12-فبراير-2019

عبد الرزاق بوكبة (فيسبوك)

  • إلى عبد الرزاق بوكبة

تمتد علاقتي بعبد الرزاق بوكبة إلى سنوات طويلة، تعرّفتُ عليه أوّلًا عبر نصّه المُختلف، الذي يحمل سمة النص ما بعد الحداثي، فلم يكن سهلًا عليّ التخلّص من أثر نصه الأوّل "من دسّ خفّ سيبويه في الرمل" بسهولة، فقد كان يحمل جمالية مُربكة، وكأنّه كان يرسم رموزًا فوق صفحة من الرمال المُتحرّكة. ثمّ عرفته مقدّمًا لحصة ثقافية في التلفزيون الجزائري، يقدّم كل أسبوع فاكهة ثقافية وأدبية متنوعة وثرية، ما حوّلها بسرعة إلى منبر إعلامي مُحترم.

هل هناك قاعدة تقول أنّ على القارئ أن يكره الكاتب ليحقق قدرًا من الموضوعية في قراءة نصوصه؟

في يوم من الأيام، قررتُ الاتصال به هاتفيًا، بصفتي قارئًا لنصوصه ومتابعا لبرنامجه التلفزيوني، مع العلم أنّي لم أكن واثقًا بأنه سيرد على المكالمة، فقد ترسّخت في ذهني صورة عن المثقف الذي يظهر في التلفزيون بأنه شخص متعالٍ، هو أقرب إلى شخصية متخيلة منها إلى شخصية واقعية قد تضغط على زر الاتصال لترد على مكالمة من شخص غريب. لكن هذه الصورة سرعان ما ذابت بمجرد أن تمّ التواصل بيننا، فقد ردّ بوكبة على مكالمتي، برحابة صدر كبيرة، بل طلب مني هو نفسه أن نظل على تواصل.

اقرأ/ي أيضًا: المقاهي الثقافية في الجزائر.. سلطة الطريق الثالث

منذ تلك المكالمة لم ينقطع حبل التواصل بيننا، بل أثمرت تواصلًا ثقافيًا، ولا بد أن أعترف بأنّ بوكبة كان من القلائل الذين آمنوا بالناقد الذي كان يتشكّل داخلي. حدسه لم يخنه ولم يخني، وكانت ثمرة هذا التواصل ميلاد باكورة أعمالي النقدية "تفاحة البربري"، والعنوان من اقتراح بوكبة نفسه، هذا يعني أنّ كتابي الأول يدين إلى هذا الإنسان المبدع.

لقد كنت قارئًا لنصوصه، ومتابعًا لتجربته الأدبية: سردًا وشعرًا، وملمًا بها إلى حد بعيد، فكتبتُ عن كل نصوصه. أنا أؤمن بأنّ الكتاب الجيد يصنع الصداقات. وإن كانت هذه الفكرة في السياق الجزائري تثير حساسية عند البعض. هناك من لا يفهم بأنّ النصوص تخلق الصداقات، وعلاقتي ببوكبة نشأت أولًا من خلال نصوصه قبل ان تتحول إلى صداقة بين شخصين. هل هناك قاعدة تقول أنّ على القارئ أن يكره الكاتب ليحقق قدرًا من الموضوعية في قراءة نصوصه؟ هل الاعتراف بجدية الناقد يبدأ من فوق جثث الكتّاب؟ يصعب في الجزائر أن تقيم علاقات طيبة مع الكتّاب، إمّا أنّ تلك الصداقات ستطعن في موضوعيتك، أو أنّها ستنقلب عليك لما تحاول أن تكون قاسيا على نص صديق. أظنّ أنّ الكتابة هي أيضا إحدى مختبرات الصداقة.

الجميل في تجربة بوكبة هو إيمانه بأن الثقافة نضال، وبأنّ الجمال أحد أسس هذا النضال. لأنّه يتأسس على الديمومة وعلى المستقبل. فالرهان على الجمال هو رهان على المستقبل. إنّ ما نعانيه اليوم مجتمعيا هو غياب الرؤية الجمالية للحياة نفسها، حتى باتت النفوس صحراء قاحلة، تعيش تحت ضغط فقدان المعنى. ألا نرى حجم الشحوب الذي صار سمة كل شيء، بما فيها لغة الجزائري؟ من داخل هذا الأفق  يكتب بوكبة بشفافية، ترى من خلال نصوصه الواقع بكل تناقضاته، وتسمع في صوته أصواتًا أخرى تنبعث من هذا الواقع، خاصة ذلك الواقع المهمش الذي لا صوت له. يكتب ذلك ليس جلدًا مجانيًا للذات، بل دعوة إلى تطهير هذه الذات من سلبيتها.

لم يتوقف بوكبة عند عتبة الكتابة والقراءة، بل تعداهما إلى أفق النضال اليومي داخل الفضاء العمومي، من خلال مشروعين كبيرين:  مشروع المقاهي الأدبية، التي أصبحت وسيلة ناجعة لكسر احتكار العاصمة للثقافة. إن مشروعه هو توزيع الثقافة على جغرافيات الأقاصي، ليؤكد بأنّ هذه الأقاصي قادرة على أن تبعث الثقافة من الرميم، بالتخلص من الكسل والاتكالية. ثمّ مشروع "دار الجزائر تقرأ" التي تحولت في وقت قياسي إلى قبلة للأصوات الأدبية الصاعدة في الجزائر.

قد تكون الكتابة أحيانًا طريقة لرد الدين لهؤلاء الذين نحمل لهم قدرًا كبيرًا من الاحترام والامتنان

أما مشروعه الأكبر، في تصوري فهو في بناته، حيث يكشف لنا بوكبة عن أنّ تربية الجيل الصاعد على محبة الكتاب والحياة قد يكون هو طوق النجاة لهذا المجتمع، وقد أرخ جماليًا لتجربته تلك في كتاب طريف عن يومياته المنزلية مع بناته.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرزاق بوكبة.. معول الشعر في أرض السرد

قد تكون الكتابة أحيانًا طريقة لرد الدين لهؤلاء الذين نحمل لهم قدرًا كبيرًا من الاحترام والامتنان. في زمن أصبح الشكر فعلًا ثقيلًا، وفي مجتمع ينظر إلى الاعتراف بكثير من اللبس.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا يقرأ كتّاب "ألترا صوت"؟

الأدب العربي ضيفًا في مجلة "ذي كومون" الأمريكية