15-يناير-2019

عاش جعفر خضر منحازًا للبسطاء (تويتر)

في مدينة القضارف شرق السودان، وتحت منزل معروش بسيقان القمح عاش المناضل جعفر خضر منحازًا دومًا إلى البسطاء، وقد استطاع بمواقفه المناهضة للظلم والدكتاتورية أن يحجز له موقعًا دائمًا في السجن، لا كسائر السجناء وإنما كصاحب قضية حية وهبها كل عمره رغم اليأس المتفشي، مدركًا بحسه العميق، أنه غالبًا ما يكسب اليأس المعارك.

أثر جعفر خضر في تظاهرات كانون الأول/ديسمبر الجارية، حيث أضرم جذوة الثورة في نفوس أبناء مدينة القضارف، لتشتعل بالهتافات في مقدمة المدن السودانية

ولد جعفر خضر في سبعبنات القرن المنصرم، وهى الحقبة التي كان يمسك فيها الرئيس السوداني الراحل جعفر نميري سُدة السلطة، جنرالًا مزهوًا بالنياشين العسكرية، وقد أطلق الحاج خضر على ابنه وقتها اسم جعفر تيمنًا بقائد الثورة الجديدة، لكن الابن بعد أن كبر وانتقل للدراسة في جامعة الخرطوم، انبثق في داخله الحس الوطني، وأدرك مساوئ الحكم الشمولي، فأضحى معارضًا شرسًا للرئيس نميري، دون أن يخلع عن نفسه الاسم الذي لا يطيق صاحبه.

اقرأ/ي أيضًا: جمعة الغضب في السودان.. السلطة تقمع والشعب يواصل احتجاجه

الرجل الذي يساوي أغلبية

شكل جعفر خضر في تظاهرات كانون الأول/ديسمبر الجارية لوحدها أغلبية، حيث أضرم جذوة الثورة في نفوس أبناء مدينة القضارف، لتشتعل بالهتافات في مقدمة المدن السودانية، وكان يتحرك في الأسواق يوزع المنشورات، ويلهب الجماهير بحنجرته الفارهة، شاهرًا اصبعيه بعلامة النصر الذي ظل يتوق إليه دومًا وأبدًا منذ سنوات بعيدة، دون أن تحدّ إعاقته من عبور الشوارع، على كرسي متحرك ظل يجلس عليه بسبب شلل أطرافه، مدركًا أنه لا عذر في النضال. وقد ألهم خضر الثوار، حتى أن المدينة زفت عديد الشهداء، وحطمت جدار الخوف، وهي المدينة الوحيدة تقريبًا حتى الآن التي نجحت في الوصول إلى مقر الحكومة الولائية، وتلت فيها مذكرة تطالب بتنحي البشير من الحكم.

كان جعفر خضر في تلك الساعة حبيس الزنزانة، يتم اعتقاله في الصباح ويطلق سراحه في وقت متأخر من الليل، وأحيانًا يبقى لأيام في معتقلات الأمن، عصيًا على الكسر والتدجين، ضمن أولئك الذين ثاروا ولم يخسروا شيئًا سوى الأغلال، علاوة على أنه يحارب في كل الجبهات، ضد الظلم وضد الإعاقة معًا.

أيقونة الثورة السودانية

يتحرك جعفر خضر من مدينة إلى أخرى بصعوبة لينشر الوعي ويبشر بالمستقبل والعدالة الاجتماعية، كما لو أنه تشي جيفارا السودان، وقد أصبح أيقونة للهبة الأخيرة، ورمزًا للنضال السلمي، فضلًا عن أنه اختار مهنة التدريس من منزله لتدر عليه دخلًا تعتاش منه أسرته ويجابه به مصاعب الحياة، سيما وأنه يتحرك من كرسي لذوى الاحتياجات الخاصة، ومع ذلك فهو صاحب عزيمة أكبر وأمضى، كما يبدو.

حتى وجعفر خضر بعيد عن أضواء العاصمة الخرطوم جعل من مدينة القضارف منطلقًا للوعي والمقاومة

في نهاية الشهر الماضي وبعد اعتقالٍ هو الثالث خلال أسبوع، دخل جعفر في إضرابٍ عن الطعام والشراب، مما أفشى حالة من القلق على صحته، وكان يريد أن يغادر الحبس ليلتحق بالثوار، ويحصل على الحرية، مرددًا مقاطع من ملحمة شاعر الشعب محجوب شريف: "نغني ونحن في أسرك، وترجف وأنت في قصرك". وبعد أن أجبرهم على الإفراج عنه، يحكي جعفر تجربته في الإضراب عن الطعام والشراب قائلًا: "أضربت عن الطعام لحوالي 57 ساعة من حوالي الواحدة ظهرًا يوم الثلاثاء، إلى العاشرة مساء الخميس، كما أضربت عن الشراب لحوالي 43 ساعة من حوالي العاشرة مساء الثلاثاء، إلى الخامسة عصر اليوم الخميس". وهي تجربة قاسية على رجل في ظروفه، لكنه برر لها بالقول "لم أكن أنوي خوض هذه التجربة الجديدة عليّ، وكل ما في الأمر أنه عندما تم اعتقالي حوالي السابعة من صباح الثلاثاء طلبت من الملازم أن ييسر وصول شقيقي حاتم إلي، بميقاتين محددين ليجلب الطعام ويساعد في قضاء الحاجة في بيئة غير معنية بمن هو مثلي".

بيئة غير معنية بأمثاله

تبدو العبارة الأخيرة "بيئة غير معنية بأمثالي" جرس إنذار بمعاناة أصحاب الحاجات الخاصة في السجون، والتي تفتقر إلى أدنى مقومات الحياة، دون مراعاة لفئة تستلزم رعاية خاصة وميسرة. ومضى خضر في سرد التفاصيل اللاحقة لبداية الإضراب الذي نفذه بصرامة، لأن الإضراب في العادة يكون عن الطعام ولكنه اختار الطعام والشراب غير عابئًا بما سيترتب على هذا، مضيفًا أنه "عندما سألوني صباح الخميس عن حاجتي طلبت مقابلة الطبيب وقلت لهم: لا أثق في أطبائكم، وطلبت مقابلة الدكتور سامي الدرديري، وقالوا إنه سيحضر إلي في محبسي ولكن جيء بطبيب آخر، هو مدير مستشفى الشرطة، وقد عاملني بلطف وطلب مني فك إضراب الشراب. قلت له لكن مافيش حمامات لمثلي هنا، قال إنه مستعد لأن يفرد لي غرفة مجهزة في مستشفى الشرطة".

أكثر ما يميز سيرة المناضل جعفر خضر  تصوفه وزهده في الحياة، وصبره الجميل

وقد ناشدت أسرته الحكومة والمنظمات الحقوقية بالتدخل وعدم تعريض حياته للخطر، لاسيما وأنه يبقى لفترات متطاولة على الكرسي المتحرك، وقد تدهورت صحته، كما أنه يعاني ويشكو من آلام حادة في السلسلة الفقرية، وظل أيضًا يشتكي من الصفع والإهانة، ومحاولات كسر إرادته، لكنه دائمًا كان يقابل ذلك بالصمود والبسالة، وأحيانًا بكتابة الشعر، مثل قصيدته الشهيرة "القصاص بالكلمات".

كلمة ضد الرصاص

عمل جعفر خضر على إنشاء وتكوين منتدى شروق الثقافي بالقضارف، لنشر الوعي والاحتفاء بالمواهب، وظل ذلك المنتدى ملاذًا للمثقفين والحالمين بوطن أجمل، يرتاده أبناء المدينة رغم التضييق، حيث ظلت السلطات تقوم بإغلاق المنتدى بشكل مستمر وتصادر ممتلكاته، وقد نفذ المنتدى أكثر من وقفة احتجاجية، وكان معتمد بلدية القضارف قد أغلق مقر منتدى شروق بالقوة دون مبرر يذكر، ما اضطر المنتدى إلى  استئجار مقره بعد أن أُغلقت كل الدور في وجوههم. ومع ذلك انتقل خضر لمواقع التواصل الاجتماعي، يكتب فيها ويحرض بالكلمة ضد الظلم والرصاص، ويتواصل مع الآخرين، وربما هذا أكثر ما أخاف السلطات منه.

بدأ جعفر خضر رحلته النضالية من جامعة الخرطوم، حيث أفجعته واقعة اقتحام السلطات للجامعة في العام 1991 واستشهاد زميله الطالب طارق، الذي أصبح عنوانًا لقصيدة جعفر "في محل طارق جونا طوارق"، وأيضًا كان عضوًا مبادرًا في تنظيم الطلاب المعاقين بالجامعة بإشراف المرحوم الدكتور محمد هاشم عوض، وكان وراء إعداد مسرحية قام فيها بالتمثيل أعضاء جمعيته، عرضت على مسارح كثيرة بالخرطوم. ولما تنامى حسه بمنزلة السياسة حول تخصصه إلى العلوم السياسية والاقتصادية عن علوم الإدارة.

التربص بالفساد

حتى وهو بعيد عن أضواء العاصمة الخرطوم جعل من مدينة القضارف منطلقًا للوعي والمقاومة، وكان في طليعة منظمة "القضارف ضد الفساد" التي تربصت بإساءة توظيف المال العام، وكانت بمثابة برلمان حقيقي اعتصم بالرقابة على الأداء الحكومي عمومًا، لدرجة أنها أصبحت كابوسًا مرعبًا للمسؤولين، تذم التبديد جهارًا وتعري الصفقات المشبوهة، وتتقدم صفوف الاحتجاج بلا مواربة.

رفيق المعتقلات

وصف الصحفي والنشاط السياسي محمد سلمان جعفر خضر بـ"الإنسان الممتاز"، وأسرته بالديمقراطية، وقال إنه رغم نبوغه وتفوقه الأكاديمي لم يحظ بفرصة للعمل في الدولة، وكشف سلمان في حديثه لـ"ألترا صوت" معلومات عن حياة جعفر الذي يقوم بتدريس الطلاب السودانيين، ويصرف على أسرته وعلاجه من "مرض الأعصاب الوراثي"، معتبرًا أنه مثقف صاحب عزيمة ورؤية، ولا ينكر أحدًا شجاعته إطلاقًا، وربما يكون أكثر سوداني تعرض للاعتقال السياسي، فمنذ بداية المظاهرات نهاية الشهر الماضي تعرض لنحو 30 عملية اعتقال.

وأكثر ما يميزه وفقًا لسلمان تصوفه وزهده في الحياة، وصبره الجميل، وكان والده أحد خلفاء الطرق الصوفية في مدينة القضارف، ولعل نزوعه للحق ونصرة الضعفاء، أشعل في المدينة مبادرة القضارف للخلاص الوطني، التي سبقت مظاهرات كانون الأول/ ديسمبر بسنوات من العمل المتواصل في تنظيم المسيرات السلمية التي تطالب برحيل النظام، وكان يشارك فيها العشرات، وبتراكم العمل النضالي أصبحت مسيرات القضارف تضم الآلاف، وتلهم المدن الأخرى والأجيال، على حد وصف سلمان.

اقرأ/ي أيضًا: السودان.. دعوات إلى "انتفاضة ثالثة"

لما انحنى له الوطن

بذل المؤرخ والكاتب اليساري الدكتور عبد الله علي إبراهيم، شهادة في حق جعفر خضر بعنوان "لما انحنى عليه الوطن العملاق"، مشيرًا إلى أن هناك قلة من السودانيين اعتقدت أن السياسة ممارسة محلية، لكن جعفر كان استثناءً فيهم، لتجذر سياسته في بيئة محلية ودوامه عليها، قائلًا: "قرأت بحثًا له عن التعليم السوداني لا وحدة بلغ ولا دينًا أبقى". وأشهد الله أنني ما قرأت مثله ممن فاقه خبرة وتأهيلًا، فبينما تجدهم غضبى حولوا نقدهم للتعليم في ظل حكومة الإنقاذ إلى سياسة، تجد جعفر رصينًا أبقى عليه تعليمًا ونفذ إلى نصوص المقرر تجريحًا وتعديلًا بحرفية ببداغوغية غراء، على حد وصف إبراهيم.   

يتحرك جعفر خضر من مدينة إلى أخرى بصعوبة لينشر الوعي ويبشر بالمستقبل والعدالة الاجتماعية، كما لو أنه تشي جيفارا السودان

وأعرب علي إبراهيم عن ‘عجابه بجعفر خضر "كسوداني استثنائي، خاض بحر السياسة وغبار شوارعها وحراسات أمن النظام المدجج من فوق عجلة معاق"، مبديًا دهشته من جس نبض وحمية وعرفان جمهور التظاهرات التي قادها جعفر فوق شوارع القضارف لأجل الوطن من فوق تلك العجلة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

السودان.. الدولار يقفز مجددًا

أين مفتاح الشارع؟