08-أكتوبر-2016

لقطة من الفيلم

في الواقع نادرًا ما أطلق لقب أستاذ على أي مُخرج، وخصوصًا من المُخرجين الذين ما زالوا على قيد الحياة، لكني دومًا أقف عند تيرانس ماليك وأصرخ إنه أستاذ كبير حقًا، ماليك الغامض الذي يبتعد عن المهرجانات وحلقات الإعلام بشكل جعله أكثر مُخرجي الأرض غموضًا على الإطلاق، ماليك الذي يبحث عن المَجد السينمائي الخالص، ماليك الذي قدّم خمسة أفلام فقط في أربعة عقود، خمسة أفلام فصل بين ثانيها وثالثها عقدان كاملان!

دومًا أقف عند تيرانس ماليك وأصرخ إنه أستاذ كبير حقًا ومخرج خارج عن كل المألوف

أفلام تيرانس ماليك هي مُحاولات دائمة للتجرُّد من الزمَان والمكان، نفور من الحضارات التي جلبت الخراب إلى الأرض، أفلامه هي التحام مع الطبيعة بشكل تام، وابتعاد بأقصى شكل عن الشرور، لا إجابات شافيه في أفلامه، وإنما سعي متواصل دؤوب للمعرفة.

في بداية فيلمه (شجرة الحياة) نرى الأم في البيت، ثم الأب في موقع عمله، يتلقيّان خبر وفاة ابنهما الأوسط وهو في التاسعة عشرة من عُمره، يرصد الفيلم فجيعة الأهل نتيجة لهذا الفقد، ثم ينتقل إلى الأخ الأكبر جاك وهو يشعر بالعُزلة في بيئته الحاليَة، جاك يعي جيدًا انقسامه بين ذكريَات طفولته وبين حاضره. بعد هذه البداية يأخذنا الفيلم بسلاسة شديدة إلى بدايات تكوين الأرض بدون تعليقات.

نرى خلالها البراكين والخلايا والصحاري والجبال، لقطات عديدة تحمل تشكيلات لونيّة شديدة الجمال، في إنجاز بصري وسمعي فخم من دوجلاس ترومبل صانع المؤثّرات البصريّة لتحفة ستانلي كيوبريك العظيمة "أوديسا الفضاء" ما جعل النقاد والمُشاهدين يقارنون بين الفيلمين، وهذه اللقطات تحمل أسئلة وجوديّة، ما معني الحياة؟ وكيف يستمر الإنسَان وماذا يسلبه حياته؟

اقرأ/ي أيضًا: فيلم كتير كبير.. سوريالية الحياة والصراع الوهمي

بعدها نعود للأرض إلى جاك الذي يتجوّل في ممرّات ذاكرته ونرى عبر الفلاش باك ولادته بين أم عطوفة وأب صارم في الخمسينات من القرن الماضي. جاك ينشأ ويمارس حياته اليوميّة ويجرب ويكتشف ثم يُصبح مُراهقًا مُختنقًا من حياته، وعلى كاهله يحمل الضيق والانزعاج بسبب تربية والده الصارمة.

تمثل أعمال تيرانس ماليك نفورًا من الحضارات التي جلبت الخراب إلى الأرض والتحامًا عضويًا مع الطبيعة الأولى

الأب يحب أطفاله ويريد لهم العيش في حياة سعيدَة لكنّه يربيهم بطريقة خاطئة، من خلال إقناعهم أن العالم خادع ولا يحتمل الطيبة وأن العنف وسيلة مُهمة لمواجهته. الأب هُنا يمثل الطبيعَة ومسارها في القسوة والخشونة، هو في حالة حرب ومليء بالشك والمرارة والتشتت بين ميوله الموسيقيّة التي فشلت، وبين عمله الحالي، بينما الأم الحنونة لا تريد من الحياة سوى سعادة أولادها وحريتهم واطمئنانهم.

الأم هُنا في رأيي تمثل السلام الروحي والفضيلة والبراءة وتمثل دورها جيسيكا شاستين في أداء عظيم وغير مُقدّر، جيسيكا هُنا هادئة وجميلة ومتناغمة مع الدور، تُقنع وتحوز التعاطُف منذ بداية ظهورها، وتنجح جدًا في تجسيد الحُب الصافي بكل تعبيراته. وفي خلال عرض الفيلم نرى الأطفال ينتقلون من مرحلة الطفولة إلى المراهقة والرغبات الجنسيّة واللعب واللهو والتمرّد حيث يثور جاك على والده.

ويطرح الفيلم أثناء العرض التساؤلات المُهمّة بشأن هذه العلاقات في مونولوجات هامسة مثل "هل الله موجود؟ وأين يعيش؟" في العُمق يطرح النص مجموعة من أهم الأسئلة التي تفسّر علاقة جاك بوالديه، وأعظم ما في النص من وجهة نظرى هو أنه لا يوجّه الأحداث، هو يكتفي بالتأمُّل والطرح. يطرح عبر فترات المُراهقة أسئلة من نوعيّة من أين جئنا أو إلى أين نذهب أو حتى لماذا جئنا من الأساس.

يصهر تيرانس ماليك كل أدوات وتقنيات العصر السينمائي ليخرج بما يمكن القول عنه تحفة سينمائية مقدمة عبر شريط متقن ورصين

وبعيدًا عن ذلك يطرق النص على العواطف التي تأتينا تجاه والدينا، وهو في هذه الجُزئيّة يبدو كالكائن الحي الذي ينبض، يلتقط كل ما يمُر به جاك ويفسره، ردود فعله العنيفة وهو في مواجهة والده، تصرفاته التي تتغيّر عند المُراهقة مثل سرقة الملابس الداخليّة لجارته ثم إغراقه لهم ثم عودته لـ(حضن والدته)، ونراه يتأمّل رافعة السيارة التي يرقد والده تحتها ونقرأ تمنيّاته بإفلات الرافعة، لينهي حياة والده، ومصدر تعاسته كما يظن.

اقرأ/ي أيضًا: فيلم "زيزو"... أحلام الشباب التائه

هذه المُقارنة التي ينتهجها النص بين الأب والأم فاتنة فعلًا. وعلى صعيد آخر يفترض النص أن العالم سيئ، لكنّه لا يصبح أكثر سوادًا ولكن الإنسان هو الذي يكبر وتختفي بداخله الفضيلة، لذا يخاطب جاك والدته وشقيقه لأنّه يحتاج لهم لأنّه كبر واختفت بداخله الفضيلة وبدأ في السعي نحو سعادته مهما حدث، عرض عظيم لتطوّر سيكولوجيّة الإنسان بين الفضيلة وبين سعيه للحياة.

والحقيقة أن استمتاعي بالنص لم يكُن كاملًا -رغم عظمته- لأنه لم يستطع جعل مُستقبل جاك مُهمًا للمُشاهد بقدر تمزقه في ذاكرته، النص لم يستطع توفير ما يجعل المُشاهد يندمج مع مشاهد جاك وهو كبير، حيث بدت مشاهدة مشتتة ومبعثرة إلى حد ما.

أعظَم من كُل ما سبق ذكره يقف وراء الكاميرا أستاذ حقًا! تيرانس ماليك يحقّق واحدًا من أعظم الإنجازات الإخراجيّة التي أنجبتها السينما، يستخدم أدواته المشهورة، الراوي، الأضواء، الظلال، السحر البصري، جمال الطبيعة، يوظف هذه الأدوات في صورة أشبة بالحُلم، وإبهارًا لا يُضاهى ومع اعتبار الفيلم ينتمي للشاعريّة التي تعتمد على الإطار الكبير أو الصورة العامّة للعمل، إلا أن هُناك اهتمام كبير بالتفاصيل الصغيرة في تناغم فائق الجمال.

فيعتمد تيرانس ماليك في فيلمه هذا على حركة كاميرا دورانيّة وتداخل للقطات (خمسة أشخاص تعاونوا في مونتاج الفيلم) وتوظيف للصوت والمونولوجات الهامسَة التي تطرح التساؤلات. لذلك يمكننا القول إن هذا الفيلم هو استكشاف حقيقي وصادق -وربّما صادم- للحُب الأسري والفقد والحزن والإحساس بالذنب.

اقرأ/ي أيضًا: رصاص بلا رصاص: التجربة البصرية المستقلة

حيث هُنا نرى تيرانس ماليك يسبر أغوار النفس البشريّة ويثير الأسئلة الأصعب لدرجة جعلت الناس توقفت عن طرحها أو أخذها كمُسلّمات وثوابت، هو تأمُّل في الحياة والعائلة وأصل الكون، استجواب حقيقي وطويل -138 دقيقة- لمعنى الحياة.

تيرانس ماليك يقدّم عملًا عظيمًا عن الإيمان، يَحاول فيه، في طموحٍ سينمائي ضخم، أن يسرد قصّة البشرية مُنذُ بدايتها، ويحاول أن يصل إلى الحقيقة، عن الله، التجارب الأولى، الصّعاب التي نمر بها، والآلام التي لا نحتملها، الاختبارات التي ننتظر تأويلها، ليُنتج في النهاية فيلمًا مُختلفًا عن أي مما سبقه. عن أي مما قدّمته السينما قبل ذلك.

في النهاية الفيلم يتطلّب تركيزًا في المُشاهدة ويحتاج للاحتمال لأنّه يُشبه الذاكرة والصور، قصّة الفيلم ليست مبنيّة على أساس أصلًا، لا على حدث ولا على رواية، الرجُل هُنا لا يعرض قصّة مُسلسلة واضحة المعالم، لكنّه يتجرّد إلى الأسئلة الوجوديّة وينزع إلى التأمُّل في الطبيعَة والأشياء، بين المادي والميتافيزيقي، هو يحكي قصة غامضة أو لُغزًا عن الحيَاة بطريقة تهدم السرد المُباشر الذي يبدو فيه كُل شيء واضح المعالم.

اقرأ/ي أيضًا:
فيلم "قدمي اليسرى".. الإبداع لا يقف عند حد الإعاقة
جوليان مور: مخيف أن تموت أحاسيسنا