19-فبراير-2016

سليم البيك

كثيرةٌ هي فخاخ الكتابة الأيروتيكية، وقلما تنجو منها النصوص التي تنتمي إليها، أو التي تحاول الانتماء إليها، لأنّ الحدّ الفاصل بين الفنّ والإثارة الرخيصة واهٍ ومخادع، ويغري بعنفٍ للخوض فيه تحت مسمّيات مضلّلة كالتمرّد والشجاعة.

مشكلة الكتابة الأيروتيكية هي أن الحدّ الفاصل بين الفنّ والإثارة الرخيصة واهٍ ومخادع

لكنّ كتابًا مثل "لا شيء عليكِ سوى الماء" للفلسطيني سليم البيك، يعبر تلك البرازخ بنعالٍ من ريح، ويمضي بجسارة إلى المنطقة التي تلتقي فيها النصوص بقوتها الفنية والتعبيرية، وبخصوصية معالجاتها وأفكارها، لا بصخب مواضيعها أو الأكشن الذي تثيره.

كتابٌ صغيرٌ يتوخّى كتابة تجربة في الحبّ، ويمزج لأجل ذلك الهوى والصبابة والتصوّف والعهر والشّهوات والشيطنات في قالبٍ تصويريّ، يترنّح سكرانَ بين السّينما والتّشكيل، ليحوّل الكتابة إلى سريرٍ بين يدي القارئ، دون أن يعني ذلك أنه سيشاهد فيلم بورنو، بل هي قوّة الشعر في إرجاع التّجربة جسدًا وروحًا وذاكرةً وشبقًا وجنونًا، عبر اللغة التي تستبدل المؤقّت الجنسيّ بأبديّة الكلمات. هكذا يمكن تخيّل تلك العلاقة مدفونةً كالكنز في هذه الصّفحات القليلة، وعلى الأيدي التي تقلّبها، في أي وقتٍ، أن تلاقي ما لاقتها اليد التي حكّت المصباح السحري مطلقةً منه العفريت.

يقوم الكتاب على قسمين: "سريرة فخذين" و"ملتقى فخذين"، وكلٌّ منهما يقوم على مجموعة من المقاطع الصغيرة التي تتناول شأنًا من شؤون العلاقة، أو تفصيلًا من تفاصيلها. ولو جئنا نرسم سيناريو دراميًا لمسار النصوص لوجدناها تسير على هذا النهج: مغازلةٌ فمطارحةٌ فمغازلة. ابتداء باللّغة وانتهاء بها، وبينهما يحدث الحبّ باللغة أيضًا، ما يجعل العلاقة تبدو صراعًا مع اللغة، أو جنسًا معها. 

تبدأ الحكاية بجملة حلمية "منتعلةً الهواء تقتربين" (ص 13)، ليصف الشاعر بعدها الخطوات، ومن ثم ينتقل، في المقاطع التالية، إلى الفخذين والنّهدين والتّنورة والشَّعر والعيون.. إلخ. هو تشبيبٌ مجنون، فِلَاحةٌ لجسد المحبوبة، مسحٌ كامل لجغرافيتها المرئية وغير المرئية أيضًا. وهو استنطاقٌ للحواس اللامتناهية بحواسٍ فقيرةٍ خمس، وتحريض للذاكرة بعنفٍ الحب وحنانه. يفعل البيك ذلك كله، دون أن يكتفي بالجسد المحسوس حيث تراه يبدي رغبةً في تعرية العري نفسه، رغبةً منه، كما كل عاشق جسور، في الوصول إلى ما وراء الحب، عبر الوصول إلى ما وراء العري، يقول: "تتعرّين أكثر" (ص 34).

تأتي الممارسة الجنسية في سياق هذا السّرد الشعري كذروة للحبكة. الجسد دراما ولحظة اللقاء بالجسد الآخر هي أقصى لحظات هذه الدراما السّعيدة: "كالزجاج أرى بطنكِ من بعيد، من فوق. كزجاج عليه آثار ماء. كرات صغيرة من العرق تتدحرج عليه كأنها تلهو" (ص 57). "أوه، نسينا أن نسترجع لجسدينا رائحتيهما من بعضيهما. نسيت ثانيةً أننا استغفلناهما وخرجنا على رؤوس أصابعنا" (ص 77)

 بسبب الشِّعر تستقيم نديّة الشّهوة، وتتحقق المساواة العادلة بين الرجل والمرأة

إذا كان الجنس هدفه الجسد، والحب هدفه الشخصية، كما يقول ثيودور رايك في كتابه "سيكولوجيا العلاقات الجنسية"، فإنّ "لا شيء عليكِ سوى الماء" يذهب إلى مزج الحبّ والجنس بحيث تختلط وظائفهما وأدوارهما، فتصبح بالتالي هناك شخصية للجسد، وشهوة للشّخصية. وإذا كان الاهتمام الأكبر منصبًا على الجسد الأنثوي، بما هو موضوع لهذه النصوص، فإنّ ما يحدث أنّ الجمال البالغ الذي يقدمه هذا الجسد يرغم الشاعر على السباحة في لجج لغةٍ خاصة، ليقدّم كيانًا لغويًا يليق بالكيان المعشوق. بهذا المعنى، بسبب الشِّعر تستقيم نديّة الشّهوة، وتتحقق المساواة العادلة بين الرجل والمرأة، وبين جسدَي القصيدة والحبيبة. 

"في ساقيكِ توبةٌ ومغفرةٌ. في الورد على فستانكِ الملقى إلى سكون الغرفة كفارةٌ للناظرين" (ص 30)، بمثل هذه الاختلالات، تتفوّق القيمة على الدوافع، وتكتسي الشهوات بعدًا صوفيًا. فإذا كان الجنس موجودًا كتعبير عن الطبيعة، وكان الحب تعبيرًا موازيًا عن الثقافة، فتلك الاختلالات والانزياحات تأخذ النصوص إلى منطقة تتثقّف فيها الطبيعة، وتتطبّع فيها الثقافة.

في النهاية، لا ينشغل "لا شيء عليكِ سوى الماء" بقاموس الجنس العربي، بل لا يهتم به أصلًا، على العكس من كتابات أيروتيكية معاصرة تبحث عن مرجعيات ثقافية. الجسد هنا مرجع نفسه، ذلك أن الهم الأول والأخير هو كتابة الانفعالات التي أشعلها ذلك الحبّ، والذي أخذ الجسد إلى نوع من الامتلاء الحسي اللذيذ الذي يصفه الشاعر بـ"يملأ حبّكِ القلبَ كما تملأ لقمة التيراميسو الفم" (ص18)، لكن هذا الامتلاء عتبة لامتلاءات أخرى كالشعر مثلاً.

اقرأ/ي أيضًا:

"أولاد الغيتو- اسمي آدم".. سردٌ بلغة النّار

"نزهة بحزام ناسف".. تركيب الموت شعرًا