04-أكتوبر-2017

عبد الرزاق بوكبة

لا تُقرأ السيرة الأدبيّة من جهة كونها شهادة عن حياة شخصيّة ساردة أو مسرودة فحسب، وإنما هي تمثّل انعكاسًا لتحرّر الذّات من أدبيّات الجماعة، فالسيرة هي صوت الذّات بامتياز، وهي صوت احتجاج ضدّ السرديات الكلاسيكيّة التي ذوّبت الذات الإنسانية في يقينيّاتها وطمست ملامح تفرّدها وتميّزها.

السيرة صوت الذّات بامتياز، وهي صوت الاحتجاج ضدّ السرديات الكلاسيكيّة

في سيرته التي حملت عنوان "يدان لثلاث بنات" (الجزائر تقرأ، 2017) يسلك الروائي والإعلامي الجزائري عبد الرزاق بوكبة مسلكًا غير مألوف في ما قرأناه من سير أدبية، فهو استعمل تقنية ذكية وطريفة تقوم على اليوميات والفلاش باك، وغزل السرد بينهما، وهذا ما خلق نوعًا من التناظر الزمني بين الحاضر والماضي، فالكاتب يدوّن الأحداث التي تدور حوله ويعود بطريقة "الفلاش باك" إلى ما يناظرها من أحداث وقعت في طفولته، إنها تقنية تشبه المرآة العاكسة للعربة.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرزاق بوكبة.. أهلًا بكم في بيت الكاتب

المكان الذي تدور حوله الأحداث هو مكتبة الروائيّ، وتحديدًا في الطابق الخامس من إحدى العمارات في مدينة الجزائر، والأحداث تصوّر الحياة اليوميّة لكاتب يعيش مع أسرته المتكوّنة من زوجته وبناته الثلاث، وعبر تلك الأحداث يعود الكاتب إلى طفولته في قرية "أولاد جحيش"، يعرّفها يقول: "هي قرية في الشرق الجزائري وهي مزيج من أصول عربية وأمازيغية".

استعمل عبد الرزاق بوكبة في سرد سيرته النصوص الموازية، من إهداء الكتاب إلى الأيام التي ولدت فيها بناته الثلاث علياء ونجمة ومريم من أعوام 2009 و2012 و2014، ويضيف في إهدائه أنّ الحكاية أصبحت ثلاثية الأبعاد بميلاد البنت الصغرى، والإهداء هنا يأخذ شكل التقديم الموجز للسيرة إضافة إلى الإشارة التي تبيّن تاريخ كتابة السيرة والتي توزّعت بين رمضان 2015 و2016 و2017. وحضور البنات خاصّة وظّفه عبد الرزاق بوكبة لشرح رؤيته للمرأة الجزائريّة من خلال عرض للنّساء اللّواتي أحطن بسيرة الكاتب بداية بالجدّة مريم وأمّه ثمّ زوجته، وصولًا إلى بناته الثلاث والصّغرى منهنّ تحمل اسم الجدّة "مريم"، يتحدّث الكاتب عن تاريخ الاضطهاد الذّكوري للمرأة من خلال معاملة الرّجال في قرية بني جحيش لزوجاتهم وبناتهم وهي علاقة تقوم على الوصاية الذّكوريّة، والكاتب يضع هذا التّاريخ أمامه وهو ينظر إلى بناته اللّواتي يمثّلن المستقبل.

يمتلك عبد الرزاق بوكبّة أسلوبًا خاصًّا في الكتابة فهو يحفر في أرض السّرد بمعول الشّعر، مستعملًا التشبيهات والاستعارات المستفزّة للعقل، ويشتغل كثيرًا على بناء نصوصه، إذ أنّ السّيرة جاءت سلسلة من نصوص مترابطة بشكل عنقودي يصنع منها وحدة نصّيّة متكاملة. والكاتب يفتح ورشة كتابته للقرّاء، ولا نعني هنا مكتبته وكتبه وأوراقه فحسب، وإنما نقصد أيضا ورشته الذّهنية، والتي تتداخل فيها شخصيات واقعه بشخصيات رواياته وقصصه، يقول: "الحق أنني أخاف الصامت أكثر من الثرثار، سواء في الواقع أو في الرواية، أليست الرواية واقعًا؟ اشتعل جسدي عرقا، بالموازاة مع اشتعال الشجار بينهم، إذ كان كلّ واحد منهم يقول للآخر إنه سيكون أوّل من سأكتبه بعد الدّوش. وتهاطل عليّ سؤال: أليس كذلك؟ كان لزامًا أن أضع حدّا لذاك الوحل، فاستدرتُ عائدًا إلى الحومة، لحقوا بي/ ضاعفْتُ سرعتي/ ضاعفوا سرعتهم/ كان منظري غريبًا بوضع إصبعيّ في أذنيّ جاريًا، حتّى لا أسمع حريق فوضاهم/ التفتُّ إليهم، عند مدخل الحومة. بينما كانت علياء ونجمة تلعبان هناك، وأطلقْتُ صرخةً ذات أغصان: أين ن"؟

سيرة عبد الرزاق بوكبة نصوص مترابطة بشكل عنقودي يصنع منها وحدة نصّيّة

يمثّل هذا المقطع حالة التداخل بين عالم الواقع وعالم المتخيّل عند الكاتب في لحظات انهماكه في الكتابة، فعبد الرزاق بوكبّة يمثل عيّنة من الكتّاب الذين يعيشون كما يكتبون، فهو لا يأتي من الكتب والمختبرات النّصية وإنما هو كاتب ينتمي إلى الواقع، فيأخذ منه ما يضيف للنصّ ويحاول التّغيير فيه من خلال النّصّ أيضًا.

اقرأ/ي أيضًا: عبد الرزاق بوكبة.. حشرجات السرد

في الجزء الثّاني من الكتاب، والذي عنونه الكاتب بـ"بوصلة التيه: كيف جئت إلى الكتابة السرديّة؟"، والذي أخذ قرابة أربعين صفحة من الكتاب، يعود عبد الرزاق بوكبة لتتبّع المسلك الذي وجّهه للكتابة، مستعرضًا شهادات عن كتّاب وكتب أحاطوا بتجربته، ومتحدّثًا عن بداية نصوصه منذ كتابه الأوّل "من دسّ خفّ سيبويه في الرّمل؟"، إلى رواياته المتتابعة، والحديث عن تجربته الإعلاميّة وما حفّها من صعوبات وتحدّيات.

يد عبد الرّزاق بوكبّة تعرف جيّدًا الجروح التي يتركها اقتلاع الحلفاء من الجبال قبل أن تستوي ورقًا، لذلك فهي تمتلك الكثير من أمانة نقل ذلك الألم على الورق.

 

اقرأ/ي أيضًا:

ماذا يقرأ كتّاب "ألترا صوت"؟

مخلوف عامر.. ألوان السرد الجزائري