22-ديسمبر-2016

سفيتلانا أليكسييفيتش (نوبل 2015)

كاتبة وصحفية من بلاروسيا، صدر لها عدة أعمال توثيقية أغلبها عن الحروب السوفيتية. أثارت كتاباتها جدلًا كبيرًا في بلدان الاتحاد السوفيتي، وتعرضت لعدة محاكمات قانونية بسبب كتاباتها. أنشأت سفيتلانا نوعًا جديدًا من الأدب قائمًا على كتابة رواية من الأصوات المتعددة لشهود مرحلة ما. وحازت على عدة جوائز دولية أهمها "جائزة السلام من معرض فرانكفورت للكتاب" 2013، و"جائزة نوبل للآداب" 2015، التي نالتها على أعمالها المتعددة الأصوات التي تمثل معلمًا للمعاناة والشجاعة في زماننا. وهي تعمق بأسلوبها الاستثنائي -الذي يقوم على تداخل دقيق بين صوت البشر- الفهم لعصر كامل.

وقعت آلاف الحروب، قصيرة ومديدة، عرفنا تفاصيل بعضها وغابت تفاصيل أخرى بين جثث الضحايا. كثيرون كتبوا، لكن دومًا كتب الرجال عن الرجال. كلُّ ما عرفناه عن الحرب، عرفناه من خلال "صوت الرجل". فنحن جميعًا أسرى تصوُّرات "الرجال" وأحاسيسهم عن الحرب، أسرى كلمات "الرجال". أمَّا النساء فلطالما لذن بالصمت.

وقعت آلاف الحروب عرفنا تفاصيل بعضها وغابت تفاصيل أخرى بين جثث الضحايا

في الحرب العالمية الثانية شاركت تقريبًا مليون امرأة سوفيتية في القتال على الجبهات كافة، وبمختلف المهام. تثير سفيتلانا أسئلة مهمة عن دور النساء في الحرب، لماذا لم تدافع النساء، اللواتي دافعن عن أرضهن وشغلن مكانهنَّ في عالم الرجال الحصري، عن تاريخهن؟ أين كلماتهنَّ وأين مشاعرهنَّ؟ ثمَّة عالم كامل مخفيٌّ. لقد بقيت حربهنَّ مجهولة.

اقرأ/ي أيضًا: سفيتلانا أليكسيفيتش.. نوبل للآداب 2015

في كتابها "ليس للحرب وجه أنثوي"، تقوم سفيتلانا بكتابة تاريخ هذه الحرب؛ حرب النساء.


أنا وحدي.. عدت إلى أمِّي..

أتوجَّه إلى موسكو بالقطار. ما أعرفه عن نينا ياكوفليفنا فيشنيفسكايا لا يشغل حتى الآن سوى بضعة أسطر على دفتر يومياتي. في السابعة عشر من عمرها توجَّهت إلى الجبهة، كانت تعمل مرشدة طبِّية في الكتيبة الأولى من اللواء الثاني والثلاثين للجيش الخامس. شاركت في معركة الدبَّابات الشهيرة، بالقرب من بروخوروفكا، حيث التحمت من الجانبين -السوفيتي والألماني- ألف ومئتا دبَّابة ومجنزرة وآلية. إنها واحدة من أكبر معارك الدبَّابات في التاريخ العالمي.

أعطاني عنوانها متتبِّعو الأثر من التلاميذ من بوريسوف، الذين جمعوا مادَّة كبيرة لمتحفهم عن لواء الدبَّابات الثاني والثلاثين الذي حرَّر مدينتهم. كان عادة يعمل رجال في الإرشاد الطبِّي في وحدات الدبَّابات. أمَّا هنا، فكانت فتاة تقوم بهذا العمل. حزمت حقيبتي بسرعة وقصدتها.

بدأت أفكِّر: كيف سأختار بين عشرات العناوين؟ في الفترة الأولى، كنت أسجِّل جميع من ألتقي بهنَّ، كُنَّ يسلِّمن لي موادهنَّ عبر سلسلة، وتتَّصل إحداهنَّ بالأخرى، كما كُنَّ يدعونني إلى لقاءاتهن، أو إلى بيت إحداهن على الفطيرة مع الشاي. وبدأت أستلم الرسائل من جميع أنحاء البلاد، حتى أن العنوان نفسه كان يصلني من خلال بريد الجبهة. كن يكتبن لي: "أنتِ أصبحتِ "منّا وفينا"، أصبحت فتاة الجبهة". وسرعان ما أدركت، أن من المستحيل كتابة كلِّ شيء، لا بدَّ من مبدأ آخر للانتقاء والبحث. وأي مبدأ؟ بعد تصنيفي للعناوين الموجودة، صغت مبدئي على النحو التالي: السعي إلى كتابة النساء من مختلف الاختصاصات الحربية. ذلك لأن كلًا منا يرى الحياة من خلال عمله، ومن خلال مكانه في الحياة أو في الحدث، الذي يشارك فيه. وكان من الممكن الافتراض، أن الممرِّضة ترى حربًا معينة، والخبَّازة ترى حربًا ثانية، ومجنَّدة الإنزال الجوِّي حربًا ثالثة، والطيَّارة – رابعة، وقائدة فصيلة الأسلحة الرشَّاشة – خامسة... ولكلٍّ منهنَّ نطاق رؤية خاصٌّ بها: فواحدة لها سرير العمليات: "يا الله... كم رأيت من الأيدي والأرجل المقطوعة! حتى أنني لم أعد أصدِّق أن ثمَّة رجالًا مكتملي الأرجل والأيدي. كان يبدو لي أنهم جميعًا إمَّا جرحى أو قتلى". (آ. ديمشنكو، رقيب أوَّل، ممرِّضة)،

ولدى أخرى – طناجر المطبخ النقَّال: "بعد المعركة، حدث أنه لم يكن هناك من نقدِّم له الطعام... حلَّة العصيدة، وحلَّة الحساء، أحضِّرهن وليس هناك من يأكل". (ي. زينينا، مجنَّدة. طبَّاخة)، ولدى ثالثة – قمرة الطيَّار: "كان معسكرنا في الغابة. أنزلتُ الطائرة بعد التحليق وقرَّرت الذهاب إلى الغابة. كان هذا في أواسط الصيف، الأرض جافَّة. قطعت الممرَّ وشاهدت جنديًا ألمانيًا ميتًا مستلقيًا... وقد أصبح أسود اللون... سيطر عليَّ خوف. لم يسبق لي أبدًا أن شاهدت قتلى، مع أنني أقاتل منذ سنة. هناك في السماء، شيء آخر... عندما تطير تسيطر عليك فكرة واحدة: أن تعثر على الهدف وتدمِّره وتعود. لم نكن نرى أمواتًا. لم يكن لدينا مثل هذا الخوف". (آ. بونداريفا، ملازم حرس، طيَّار متقدِّم). 

كل منا يرى الحياة من خلال عمله، ومن خلال مكانه في الحياة أو في الحدث

أمَّا لدى العاملة في المقاومة وحرب الأنصار، فالحرب تنطبع حتى الآن برائحة النار المحترقة: "كلُّ شيء على شعلة النار؛ نخبز الخبز عليها، ونغلي الطعام، وتبقى الفحمات فنضع عليها الأغلفة، ونجفِّف عليها الأحذية والجزمات. وكانت شعلة النار متَّقدة ليلًا". (ي. فيسوتسكايا).

اقرأ/ي أيضًا: قتلتُ لأنني أردتُ أن أحيا

ولكني لا أتمكَّن من البقاء طويلًا وحيدة مع أفكاري. حضرت عاملة عربة القطار وأحضرت الشاي إلى المقصورة. وهنا بدأ التعارف بضجَّة ومرح في المقصورة. وظهرت على الفور على الطاولة زجاجة فودكا "موسكوفسكايا" التقليدية، والمقبِّلات البيتية، وبدأ، كما هو مألوف عندنا عادة حديث الروح. تحدَّثنا عن أسرار الأسرة، والسياسة، وعن الحبِّ والكراهية، وعن الزعماء والجيران.

 

لقد أدركت منذ زمن طويل، أننا أناس الطريق والحديث... أنا أيضًا أروي ما عندي: إلى من أذهب، ولماذا. اثنان من رفاقي في الطريق شاركا في الحرب؛ أحدهما قائد كتيبة رائدة، وصل إلى برلين، والثاني أمضى ثلاث سنوات في حرب الأنصار والمقاومة على أرض بيلاروسيا. وتحدَّثنا على الفور عن الحرب. ثمَّ سجَّلت حديثنا، لأنني حفظته في ذاكرتي: "نحن أصبحنا عشيرة منقرضة. نحن من حيوانات الماموث! نحن من جيل كان يؤمن أن ثمَّة في الحياة ما هو أكبر من الحياة الإنسانية. هناك الوطن، وهناك الفكرة السامية. وهناك أيضًا ستالين. وعلام الكذب؟ وكما يقال: لا يمكنك أن تشطب الكلمات من الأغنية".

  • "هذا، بالطبع... كان عندنا في الوحدة فتاة شجاعة... كانت تسير على السكَّة الحديدية. في عمليات النسف. قبل الحرب، اعتُقل جميع أفراد أسرتها: أبوها وأمُّها وأخواها الكبيران. كانت تعيش عند خالتها، شقيقة والدتها. منذ أيَّام الحرب الأولى، كانت تبحث عن الأنصار؛ عن المقاومة. لقد رأوا في الوحدة أنها كانت تتمرَّد، وتجادل الجميع... أرادت إثبات ذلك... كوفئ الجميع باستثنائها. لم تُكافأ ولا مرَّة. لم تُعطَ أية ميداليات، لأن والديها من أعداء الشعب. قبيل وصول جيشنا قُطعتْ رجلها. لقد زرتها في المستشفى العسكري... كانت تبكي... وقالت: الآن، سيصدِّقونني. كانت فتاة جميلة".

لم يقتصر دور المرأة الروسية في جميع العصور على توديع زوجها، شقيقها، ابنها إلى المعركة

اقرأ/ي أيضًا: مديح لنساء العائلة.. العشيرة تدخل الحداثة

  • "عندما جاءت إليّ صبيتان، قائدتا فصيلتي هندسة، أحد الحمقى أرسلهما إليَّ من مديرية الموارد البشرية، أرجعتهما على الفور. كانتا حانقتين جدًّا. أرادتا السير على الخطِّ الأمامي وإقامة ممرَّات ألغام".
  • "ولماذا أرجعتهما؟".
  • "لعدَّة أسباب. الأوَّل؛ كان لديَّ عدد كافٍ من الرقباء الجيِّدين الذين يمكنهم تنفيذ ما أرادت فعله هاتان الصبيتان، وثانيًا؛ كنت أعتقد أن لا حاجة للمرأة إلى أن تدخل إلى الخطِّ الأمامي. في هذا الحرِّ الشديد. وثمَّة عدد كافٍ من الرجال. ثمَّ كنت أعرف أنه لا بدَّ من بناء مخبأ خاص لهما، وتحميل عملهما القياديِّ عبء مختلف الشؤون النسائية. وهموم كثيرة".
  • "إذًا، برأيك، لا مكان للمرأة في الحرب؟".
  •  "إذا ما عدنا إلى التاريخ، فإن المرأة الروسية في جميع العصور لم يقتصر دورها على توديع زوجها، شقيقها، ابنها إلى المعركة، وتحزن عليهم وتنتظرهم. فالأميرة ياروسلافنا كانت قد ارتقت جدار القلعة وسكبت القطران السائل على رؤوس الأعداء. ولكن، كان عندنا، عند الرجال، شعور بالذنب، لأن الفتيات يحاربن، وبقي هذا الشعور عندي. أذكر أننا تراجعنا. وكان هذا في الخريف، الأمطار تستمرُّ في الهطول عدَّة أيَّام، ليلًا ونهارًا. وعلى مقربة من الطريق، ترقد فتاة قتيلة... كان لديها ضفيرة كبيرة، ومغطَّاة كلُّها بالأوحال".
  • "هذا طبيعي... عندما سمعت أن ممرِّضاتنا، بعد أن وقعت قطعتهن العسكرية في الحصار، شرعن بإطلاق النار، دفاعًا عن المقاتلين الجرحى، لأن الجرحى عاجزون، بلا قوَّة، كالأطفال، هذا أمر مفهوم. أمَّا الآن، فنحن أمام اللوحة التالية: امرأتان تزحفان في المنطقة المحايدة لقتل أحد الأعداء ببندقية القنص. نعم، لا يمكنني إلا أن أتعاطف، بأن هذا عمل قتالي" قنص". أنا نفسي أطلقت النار و"قنصت"... لكنني رجل".
  • "لكنهما كانتا تدافعان عن أراضيهما؛ تنقذان الوطن".
  • "ذا طبيعي، ربَّما، كان يمكنني أن أذهب مع مثل هذه المرأة للاستطلاع، ولكن لما وافقت على الزواج بها... لقد اعتدنا التفكير في المرأة كأمٍّ وخطيبة. على أنها سيِّدة رائعة، أخيرًا لقد حدَّثني أخي الأصغر، كيف اقتادوا في المدينة الأسرى الألمان، وهم أيضًا، شباب في مقتبل العمر، كانوا يطلقون النار من البنادق على الطابور. شاهدتْه أمُّه وصفعتْه. كانوا يسيِّرون فتيانًا من بين الذين اقتادهم هتلر مؤخَّرًا إلى الحرب. كان عمر أخي سبع سنوات، لكنه بقي يذكر كيف نظرتْ أمُّنا إلى هؤلاء الألمان، وقالتْ باكية: فليُصب العمى أمَّهاتكم! كيف سمحن بأخذكم إلى الحرب؟! الحرب من عمل الرجال. وهل ينقصنا الرجال ليكتبوا عن الحرب؟".

لو لم يحدث ما جرى في العام السابع والثلاثين، لما حدث ما جرى في العام الحادي والأربعين

اقرأ/ي أيضًا: مقطع من "المتطوعون".. رواية مواسير سكلير

  • "لا، أنا شاهدة. لا! لنتذكر كارثة الأشهر الأولى من الحرب: طائراتنا كلُّها دُمِّرت على الأرض، ودبَّاباتنا كانت تحترق كعلب الكبريت. البنادق قديمة. أُسر الملايين من جنودنا وضبَّاطنا، عدَّة ملايين! بعد شهر ونصف أصبحت قوَّات هتلر بالقرب من موسكو... أساتذة الجامعات تسجَّلوا في قوَّات الحشد المقاوم. أساتذة متقدِّمون في السن! والفتيات كُنَّ يتشوَّقن للذهاب تطوُّعًا إلى الجبهة، أمَّا الجبان فلن يذهب بنفسه إلى الحرب".
  • "لقد كُنَّ فتيات جريئات، عاديات. هناك إحصائية: عدد القتلى من الأطبَّاء في الخطِّ الأمامي احتلَّ المركز الثاني بعد القتلى من الأسلحة النارية، في سلاح المشاة. ماذا يعني، على سبيل المثال، إخراج جريح من أرض المعركة؟ سأحدِّثك الآن... تقدَّمنا في المعركة الهجومية، وأخذوا يحصدوننا بالرشَّاشات. ولم تعد هناك كتيبة. الجميع كانوا مستلقين، مسطَّحين. لم يموتوا جميعًا، كان هناك كثير من الجرحى بينهم. الألمان مستمرُّون في الرمي، وإطلاق النار لا يتوقَّف. وبصورة مفاجئة للجميع، برزت من الخندق فتاة واحدة أوَّلًا، ثمَّ ثانية، فثالثة... وبدأن بتضميد الجرحى وسحبهم، حتى أن الألمان أنفسهم تخدَّروا من الدهشة. بحلول الساعة العاشرة ليلًا، كانت الفتيات مصابات بجروح بليغة، وكلٌّ منهنَّ أنقذت اثنين أو ثلاثة على الأكثر من المقاتلين. ولم يُكافأن إلا ببخل شديد، ففي بداية الحرب، لم يكونوا يرمون المكافآت جزافًا. كان من الواجب على الفتاة أن تسحب الجندي مع سلاحه الفردي. كان السؤال الأول في الكتيبة الصحِّية: أين السلاح؟ في بداية الحرب، كان هناك نقص كبير في السلاح. كان من الواجب جرُّ البندقية أو البندقية الآلية أو الرشَّاش. في العام الحادي والأربعين صدر أمر برقم 281 حول تقديم المكافآت لإنقاذ حياة الجنود: ميدالية "تقدير للخدمة القتالية" لإنقاذ خمسة عشر مقاتلًا جريحًا بجروح بليغة ونقلهم من ساحة المعركة مع سلاحهم الفردي، وسام الراية الحمراء لإنقاذ خمسة وعشرين جنديًا، وسام الراية الحمراء لإنقاذ أربعين مقاتلًا جريحًا، وسام لينين لإنقاذ ثمانين مقاتلًا جريحًا. وقد وصفت لكِ ماذا كان يعني إنقاذ مقاتل جريح واحد... من تحت القصف".
  • "هذا، نعم... أنا أيضًا أذكر... نعم... أرسلوا عناصر الاستطلاع عندنا إلى قرية، حيث كانت تتمركز حامية ألمانية. قُتل اثنان... وإثرهما قُتل الثالث... ولم يعد منهم أحد. استدعى القائد إحدى فتياتنا: لوسيا، أنت ستذهبين. قاموا بتمويهها وإلباسها ثياب راعية، وأوصلوها إلى الطريق... وما العمل؟ وما هو المخرج؟ يقتلون الرجل، وقد يسمحون للمرأة بالمرور. هذا صحيح... ولكن، وعندما يرون في أيدي المرأة بندقية؟".
  • "وهل عادت الفتاة؟".
  • "لقد نسيت كنيتها، أمَّا اسمها فهو لوسيا. لقد استُشهدت... حدَّثنا عنها الفلاحون فيما بعد".

لاذ الجميع بالصمت. ثمَّ رفعنا الكؤوس نخب الشهداء. وتحوَّل موضوع الحديث إلى جانب آخر – بدأ الحديث عن ستالين، عن كيفية قتله عشية الحرب لأفضل كوادر قادة الجيش، النخبة العسكرية، وعن التطبيق القسري القاسي للتعاونيات الزراعية في العام السابع والثلاثين. وعن معسكرات الاعتقال والمنافي. حول أنه، لو لم يحدث ما جرى في العام السابع والثلاثين، لما حدث ما جرى في العام الحادي والأربعين. ولما تراجعنا إلى موسكو. لكننا بعد الحرب نسينا هذا. طغى النصر على كلِّ شيء.

كنا نسعى إلى نسيان الحرب. ونسينا فتياتنا هناك أيضًا

اقرأ/ي أيضًا: "فتاة القطار".. رواية عن نساء على الحافة

  • "وهل كان هناك حبٌّ في الحرب؟" – سألتُ.
  • "بين صبايا الجبهة شاهدت كثيرًا من الفتيات الجميلات، لكننا لم نكن نرى فيهن نساءً. مع أنهن، برأيي، كُنَّ صبايا رائعات. لكنهنَّ كُنَّ صديقاتنا اللواتي جررننا من ساحة المعركة. أنقذننا، ورعيننا. وقد سُحبت مرَّتين عندما كنت جريحًا. فكيف يمكنني أن أُعاملهن معاملة سيِّئة؟ وهل يمكنكِ أنت أن تتزوَّجي من أخيكِ؟ كنا ندعوهن أخواتنا".
  • "وبعد الحرب؟".
  • "انتهت الحرب، وقد أصبحن ضعيفات، وليس هناك من يدافع عنهن. فزوجتي مثلًا امرأة ذكية، لكنها تقف موقفًا سلبيًا من المحاربات، وتعتقد أنهن ذهبن إلى الحرب بحثًا عن العرسان، وأنهن كنَّ جميعهن يؤلِّفن قصصًا غرامية هناك. أمَّا في الحقيقة، وحديثنا صريح بالطبع، فقد كانت غالبيتهن فتيات شريفات صادقات، نقيات. لكننا، بعد الحرب... بعد الأوساخ، بعد القمل، بعد الموت... كنا نسعى إلى الجميلات، الساطعات، إلى النساء الجميلات... عندي صديق، أحبَّتْه في الجبهة فتاة رائعة حقًّا، كما أدرك الآن. ممرِّضة. لكنه لم يتزوَّجْ منها، تسرّح من الخدمة وتزوَّج من أخرى، أكثر جمالًا. لكنه غير سعيد مع زوجته. والآن يتذكَّر تلك الفتاة، ويتذكَّر حبَّه في أثناء الحرب، لو تزوَّجها لكانت صديقته الآن. لكنه بعد الحرب هجرها لأنه طيلة أربع سنوات كان يراها في جزمة بالية وسترة رجولية. كنا نسعى إلى نسيان الحرب. ونسينا فتياتنا هناك أيضًا".
  • "هذا طبيعي... كانوا شبابًا وأرادوا أن يتذوَّقوا طعم الحياة".

وهكذا لم يعرف أحد منا النوم في تلك الليلة. أحاديثنا استمرَّتْ حتى الصباح. خرجت من المترو، ووجدت نفسي على الفور في فناء موسكوفي هادئ. مع الحقول الرملية والأراجيح. أمشي وأتذكَّر الصوت الجميل على الهاتف: "هل وصلتِ؟ قادمة لعندي مباشرة؟ ألا تريدين تدقيق معلومة ما في مجلس المحاربين القدماء؟ عندهم جميع المعطيات عني. وقد تحقَّقوا منكِ". لقد شعرت بالارتباك والذهول. كنت أظنُّ سابقًا، أن الآلام والمعاناة القاسية تجعل الإنسان حُرًا، وهو لا ينتسب سوى إلى ذاته. وتحميه ذاكرته الشخصية. الآن، أكتشف أن الأمر ليس كذلك، ليس دائمًا كذلك. كثيرًا ما تتواجد هذه المعرفة والخبرة، وحتى المعرفة العليا (لا وجود لها في الحياة العادية) بصورة مستقلَّة منفصلة. علينا طويلًا، أن نقشِّر الغث، وأن نحفر في رواسب الضجيج، وأخيرًا، أن نتألَّق! ونضرب عرض الحائط!

أدركت أن الحرب، هنا، لم تنتهِ ولن تنتهي أبدًا

اقرأ/ي أيضًا: 

رواية 1984.. التحفة الأدبية التي قتلت جورج أورويل

حقيقة، من أيِّ شيء نحن مجبولون، من أيِّ مادَّة؟ ومن أين أتت صلابة هذه المادَّة؟ هذا ما أردت فهمه. ومن أجل هذا جئت إلى هنا.

يُفتح الباب وتدخل امرأة بدينة متوسِّطة القامة. تمدُّ لي يدها اليمنى، برجولة، لتصافحني، وتمسك حفيدها الصغير بيدها اليسرى. ومن خلال رباطة جأشه وفضوله العادي، أُدرك أن كثيرًا من الضيوف يتردَّدون على هذا البيت. وهنا قاعة الانتظار والاستقبال.

غرفة كبيرة تكاد تخلو من الأثاث. رفٌّ على الجدار صُفَّت عليه كتب، غالبيتها من ذكريات الحرب، وكثير من صور الجبهة الفوتوغرافية المكبَّرة، وعلى قرن غزال عُلِّقت خوذة دبَّابة، وعلى طاولة مصقولة عدد من مجسَّمات الدبَّابات الصغيرة مع عبارات الإهداء: "من مقاتلي وحدة ن."، "من طلَّاب ضبَّاط مدرسة المدرَّعات"... وعلى مقربة من مكان جلوسي على الديوان "تجلس" ثلاث دمى باللباس العسكري. وحتى الستائر وورق الجدران في الغرفة بألوان مموَّهة.

أدركت أن الحرب، هنا، لم تنتهِ ولن تنتهي أبدًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

رسائل إدوارد سعيد إلى صادق جلال العظم

صادق جلال العظم: لماذا لستُ مؤمنًا؟