05-ديسمبر-2023
رواية "داريا الحكاية

رواية داريا الحكاية

ننشر هنا مقطعًا  من رواية "داريا الحكاية"، الصادرة عن دار ميسلون حديثًا، للروائي والكاتب السوري مازن عرفة. ومن مؤلفاته: العالم العربي في الكتابات البولونية في القرن التاسع عشر 1994، سحر الكتاب وفتنة الصورة: من الثقافة النصية إلى سلطة اللامرئي 2007، تراجيديا الثقافة العربية 2014. أما رواياته فهي: وصايا الغبار 2011، الغرانيق 2017، سرير على الجبهة 2019، الغابة السوداء 2023.


المروحيات الوحشية لا تنقطع عن التحليق في رأسي؛ ورأسي "بلدة ـ داريا"، دويٌ انفجارات. مختنقة بقيظ صيف، ودخان حرائق تلتهم الشجر والحجر. يحجب اشتعال كروم العنب، وحقول القمح، والبساتين، المنطفئة باليباس؛ كانت تزهو ذات حكايات خضراء، تحت ذهب الشموس.

ترمي المروحيات أحقادها، براميل موت متفجرة. ترتج روحي والبيوت بزلزلات هادرة، تتالى أصداؤها وحشية في ذاكرة المكان. لا تتبدد الموجات، إلا وتترنح جدران قلبي والمنازل أنقاضًا، فلا تنهض. أبعثر الدخان من الذاكرة بتلويحات متعبة، فتتعالى نداءات الأحياء، المتشظية بالأنين، ويسْتلّهم الصدى في عداد الأموات. تتناثر أشلاء جثثهم في ثنايا الأزقة والحواري والأيام.

تنسل المروحيات من رأسي إلى صالة عرض، مترامية في الهواء الطلق، تصل بقاع الأرض بعنان السماء. تمتد من نهوض التلال الجرداء غربًا، إلى اشتعال الكروم حرائق شرقًا، وبعمق يمضي إلى أقصى ما يكشفه تبدد الدخان، في حقول الجنوب. على خاصرة "دمشق"، تقع "البلدة"، والفيلم يُنتج فيها، ويُبث مباشرة. تجري أحداثه في منازل آهلة، حُكم عليها بالدمار. وأسندت أدوار البطولة فيه لسكانها الأحياء، تتطاير أشلاء جثثهم مباشرة في الهواء، مع انفجار البراميل، دون رتوش أو خدع سينمائية.

يشاهد الفيلم يوميًا العابرون بـ"مركز انطلاق الحافلات"، المشرف على "البلدة"، من جهة "دمشق"؛ مسافرون أشباح، دون هياكل عظمية، تشد قاماتهم، دون ملامح وجوه، ترسم انفعالاتهم، مجرد ملابس مهترئة تجر نفسها. يسيرون، وينظرون مذهولين، بلامبالاة، في اللامكان، خارج الزمان. لعب معظمهم أدوارًا في "أفلام شبيهة"، في "بلداتهم المدمرة"، ونجوا بجثثهم، قبل أن تتناثر أشلاء. حملوها معهم، وتحولوا إلى "مُهَّجرين"، في صحارى القلوب، يستجدون الشفقة ولقمة العيش. بحثوا عن معنى لحياتهم، ذات "حكاية"، ذات "انتفاضة"، في ضفة، انهارت الآن، لم تخلف سوى الدمار، في الديار والأرواح. يتنقلون، مذعورين من الاعتقال، عند عشرات "الحواجز الأمنية"، لمجرد انتمائهم إلى "بلدات أنقاض".

 أنا من "البلدة ـ داريا"، ومررت مرة بين "العابرين المسافرين".

أشعر بالغربة بينهم، إذ إنني تركت قطعة من القلب هناك، في "البلدة"، في دار العائلة؛ أبي يصدح عتابا، وهو ينضح الماء من البئر، وأمي تشدو، وهي تخبز في التنور، وأنا ألثم ابنة الجيران الخجلى، في ظلال شجيرة رمان. آخر الصور، أرسلها لي أحد الأصدقاء، الذين بقوا في "البلدة"، عبر الهاتف المحمول، كانت منذ عامين. ثم انقطعت الأخبار مع إصابته بشظية قذيفة، أدت إلى موته.