16-يوليو-2021

لوحة لـ فرانسيسكو كليمنت/ إيطاليا

وهنٌ عام، انخفاض في درجة حرارة الجسد، صداعٌ تحسبهُ إشارة لعدم تقديرك للراحة؛ فأنت مسرف في السهر، وأرقك المزمن من سنوات صار صديقك الليليّ الحميم. ضجّ العالم بقلقٍ دسّتهُ الأمهات في أطفالها، كتميمةٍ بقيَ عالقًا في مكانه. ثمة أطفال من كثرة ركضهم يوقعون قلقهم إلا قلقي. ركضتُ كثيرًا، قفزت الجدران، تشاجرت ودخلت في صراعات عراك مع أطفال الجيران؛ ولم يسقط. كان مدسوسًا بعناية فائقة. كبر معي، واعتنيت به، غذّيته، وما عدت أستطيع تحمّل وزنه الزائد، ومع هذا، ظننت بأنه كبقية الأشياء ساعة تثقلُ تقعُ؛ ولكنه لم يقع، أو يسقط. ازداد ضخامة في العام 2020، العام الموبوء، فيروس تفشى في العالم، دق ناقوس الخطر، وأُلزمنا المنازل. البيتُ اتّسع فجأة وضاق في الوقت ذاته، كلّ بات يخشى الاقتراب من الآخر: الآخر بوصفهِ قنبلة موقوتة، قد تحمل الفيروس، لا تقترب، ستُقتل. تفشّت الوَحدة، خافها من كان دائمًا يتجاوزها، بينما كان يصطحبها فيه كظلّهِ، وعانقها بحرارةٍ كل من ألفها، واعتاد عليها.

تغسل يديك بالماء والصابون أكثر الآن، لا تغادر بيتك إلا للضرورة، عملك متوقّف، كل ما تفعله، وفعلتهُ هو القراءة والكتابة رغم أنك قبل كل هذا كنت لا تفعل غير القراءة والكتابة، مع اختلاف شكل الفعل في لحظة الحدث، وما يحيط بالفعل من مؤثرات.

للتو وجدتني في دائرة انفصال، وتزاحمت في روحي أحداث كثيرة: خسارات، خيبات، فقد، وهلعٌ لا حد له. كحلزون كئيب كنتُ. ما سر انخفاض حرارة جسدي الآن؟ وهذا التعب يثبّتني في فراشي، حكّة في حلقي، سعلة: هل هي حساسية الحلق المزعجة الدائمة؟ أوه.

غابت شمس الثالث عشر من تموز/يوليو للعام 2020، وانخفاض الحرارة صار حمى، متبوعًا بسعالٍ والقليل من الزكام. نمتُ وحيدة في غرفتي. أنام وحيدة كل يوم، ولكن وَحدة المرض تختلف عن بقية الوَحدات؛ أنت وحدك في مرضك، مع وحدك، تشدّ وحدك، كل مصاب بالحمى بات في هذا العام وحيدًا. يستوجب قضاء عزل صحيّ في غرفتك، مع حرصك على عدم الاقتراب من أهل بيتك؛ لا تنقل العدوى للآخر، اقفل الباب جيدًا، استخدم الدواء، كن قوي. لا يُفتح باب غرفتك، وحدك مع وحدك، تتآكلُ، ازدادت الحمى، واستيقظت أوجاع الظهر، وتضاعفت مع آلام حيضتي البغيضة التي قرّرت أن تُشارك الحمى في الحضور، وكل ما أشعر به السخونة؛ وكأني في مرجل أطبخُ. راقبتُ جلدي والعرق ينضح، أسعل تارة، وأعطس، مرت الليلة الأولى، وحديث تم تناقله: هل أصاب جسدها الفيروس؟ ساءلتُ نفسي: أمصابة؟

(في البدء، قررتُ استغلال صفحة تويتر لتدوين الحدث الواقع مباشرة، فكتبتُ سلسلة تغريدات يومية مُدرّبة ذاكرتي على التدوين، والحفظ).

لم أعثر على أية إجابة، قلّبتُ في هاتفي النشرات والإرشادات الصحيّة، ولم يرشدني دماغي الذي قرر النوم فجأة.

يحدث أن تدخل أدمغتنا في سبات عميق، وهذا ما حدث لي، إنها ليست المرة الأولى يا دماغي التي تقرر فيها السبات؛ لقد فعلتها في يوم وفاتها، أكان يجب عليك أن تُظهرني أمام الجميع بوجهٍ يتظاهر بإدراك الحزن والفقد الذي هبط عليه، رغم عدم تصديقه واقتناعه بالحادث، وإرغامي على البكاء والنواح؛ لأنه لا يمكن أن تقف قبالة فقدك وحدادك الذي سيبتدئ للتو، دون دمع وبكاء؟ ثم لا أحد قبض عليّ وأنا أتظاهر بالبكاء؛ كيف نبكي الآخر، دون قناعة تصديق لموته؟

فقدتُ الإدراك والشعور، ولم أفهم معنى الخطر المتربص بي، وأني مريضة في عام الوباء القاتل.

ثقُل فعل التنفّس، وصار أمر أخذ الهواء عملًا شاقًا، فأفتح فمي لأدخل هواء الغرفة كلها فيّ، بينما الحمى تزداد يومًا بعد يوم. نهضت ووقفت بصعوبة قبالة كتبي المتكدسة، امتدت يدي لتأخذ رواية: ألم فذ لأندرو ميللر. أندرو لطالما بقي في الرف بين الكدس ينتظر دوره. أستلقي على الأرض، وسخونة جسدي تزداد، وأبدأ بالقراءة.

صوتٌ ما يتحدث في داخلي: لماذا تتعرقين بشدة؟

أنا: لا أدري. هييه، أنا متعبة..

الصوت: تعالي فلنجرب النوم، ضعي ميللر جانبًا.

أنسحبُ للنوم فلا أنام: تزداد الحمى، ويزداد التعرّق، كل جزء في جسدي يؤلمني، فأبكي، فيقول الصوت بهمس: أأنت مصابة؟

هل أنت قلقي؟ صوتك غريب! أسأله.

اختفى الصوت، ووجدتني وحيدة مع الحمّى، وميللر يرقد بجانبي: ميللر قم وحدّثني.

 

اليوم الثالث، عجز في التنفّس، أُخذت للمشفى. هدوء مخيف عم المشفى.

عاد الصوت وسمعته بوضوح حاد هامسًا: هل أنت خائفة من الموت؟

اخرس، قلتُها بشهقة.

كنتِ تحاولين الموت دائمًا، أنت خائفة الآن، ولا ترغبين أن تموتي بجسد مريض بفيروس لا تستطيعين رؤيته. ولكنك تعلمين أنه قد يقتلك. تفزعك فكرة الموت بجسدٍ عليل. إنكِ تفضلين صور الموت الأخرى، لا تحبذين الآلام التي تسبق رقدة الموت، إذ تظنين أن الموت مرحلة انتقالية للروح، والجسد كما تسمينه بدلة أو قشرة للروح، فلماذا تتأذى القشرة، هل كل شيء مرتبط بالقرابين؟ أنتِ تكررين كلمة قرابين دائمًا، فهل أنت خائفة الآن، وتبدين في صورة القربان أيتها المريضة الموبوءة...

أتحاشى سماع صوتي، وأنظر في وجه الممرضة، وهي تغرز إبرتها في جلدي الساخن.

أبكي في داخلي، فتنظر لي بشفقة وهي تدفع بالإبرة لتنغرس في جلدي الحار.

 

عدت من المشفى بعد أخذ العلاج المناسب، والتأكيد على أنك مصاب بالفيروس، أكمل أيام عزلك الصحيّ، وقاوِم لتنجو. هذا ما قاله الطبيب، وهو يمتدح مقاومة جسدي، ممتدحًا الحمى. كيف يمتدح ألمي؟

إنه ألمي، وجعي وصراخي: تملكين جسدًا شجاعًا، لابد من أنك محاربة شجاعة، هذه الحمى دلالة مقاومة، يحارب جسدك وحشًا سكنه، ويريد قتلك، قدّمي له المساعدة أيتها الشجاعة.. أنتِ بخير لا تقلقي.

فردانية جسدي، وكينونته الخاصة، جسدي الذي لم أحبه يومًا، أثبت لي بعد خمسة عشر يومًا من العزل الصحيّ، ومقاومة المرض أنه عنيد، ولن يستسلم بسهولة، وأنه متخم بالأصوات الحادة. بدءًا من قلقي الذي ظننت في لحظة من مرضي أنه سيدفعني لخسارة معركتي مع الفيروس؛ ولكن يا للعجب! أصيب قلقي بخرسٍ لم أعهده من قبل، وكأنه سقط مني، أنا التي حاولت مرارًا التخلّص منه، وفشلت. ثم صوت من ذاك الذي كان يأتيني في مرضي، ويُزعجني في فراشي؟ لم يكن صوت قلقي. كان مختلفًا، لا يشبه كل أصواتي، أين كان هذا الصوت قبل مرضي؟

 

نجوتُ وعاد قلقي، بضخامته، وصار الخارج يُرعبني، وموقع العمل يفزعني: أنت الناجي من مرحلة حرب مع فيروس كاد أن يقتلك، ولكنك حتمًا محظوظ لأن جسدك محارب شجاع، وها أنت بعد تعافيك تصارع في السر بقايا ما خلّفته المعركة، ولا أحد غيرك يدرك هذا.

ليأتي العام الجديد التالي 2021 والوباء يزداد شراسة ويتمدد ويتضخم كقلقي.

 

من غذّى الفيروس؟

وما لم يكن في الحسبان أن يلتقط جسدك مجددًا ذات الفيروس ولكن بشكله الجديد، ليرغمك على الدخول للعزل الصحي مجددًا وإعادة الحرب: ذاكرة مقاومتك تفزعك في كل مرة تنخفض فيها حرارة جسدك، وقلقك يأتي راكضًا: انتبه إنها الحمى، الفيروس، مرض، أدوية، ألم لامتناه.

عادت الحمى أكثر شراسة. لكن قلقك هذه المرة لم يغادرك كالمرة الأولى، في مكانه، يدق رأسك، يخبرك: مجددًا، الحمى مجددًا. أنت تشعر الآن، وتطلب من دماغك أن يفعلها؛ يرقد.

تسقط في فراشك، تهزمك الحمى، محتضنًا قلقك، صديقك الدائم الوحيد. بعد عشرة أيام تقرر الحمى مغادرة جسدك، تقف قبالة نفسك لتقول: هل سأنجو في المرة الثالثة؟ فيجيب قلقك ضاحكًا: دعنا نجرّب.

تضحكُ لا لأنك تملك روح محارب ساموراي شجاع؛ لا لاعتيادك على الحمى، لا أحد يعتاد الحمى؛ إنها حرباء متلونة، تتبدل في كل زيارة، ولا لقدرتك على البقاء رغم إصرارك الدائم على الفناء، ومغادرة الأمكنة؛ إنما لأنك ساعة تنجو وتخرج من فم الموت حسبما يقال، تكون مستعدًا بدافع من القلق الساكن فيك لتجربة صراع جديد، حرب أخرى تُعيد تذكيرك بأن من أسباب البقاء أن تكون مصارعًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ختم الجلاد

أنهارٌ تصبُّ في جثة واحدة