26-يونيو-2019

إمام عبد الفتاح إمام (التلفزيون العربي)

في زخم الحديث عن الميتات المتتالية، وما يحدثه سقوط الواحد منا من ضجة تتناسب اطرادًا مع وزنه، تختل بعض المرات قوانين فيزياء المجتمع، فلا نسمع لسقوط صرح صوت ارتطام إلا النزر القليل منه. هكذا لم يسمع كاتب هذه السطور برحيل المفكر المصري إمام عبد الفتاح إمام، إلا من نعي فنان تشكيلي جزائري على فيسبوك، يقول: "وفاة إمام عبد الفتاح إمام، الفنانون التشكيليون يعرفونه من ترجمته الرائعة لهيغل إلى العربية: الشق المتعلق الإستيطيقا والتجريد".

لم تقف ترجمات إمام عبد الفتاح إمام عند التخصص ولا الكمّ، بل رمى به امتهانه التفكير إلى الإشراف على السلسلة الشعبية "أقدم لك"

جدوى الكتابة تنبلج من تلك المراوغة الوجودية للحدث الأليم، متمسكين بنصف الكأس الفارغ من دموعنا، نقول: "طوبَى لمن قرأ هيغل من قلم إمام عبد الفتاح إمام". وننغمس في خط مسار الرجل المنسي، الذي تعرفه دفات الكتب، أكثر ما يعرفه عامة البشر.

اقرأ/ي أيضًا: الفكر داخل الصندوق

ولد إمام عبد الفتاح إمام عام 1934، ونشأ في كنف أسرة ربها عالمُ أزهر، تحول من دراسة الأدب، الذي تحصل فيه على شهادة ماجستير، إلى الفلسفة، حاصلًا على الدكتوراه فيها عن رسالته: "تطور الجدل بعد هيغل". هيغل الذي ألقى بظلاله على الراحل طويلًا، شبحًا لاحقه وهو يدرس مادته في مدرجات الجامعات العربية، وفي ترجمته لمؤلفات تعد قلب الهيغلية: "فلسفة التاريخ" و"أصول فلسفة الحق" و"ظاهريات الروح".

لم تقف ترجمات إمام عبد الفتاح إمام عند هذا الحد من التخصص، ولا الكمّ، بل رمى به امتهانه التفكير إلى الإشراف على سلسلة "أقدم لك" للترجمات التي صدر منها سبعون عددًا، كما أشرف على ترجمة موسوعة كوبلستون في تاريخ الفلسفة الغربية، إضافة إلى ترجمته "استعباد النساء" و"وجودية" ستيوارت ميل، وشرحه لفلسفة سورين كيركغارد، تناسلت أعماله لما يفوق المئة متوجة بأيقونتيه الخاصتين: "الطاغية" و"المرأة والفلسفة".

وككل من دفعه العقل خارج كهف أفلاطون الشهير، هجر إمام عبد الفتاح إمام الخيالات المرسومة على الجدار الصخري ناظرًا مباشرة إلى الشمس، صارخًا: "علينا أن نتفلسف إذا اقتضى الأمر التفلسف، فإذا لم يقتض الأمر التفلسف، وجب أن نتفلسف لنثبت أن التفلسف لا ضرورة له". تلك الـ"نحن" هنا، والتي يقصدها القائل عربية، وبما أنها كذلك فهمُّ النهضة رائحة تتصاعدُ منها ومن أعمال صاحبنا. وبما أنها كذلك، فهي تصطدم، أول ما تصطدم، مع السلطة.

في كتاب "الطاغية"، المتن الذي يعرف به صاحبنا، يبتدئ بالمفارقة الهيغلية الصارخة بين ضرورة وجود حد من التنظيم للحياة الاجتماعية، في ذات الحين ضرورة احتكام هذا التنظيم لتلك الحياة. فينطلق بعدها إلى التفصيل في شخصية الطاغية، في مخيال هذه الأمة وعبر تاريخها، مفكّكًا معالمه بين مختلف مكونات المشهد السياسي العربي التاريخي والأسس التاريخية التي استندت عليها فكرة الأمة، خالصًا إلى الحل الذي يتمثل في "التطبيق الدقيق للديمقراطية، بحيث تتحول قيمها لسلوك يومي يمارسه المواطن على نحو طبيعي وبغير افتعال".

الحل الذي يتبلور بجلاء في كتابه "الأخلاق والسياسة"، ويتبدى بشكل حتمي في ضرورة فصل الدين والأخلاق عن السياسة، ومن منطق تعيين مكمن الخلل وعدم اشتيت معالجته التي تتولاها الديموقراطية، يؤكد من خلاله أن: "تردي الأوضاع العربية يعود بالدرجة الأولى للنظام السياسي وليس إلى الأخلاق كما يظن البعض ولا إلى الدين كما يتوهم البعض الآخر".

الديمقراطية التي وجب حسب إمام عبد الفتاح أن تتنفس هواءها رئتا المجتمع، هكذا انبرى إلى الرئة المعطلة كي يبعث على إحيائها، لتكون فعالة في عملية النهوض تلك. الحديث هنا عن المرأة، والتي انفرد بالاهتمام بها عن غيره من مفكري النهضة العرب، فأهدى لها مشروعًا فكريا كاملًا، عاملًا في مستهله على تعيين موطن الخلل وعدم اقتصاره على السياق الشرقي.

ككل من دفعه العقل خارج كهف أفلاطون الشهير، هجر إمام عبد الفتاح إمام الخيالات المرسومة على الجدار الصخري ناظرًا مباشرة إلى الشمس

"إن الصورة السيئة عن المرأة بيننا هي التي رسمها الفيلسوف منذ بداية الفلسفة في بلاد اليونان، ثم وجدت عندنا الأرض الخصيبة، حتى أنها ارتدت ثوبًا دينيًا وأصبحت فكرة مقدَّسة" يقول الراحل في كتاب "أفلاطون والمرأة". جازمًا أن الوضع النسوي المتوارث ليس نتاج خصوصية طبيعية فطرية، بل نتاج تحول مجتمعي هو في تحول الفكرة المطلقة التي تنتج هذا المجتمع، وفقًا للمنظور الجدلي الهيجلي الذي يتبعه، منتصرًا لها بالقول إن: "الحملة التي تشن على عقل المرأة والدعم بعدم قدرتها على التفلسف، والقول بأن تاريخ الفلسفة هو تاريخ الفلاسفة من الرجال هذه الحملة تتغافل الدور البارز التي تلعبه الظروف الاجتماعية والدينية.. واستعباد الرجال النساء وسيطرتهم عليهن طويلًا، وما ترتب عن ذلك كله من عدم إتاحة الفرصة للنساء للتعليم، وإظهار قدرتهن العقلية".

اقرأ/ي أيضًا: برنامج "قراءة ثانية".. جدل كاشف

هكذا يتمحور فكر الراحل إمام عبد الفتاح إمام حول نواته الهيغلية الأصيلة، والتي تبرز صريحة في كل مشروعه الفكري، نتاج تجربة "طويلة ومريرة" كما يصفها هو مع أحد أولي العزم في الفكر البشري. رحل وقد ترك خلفه ميراثًا فذًا، وبصم المشهد الفكري العربي لا كمفكر نهضة فحسب، بل كأحد الهيغليين العرب القلائل الوفيين للممارسة الفلسفية الأصيلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السّرابُ هناك وهنا أدلاؤه

أمل عرفة.. اعتزال القرف