07-أغسطس-2023
كاريكاتير لـ جان فرانسوا روشيز/ بلجيكا

كاريكاتير لـ جان فرانسوا روشيز/ بلجيكا

في برنامج صباحي يومي البث على إحدى المحطات الفضائية العربية الإخبارية الشهيرة، كانت الضيفة خبيرة من خبراء التغذية الذين ازداد عددهم في عصرنا هذا بشكل يوحي أننا، كشعوب عربية، لا يضاهينا أي شعب اهتمامًا بالصحة واللياقة البدنية.

كان المذيع بعيون حزينة ولحية خفيفة مشذبة بطريقة كلاسيكية جدًا، وكانت المذيعة مشدودة للكرسي كأنها علقت من أطرافها بمسامير، ويبدو أن التكلف لم يقتصر على الجلسة بل طال ابتساماتها المتكررة للكاميرا، فكأن عضلات وجهها قد تجمدت ليلًا على وضع يصعب تغييره.

المكان بترتيبه يمنحك انطباعًا بالحداثة، ويبعث لك بشعور الارتياح العام الذي يعيشه من دخل لمكان منتعش بالبرودة بعد أن لوحته الحرارة خارجًا.

يبدو أن المواضيع المخصصة لنقاشات الصباح في التلفزيونات العربية يجب أن تكون سطحية، ولا تعدو أن تكون نقاشًا حول نوع الأطعمة اللازمة لإعداد فطور صحي، أو كيفية إنقاص الوزن

يسير كل شيء وفقًا لمخطط اعتيادي، بدءًا من التحيات الصباحية التقليدية التي تترافق مع ابتسامات مصطنعة، وانتهاء بالترحيب بالضيوف المتفق معهم لتعبئة هذه الفسحة الصباحية الترفيهية.

اعتدت أن أتابع تلك البرامج في فترات متباعدة ومتقطعة، لعملي اليقيني بأنها لا تحمل لي أية فائدة، بل باتت تثير في النفس الغثيان. فالمذيع يسأل ثم يجيب بنفسه، أحيانًا يسأل وقبل أن يمنح الضيف حق الإجابة يزودنا بوجهة نظره الخاصة، ثم يتدارك الأمر بإطلاق ملحة ما ليضحك عليها مع شريكته قبل أن يضحك ضيفهما.

أما عن المواضيع المخصصة لنقاشات الصباح، فيجب أن تكون مواضيع سطحية، لا تعدو أن تكون نقاشًا حول نوع الأطعمة اللازمة لإعداد فطور صحي، أو كيفية إنقاص الوزن ليتناسب القوام مع هيئة عصرية جذابة، أو مخاطر تناول الطعام في وقت متأخر قبل النوم، أو فوائد الاستيقاظ المبكر والرياضة الصباحية.

خلال كل تلك النقاشات ستسمع ما يدهشك من البديهيات المكررة حد التعب، وستدهشك أكثر تلك الانطباعات التي تلوح على وجه المذيع والمذيعة كلما حاولا إضفاء الحيوية للنقاش ليزيدا الحماس لدى سماعهما معلومة تم ابتذالها وتكرارها آلاف المرات، مثل فائدة تناول الخضار لغناه بالماء والألياف.

يهيأ لك بأن من يقف وراء تلك الفقرات الصباحية يعتقد بأنها ستتناسب ومزاج الجمهور، الذي لا يتحمل أن يستمع لشيء أكثر جدية لمجرد أنه استيقظ قبل وقت قصير. فالجمهور العربي الذي اعتاد على قبول الخفة، وتقبل الضحالة، واستساغة السطحية، واستمراء البلادة، قد يغلق شاشاته في وجه البرامج التي تحث على التفكير والتأمل، سيما في فترة الصباح.

وبناء عليه فليس من المهم أن تجري عملية دقيقة لاختيار الضيوف، ولا أن يكرسوا بعضًا من الجهد لاستكشاف المواهب الحقيقية التي تحتاج حقًا لمنابر إعلامية فيستفيد بهم الناس ويستفيدون.

قبل سنوات ليست بالكثيرة، في زمن البطء الجميل، كانت العائلات تجتمع صباحًا حول مذياع عتيق، لتنهل منه كل ما يسر الخاطر، موسيقى وأغنيات جميلة، دردشات متنوعة بين مذيعين ومذيعات متمرسين مع ضيوف ذوي خبرات ومهارات استثنائية أو شعراء مهمين أو فلاسفة وفنانين.

نتذكر ذلك بحسرة، حين نشاهد هذا الكم الهائل من البرامج التي لا يكلف أصحابها أنفسهم عناء التحضير لمعرفة الضيف، ولا عناء التحضير للأسئلة التي قد تكون ملحة.

إن النقاش حول رداءة الرديء وصلاحيته من عدمها تكريس لهذا الرديء بشكل أو بآخر، سيما وأن الواقع ينبئنا بندرة وجود المنتج الجيد

 

إن هذه الرداءة تمنع الناس لاحقًا من التفكير بالمفاهيم العامة، وتقيد تفكيرهم بنتائج تلك التفاهات.

فبدلًا من التفكير بأهمية الإعلام ودوره، سأفكر بشناعة استقبال خبير أغذية قد يملك أي مطلع معلومات أكثر من معلوماته، أو خبيرة إتيكيت ينحصر علمها بكيفية توضع الشوك والملاعق على الموائد.

إن النقاش حول رداءة الرديء وصلاحيته من عدمها تكريس لهذا الرديء بشكل أو بآخر، سيما وأن الواقع ينبئنا بندرة وجود المنتج الجيد، فالمقارنة بين الرديء والجيد تغدو أصعب، ومع مرور الوقت يبدأ الرديء بالتفرد، وسيجد لاحقًا من يتذوقه باعتباره انعكاسًا للواقع المزيف.

المنتج الرديء يخرج برضى السلطات، وهذا أمر لا مفر من التأمل به، فمن الجدير بنا إذا توجيه تفكيرنا للتأمل في أسباب رضى تلك السلطات عن تلك الرداءة ودعمها.

ولكن قبل ذلك، يجب رفض الرداءة بشكل جذري، وعدم الغوص في التفاصيل لأن ذلك مجرد مضيعة للجهد والوقت.