24-يونيو-2019

إسحاق كورديل/ إسبانيا

في دراسات التنمية البشرية، تم اقتراح مصطلح "التفكير داخل الصندوق" ليطلق على العجز عن ابتكار طرق ووسائل منتجة في عملية التنمية، وذلك بسبب البقاء داخل صندوق التفكير الذي تم تأسيسه تاريخيًا واتباعه بحذافيره، الأمر الذي أدى في الكثير من الأحيان لفشل عملية التنمية من حيث أن الكثير من الأفكار والخطط لم يعد ملائمًا لتلك العملية، وهذا ما أدى بالخبراء إلى وضع بعض الإجراءات التي يمكن عبر اتباعها والتقيد بها الخروج من الصندوق وتقديم أفكار جديدة. ومثل الكثير من المفاهيم التي تم تمييعها صارت تطلق عبارة "التفكير خارج الصندوق" دون ضبط ودون التأكد مما في الصندوق أصلًا من أفكار مكررة ومجترة.

صارت عبارة "التفكير خارج الصندوق" تطلق دون ضبط، ودون التأكد مما في الصندوق أصلًا

خلال رحلة الأفكار الفلسفية والسياسية والأدبية والفنية الطويلة، تم إنشاء صندوق يحتويها جميعها، وراح الكتّاب بمن فيهم الفلاسفة ونقّاد الأدب والفن والمفكرون والقرّاء ينبشون تلك الآراء ويعيدونها بترتيب جديد أحيانًا وينشرونها بوصفها نظريات. حتى المناقشات الكثيرة التي يقوم بها كتّاب ومفكرون وفلاسفة وأدباء وفنانون بين بعضهم تأخذ صيغة مناقشة النظرية، وخلال تلك المناقشات لطالما تم إطلاق مصطلح "النظرية" على تلك المناقشات ذاتها. لكن تفكيك تلك "النظريات" يتيح معرفة أن الأمر لم يتعدّ أن يكون سوى مجرد تكرار للأفكار ذاتها التي يحتويها ذلك الصندوق، وأن إعادة ترتيب الأفكار لم يتعدّ سوى نقل الفكرة من مكان ما في الصندوق إلى مكان آخر، إنما داخل الصندوق ذاته، الأمر الذي يعني أننا أمام ادعاء وجود "نظرية" ولسنا أمام نظرية بالفعل.

اقرأ/ي أيضًا: لماذا لا يجب أن تموت الفلسفة؟

ترسخ صندوق الفكر هذا بصفة قوية اعتبارًا من منتصف القرن العشرين، بسبب اعتماده على وسائل الإعلام والميديا في نشر وفرض محتوياته دون أن يفسح مجالًا لمقاومته واعتراضه، وقد وجد القائمون عليه فرصًا كثيرة لإسكات الأصوات المعترضة عبر تهميشها إعلاميًا، أو عبر عدم إفساح المجال لها أصلًا ليتم سماعها. وبهذا بقي ذلك الصندوق هو المرجع النهائي للأفكار وللإبداع، فما يخرج منه هو المعترف به، ما يخرج عنه تتم محاربته أو إقصاؤه أو كليهما.

الصندوق الفكري والمعرفي غربي النشأة في العصر الحديث، لكنه أيضًا عربي وكوني، فالأفكار تتسرب وتلتقي، لكن ليكون ذلك لا بد أن يكون داخل الصندوق ذاته. وكي تتضح الفكرة نتذكر أن العالم أجمع ينظر إلى الفلسفة مثلًا مثلما كان ينظر لها أفلاطون وأرسطو وديكارت وهيغل وصادق جلال العظم ومحمد عابد الجابري وسواهم... من أنها "أم العلوم" و"موئل الحكمة". ولم تجد الأفكار المشككة إزاء ذلك أي مساحة للتواجد، فصندوق الفكر يقول ذلك، وعلى الناس الالتزام بقوله. وعلى الرغم من كل التطورات التي حدثت للآداب على سبيل المثال: رواية وشعرًا... إلا أن ثمة بنى صلبة في تعريفها لا يزال التعامل وفقها أشبه بقانون صارم. حتى ليشعر المرء أن الزمان يتحرك ضمن دائرة ضيقة لا يتيح مجالات كثيرة لتغير البشر والأفكار. فالأفكار عن الرواية وأثرها وتأثيرها وإشراقاتها لم يزل هو ذاته مرورًا ببلزاك وفكتور هوجو وممدوح عزام وفواز حداد وغيرهم... وكذلك الشعر على الرغم من وجود ثورات شعرية، إلا أن التعاريف الكبرى له لم تزل معتمدة مرورًا بالبحتري وغوته ومحمود درويش وأنسي الحاج وغيرهم... وبالإمكان توسيع الأمثلة على ما نشاء من فروع فكرية ومعرفية وأدبية وفنية... وسوف تكون المحصلة: نبشٌ داخل الصندوق، ونقل فكرة من مكان إلى مكان، إنما داخل الصندوق ذاته.

لقد تحول الفن التشكيلي، كمثال آخر، إلى فن بيكاسوي (من بيكاسو) فقط دون مراجعة جدوى هذا الفن وعلاقته بالناس وعلاقته أصلًا بمفهوم الفن وغاياته، ولم يزل بيكاسو مرجعًا لدى فنانين شباب دون تشكك ودون تساؤل، مجرد أشكال لا تفسير لها وألوان لا ضابط لها سوى تأويل قسري وإرغامي أسّسه رواد هذا الفن ومنظروه، وبالرغم من كل التغييرات التي حدثت في العالم، إلا أن تلك الآراء وذلك الفن بقي كما هو في نشأته وكأن شيئًا لم يحدث.

سبق وأن سخر الجاحظ من فكرة كانت، ولم تزل، متداولة وهي: "لم يترك الأول للآخر شيئًا"، التي تعني أن الصندوق قد تم ملؤه وانتهى الأمر، ولا مجال لأي إضافات أو ابتكارات، حيث قال: "إذا سمعت الرجل يقول ما ترك الأول للآخر شيئًا فاعلم أنه ما يريد أن يفلح"، وتلك دعوة كبيرة من الجاحظ للتفكير خارج الصندوق عبر التشكيك إزاء كل ما يُعتبر أنه محسوم ومبتوت فيه، وحتى كل ما اعتبره الفكر والمعرفة بديهيًا حتى الآن.

إنه لأمر مثير للعجب، كما للشفقة أن تبقى أفكار كتّاب ومفكرين عرب وغير عرب هي ذاتها مع تلك الزلازل الثورية التي ضربت المنطقة العربية وأسفرت عما أسفرت عنه، وكأن الأفكار ثابتة لا تتغير، وذلك على الرغم من ادعاءات الكثير منهم أن الثورات والحروب غيرتهم، لكن، عمقيًا، لم يتغير شيء جوهري فيهم، فما كانوا يقولونه ويكتبونه قبل الثورات هو ذاته ما يقولونه ويكتبونه بعدها وخلالها... وهذا مثل سيئ للدعوة التي يطلقونها والتي تنص على ضرورة التغير والتجدد وما إلى ذلك.

إنه لأمر مثير للعجب أن تبقى أفكار كتّاب ومفكرين هي ذاتها مع الزلازل الثورية التي ضربت المنطقة العربية

حتى الآن لايوجد فوارق حقيقية بين ما قاله فلاسفة أو روائيون أو شعراء أو فنانون منذ منتصف القرن العشرين، وبين ما يقوله فلاسفة أو روائيون أو شعراء أو فنانون الآن حول الفلسفة والرواية والشعر والفن، البراهين نفسها، والحجج نفسها، والاتهامات نفسها، والقبول أو عدمه نفسه! فالجميع يعيش داخل الصندوق نفسه.

اقرأ/ي أيضًا: الفلسفة والتاريخ: العروي يتأمَّل نفسه

إذًا، ثمة صندوق فكري ومعرفي وفني وأدبي في هذا العالم، وحتى الآن لم يزل الكثيرون داخله، يفكرون من داخله، ويكتبون من داخله، ويتبنون ما بداخله، وتحطيم ذلك الصندوق خطوة لا بد منها لتتجدد الأفكار والمعارف والفنون والآداب ضمن اختبار عظيم هو العلاقة مع المجتمعات والناس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

الطيب تيزيني.. حين الفلسفة تمشي على الأرض