18-سبتمبر-2016

صورة من الفيلم الأيرلندي للمخرج جيم شيريدان

بالتزامن مع مسابقات البارالمبيات ريو التي تلت الألعاب الأولمبية المقامة في أكبر دولة بالقارة الأمريكية الجنوبية البرازيل، شاهدت عددًا من المشاركات المتحدية للصعاب والتي استطاع أصحابها كسر حاجز الخوف من الفشل والخوف من الآخر، والوصول إلى نجاحات خاصة تجعلهم أبطالًا في أعينهم وأعين من حولهم. وقد حضر إلى ذهني تحدي المبدع البريطاني "كريستي براون" (1932-1981) الذي تحدى إعاقته وشلله الدماغي ووصل إلى نجاحات خاصة من خلال عالمه المرسوم بلوحات وضع لمساتها من خلال قدمه اليسرى التي حولت حياته من ظل للآخرين إلى بؤرة الضوء والاهتمام.

صورة الفيلم مكنت المشاهد من عيش حياة أسرة أيرلندية طبيعية تعاني من مصاعب الحياة، رغم هذا تحتوي ولدها المعاق، الذي يثق بذاته من خلال دعمهم، وهو ما انعكس على شخصيته وحضور خفة الظل في تصرفاته

"قدمي اليسرى/ My left foot" فيلم أيرلندي من إنتاج عام 1989 الحائز على قرابة 20 جائزة من بينها جائزتي أوسكار، واحدة للبطل الذي قام بدور "كرستي براون" البريطاني المخضرم دانيال دي لويس الحائز على ثلاث جوائز وأوسكار واستهلها بجائزة أفضل ممثل للفيلم الذي نحن بصدده، وكذلك جائزة الدور الثاني تعود للممثلة الأيرلندية بريندا فريكار التي قامت بدور الأم الداعمة لولدها والتي ساندته في مشواره الطويل.

على امتداد ساعتين إلا ربع نعيش مع حياة كريستى براون منذ لحظة ميلاده وصراعه في التكيف مع آليات الحياة الطبيعية، مرورًا بمراحل حياته التي تحدى من خلالها إعاقته التي لم تخلُ من خيبات الأمل ومحاولة التخلص من الحياة، وصولًا إلى التصالح مع النفس والحصول على الحب المأمول.

اقرأ/ي أيضًا: جوليان مور: مخيف أن تموت أحاسيسنا

اعتمادًا على سيرة حياة كريستي براون التي كتبها بقدمه اليسرى قدم المخرج الأيرلندي جيم شيريدان الذي ساهم في كتابه سيناريو الفيلم بالتعاون مع كاتب السيناريو الأيرلندي المرشح لجائزة الأوسكار شان كونياتون، فيلمًا يربط ما بين الشاعرية والتحدي، من خلال إلقاء النظر على حياة براون وتفاصيله الخاصة التي تتلاءم مع عينه المراقبة لكل ما حوله والتي عجز في أغلب الأحيان عن إعرابه وكشفه ما يجول في خاطره.

يستهل المخرج جيم شيريدان، الذي قدم مع دي لويس قرابة ثلاثة أفلام، فيلمه موضحًا دلالة اسم الفيلم، ونظرًا لدراية المشاهد لحياة كريستي براون وما حققته قدمه اليسرى من معجزة لانتقاله من الظل إلى النور، قدم شيرايدان بطل الفيلم الحقيقي وهو القدم اليسرى لبراون، حيث استهل مشاهده بتحرك قدم براون اليسرى، التي فرغت للتو من كتابة بعض الكلمات وبدأت في وضع الموسيقى المحببة له ليستمع لها وسط معاناة ضرورية لمساعدة الذات.

حيلة سردية
لدعم حالة الشاعرية وتوضيح ملامح حياة براون ومعافرته مع الحياة استخدم كاتب السيناريو حيلة مميزة للانتقال بسلاسة بين مراحل حياة براون، وقد بدأها من نقطة النهاية التي وصل بها إلى النجومية والانتشار والشهرة رجوعًا إلى حياته الأولى وميلاده وحياته البائسة التي لم تدم طويلًا على هذا المنوال.

من خلال شخصية ماري جليسة براون خلال حفل لجمع التبرعات وتوضيح حالته التي تطورت وإبداعه، تنطلق الحبكة العائدة إلى وقت مضى من خلال قراءتها لكلمات براون في كتابه "قدمي اليسرى" الذي يضم سيرته وبعض اللوحات التي رسمها، تكتشف ماري ملامح هذا الشاب الذي يفتقد للحب ويسعى وراءه بقدم واحدة.

اقرأ/ي أيضًا: "فيلم كتير كبير".. إلى الأوسكار

تقسم الحبكة إلى مراحل تحمل عناوين ضمنية من لوحات براون، الأولى وهي لوحة الأم التي رسمها لوالدته التي كانت سنده الأول، من خلال لوحة يغلب عليها اللون الأسود ويطل وجه الوالدة منها بلون أبيض، يكشف عن دور الأم الذي حمل شعلة الضوء لحياة هذا الطفل العاجز عن مواصلة حياته وحده، ويتسلل إلى طفولته من خلال هذه اللوحة، فتحت تلك اللوحة عالم براون من بدايته، وأكمل الفيلم رحلته مع لوحات متعاقبة رسمها براون بقدمه اليسرى لوالده ومعلمته وحبيبته دكتور إلين كول.

رغم مراقبة الفيلم إلى حياة براون إلا أنه استطاع التسلل إلى داخل هذا الشاب، وعبر عما أراد من خلال كلمات الحوار المنتقاة والسيناريو المحكم، وأبرزها جملة بطل شيكسبير الشهير "هاملت" الذي رددها خلال مسرحيته "أكون أو لا أكون.. هذا هو السؤال" من خلال تلك الجملة التي كررها براون في فترة من فترات الفيلم فقد مكنته لعبوره الجانب الآخر من حياته وأثقلت موهبته وغايته في الرسم.

الدعم
بالنظر إلى حياة براون نجد أن أسرته التي دعمته وعاملته كفرد أساسي حقيقي مشارك في الحياة، بداية من الأم التي آمنت به والأب الذي دعمه ووصولًا إلى الإخوة الذين أحبوه وأحبهم، وهو ما حماه من صدمة حبه لطبيبته وعزوفه عن الانتحار وإنهاء حياته.

صورة الفيلم مكنت المشاهد من عيش حياة أسرة أيرلندية طبيعية تعاني من مصاعب الحياة، رغم هذا تحتوي ولدها المعاق، الذي يثق بذاته من خلال دعمهم، وهو ما انعكس على شخصيته وحضور خفة الظل في تصرفاته، التي زرعها كاتبا السيناريو منذ بداية الفيلم تمهيدًا لخفة ظله التي يستخدمها لاستماله جليسته "ماري" لإقناعها بالخروج معه.

لغة السينما
من خلال عدسة جاك كونكوري نقلت للمشاهد تفاصيل حياة براون، واستحضرت من أعين براون دليلًا لها من خلال المراقبة للأحداث، فرغم أن عدسة المصور تتعامل من منطلق الراوي العليم إلا أنها تستخدم سلطتها في التركيز على بعض التفاصيل لنقلها للمشاهد، مثل التباين في تعامل براون مع المشي والأكل والحركة بصورة عامة وحتى الحب.

قدم المونتير"J. Patrick Duffner" إيقاعًا مميزًا خدم شاعرية العمل وتناغم أحداثه وتعاقبها، مكن المشاهد من المتابعة والشغف لمعرفة ما هي خطة براون القادمة، كما ميزت الموسيقى Elmer Bernstein العمل وشكلت له خصوصية خاصة من خلال موسيقى خاصة لكل مرحلة، مليئة بالشجن والحياة.

اقرأ/ي أيضًا: عيد الأضحى... موسم أفلام سوبر كوميدي

تكاتفت العناصر جميعًا لتوضيح ملامح تعبير الممثلين، الذي نقل المشاهد إلى عائلة كريستي براون والتعايش معهم وكأنهم من لحم ودم، جاء في مقدمة هؤلاء صائد الأوسكار لثلاث مرات دانيال دي لويس الذي قدم أداء يستحق الكثير من الثناء والتأمل لمحبي السينما والتمثيل، دي لويس الذي يعد من القليلين الذين يقدمون مدرسة التقمص والتعبير عن ملامح الشخصيات وتقديم أداء ملحمي يستحق الدراسة، كما قدمت الممثلة الأيرلندية بريندا فريكار أداء خاصة لأم تحمل الحدس والإيمان بابنها وقدرته على الحياة والعبور للأفضل، تلك الأم التي لم تحمل الشفقة على ولدها بل دعمته وعبرت معه إلى عالم مضيء.

كما قدم الممثل الشاب حاليًا والطفل في وقتها صاحب الأربعة عشر عامًا وقت ذاك، Hugh O'Conor دورًا ذا لمحة خاصة لطفل يعاني من الشلل الدماغي، ونقل من خلال تشنجاته وأدائه المميز روح كريستي براون وانفعالته ممهدًا الطريق لدي لويس ليسير بالشخصية في مرحلة الشباب.

فيلم قدمي اليسرى رغم أنه من إنتاج 1989 إلا أنه يستحق المشاهدة دون كلل أو ملل، ويمكن اعتباره من كلاسيكيات السينما التي لا تموت، حيث يقدم حياة واحد من القلائل الذين واجهوا الصعاب بأمل وتحدي، إلى جانب إبداع العناصر السينمائية التي تزيد من قيمة الفيلم، الذي يصعب حصره في مقال واحد.

من خلال قصة حقيقية ينقل جيم شيريدان الأمل لمشاهده، من خلال نهاية تشير إلى قدرة الإنسان في التغلب على الصعاب، ومواصلة الحياة بقدر من الأمل يعبر من خلالها إلى النور، مع اليقين بوجود صعاب، مع هذا يشير الفيلم إلى أن التمتع بالسعادة لا يكن له مذاق دون التعرض للصعاب، فالحياة الهانئة تأتي من قلب المعاناة الشاقة التي تسبقها.

اقرأ/ي أيضًا:
هل لامست السينما المغربية خطوط التابوهات؟
المصارع.. فيلم عن المَجد الزائل
فيلم "ربيع شتوي".. 14 دقيقة من سحر المشاعر