشهر. هي إجراءات معقدة لضمان توافق تام داخل السلطة حال التفعيل. وبالنهاية، هكذا انتخابات ستُجرى، وفق هذا التمشي الدستوري، عبر وزارة الداخلية وجهاز الإدارة عمومًا وهو ما ترفضه المعارضة رفضًا لتكرار سيناريو 99 بتصعيد رئيس توافقي "مضمون الوصول".

ولكن المعضلة الثانية المتجاوزة للبعد الإجرائي المحض هو أن المعارضة أكدت أن تفعيل المادة 102 لم يعد يفي بالغرض وقد تجاوزها الزمن على اعتبار أنه كان المطلوب تفعيلها حين مرض بوتفليقة في ربيع 2013، كما رفع الحراك الشعبي، في أسبوعه السادس، شعارات واضحة رفضًا لاعتبار المادة استجابة لمطالبه. وهو ما كان منتظرًا واقعًا منذ عدم الاكتفاء بتعهد بوتفليقة بعدم الترشح لعهدة خامسة على اعتبار أن الهدف تحوّل منذ الأسبوع الثالث من مطلب مغادرة بوتفليقة لرئاسة الجمهورية إلى إسقاط النظام بشعار مركزي هو "يتنحاو قاع" (يذهب الجميع).

تبين تباعًا أن السلطة في الجزائر تواجه أزمة غياب آليات من داخل أطر تنظيمها للخروج من المأزق على اعتبار أن شعارات الحراك الجماهيري تتجاوز الآليات الدستورية، وهي شعارات تأسيس لا ترميم. وبهذا المعنى، تتعالى أصوات من داخل المعارضة، عبرت عنها أيضًا شعارات مرفوعة في عديد المدن، للمطالبة بمجلس تأسيسي منتخب لصياغة دستور جديد للبلاد على غرار تجربة الانتقال الديمقراطي في تونس وهو خيار جذري يفترض تغييرًا في تركيبة السلطة السياسية.حتى بعد تنحي بوتفليقة سيستمر تصاعد تضييق الخناق على السلطة وتضيق الدائرة أكثر وأكثر بالخصوص على مجموعة بوتفليقة بعد أن تبيّن وضوحًا مقدار جذرية الشارع في مطلبيته ووضوح رؤيته.

بوتفليقة، في الأثناء، لا يصارع مرضه فقط، بل يصارع أيضًا من أجل إنقاذ سيرته والكيفية التي سيذكره التاريخ عبرها حول نهاية مسيرته السياسية. ويظل السؤال ختامًا، هل خرجت البوتفليقية بخروج بوتفليقة؟ مفارقة كبرى أن يكون باب الدخول لقصر المرادية مفتوحًا ومشرعًا فيما استشكل العثور على باب خروج طوعي ومشرف.

 

 

اقرأ/ي أيضًا:

لماذا فشل بوتفليقة في تحديث الجزائر؟

الإعلام الجزائري.. مقبرة المواهب