13-ديسمبر-2016

فاتح المدرّس/ سوريا

في السادس من آذار/مارس 1927، ألقى الفيلسوف الإنجليزي برتراند راسل محاضرةً بعنوان: "لماذا لستُ مسيحيًا؟"، صارت فيما بعد مقالةً ذائعة الصيت، خصوصًا بعد أن نُشرت مع مجموعة مقالات أخرى لرسل حول الدين، على يد الفيلسوف الأمريكي-النمساوي بول إدواردز عام 1957. وفي نَفَس فلسفي يتماشى مع تلك الفترة، يناقش المنطقي والرياضي البارز النقاط التالية: ما المسيحي؟؛ وجود الإله؛ حجة العلة الأولى؛ حجة القانون الطبيعي؛ حجة التصميم؛ الحجج الأخلاقية؛ حجة رد المظالم؛ شخصية المسيح؛ المجيء الثاني للمسيح؛ المشكلة الأخلاقية؛ العامل العاطفي؛ كيف أعاقت الكنائسُ التقدم؛ الخوف: أساس الدين؛ ماذا علينا أن نفعل.

يعبر كتاب "نقد الفكر الديني" لجلال العظم عن منزع "راسلي" تجاه القضايا الدينية 

في تشرين الأول/أكتوبر 1969، أي بعد أكثر من أربعة عقود بقليل على "لماذا لست مسيحيًا؟"، نَشر الفيلسوف السوري الراحل صادق جلال العظم كتابًا بعنوان "نقد الفكر الديني"، طبع عدة طبعات، قانونية وغير قانونية، ومنع في عدد كبير من الدول العربية، سواء تلك التي تمتلك نظامًا دينيًا صريحًا كالمملكة العربية السعودية، أو تلك التي رفعت شعارات "تقدمية" قومية أو ناصرية، كعراق صدام حسين أو ليبيا معمر القذافي. بل إن الناقد والمنظِّر الثلاثيني حينئذ قد جُرَّ إلى المحاكمة، في بيروت التي كان يعمل بها أستاذًا جامعيًا، بتهمة "التحريض علىى إثارة النعرات الطائفية". وقد ألحقت وثائق المُحاكَمة بالطبعات التالية للكتاب.

اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. تفكيك الحب

عدا المقدمة، يضم الكتاب (230 صفحة) الفصول الستة التالية: الثقافة العلمية وبؤس الفكر الديني؛ مأساة إبليس؛ رد على نقد؛ معجزة ظهور العذراء وتصفية آثار العدوان؛ التزييف في الفكر المسيحي الغربي المعاصر؛ مدخل إلى التصور العلمي المادي للكون وتطوره.

وسوف تتطرق هذه المقالة إلى توضيح نقطتين رئيستين تتعلقان بـ"نقد الفكر الديني": مناسبة الكتاب ومنهجيته، لأهمية التذكير والوعي بهما وإمكانية البناء عليهما والذهاب بالنماذج التطبيقية التي قدمها العظم إلى أقصاها.

لا يُخفي العظم تأثره براسل، وهو يحيل أكثر من مرة، في الفصل الأول، إلى مقالته "عبادة الإنسان الحر"، المنشورة في كانون الأول/ديسمبر 1903، والتي تُعد أكثر نصوص راسل شهرةً وطباعةً، وإحدى علامات الفكر الأوروبي المبكر في القرن العشرين، و"قطعة أدبية جميلة" على حد تعبير العظم نفسه. كما يتناص معه في مناقشة العديد من المسائل المتعلقة بالكون والعلم ووجود الإله. من هنا، يُمكن القول إن كتاب العظم يعبر عن منزع "راسلي" تجاه القضايا الدينية على نحو يُمكن معه أن نضع عنوانًا جديدًا و"راسليًا" للكتاب، هو: لماذا لستُ مؤمنًا؟

قبل أن يُجيب العظم على هذا السؤال المفترض، يشرح بصراحة شديدة مناسبة هذا الكتاب: "بعد هزيمة 1967، [تبين] أن الأيديولوجية الدينية على مستوييها الواعي والعفوي هي السلاح "النظري" الأساسي والصريح بيد الرجعية العربية في حربها المفتوحة ومناوراتها الخفية على القوى الثورية والتقدمية في الوطن. كما أن بعض الأنظمة التقدمية وجدت في الدين عكازًا تتكئ عليها في تهدئة الجماهير العربية وفي تغطية العجز والفشل الذي فضحته الهزيمة" (ص. 9).

لقد رأت التيارات الإسلامية في الهزيمة الحزيرانية دليلًا على بُعد الأنظمة القومية، لا سيما النظام الناصري في مصر، عن الدين، وبرهانًا على "إلحادها"، على حد تعبير واحد من أشهر الأبواق الدعائية الإسلاموية؛ متولي الشعراوي، الذي سجد حين علم بـ"النكسة"، و"فرح أننا لم ننتصر ونحن في أحضان الشيوعية، لأننا لو نُصرنا لأصبنا بفتنة في ديننا". ورأت الأنظمة القومية، وقد منيت بالهزيمة، أنه لا خيار أمامها سوى اللجوء إلى الدين لاستيعاب غضب الجماهير والترويج لأخبار من نوعية "ظهور العذراء" في حي كذا (وهي المسألة التي يفرد لها العظم فصلًا مطولًا ولاذعًا) وافتتاح الرئيس لمسجد كذا، على الصفحات الأولى لجرائدها الرسمية.

لكن جواب العظم أو بالأحرى نقده، المفتوح على جبهتين -واحدة تذوي وأخرى تصعد- لن يكون مشابهًا لنقودات غالبية الانتلجنسيا العربية التي انغمست، منذ تلك اللحظة، في نقد ثقافوي لم تخرج منه إلى الآن. سيكون النقد عنده ماديًا، أي ماركسيًا.

رأت التيارات الإسلامية في الهزيمة الحزيرانية دليلًا على بُعد الأنظمة القومية عن الدين

اقرأ/ي أيضًا: صادق جلال العظم.. الحوار لا يزال مفتوحًا

يحذر لينين من "طرح المسألة الدينية بشكل تجريدي مثالي، باعتبارها مسألة "ثقافية" غير ذات صلة بالصراع الطبقي"، في الوقت الذي يؤكد فيه على أن "الوحدة في هذا النضال الثوري الذي تخوضه الطبقة المقهورة من أجل خلق جنة على الأرض أكثر أهمية لنا من وحدة الرأي البروليتاري حول الجنة في السماء" (الاشتراكية والدين، 1905). والموازنة بين 1) الإقرار بالجوهر الإلحادي-العلمي للماركسية، و2) بالطبيعة المادية/غير الثقافوية لنقدها للدين، و3) وكون وحدة البروليتاريا فوق أي شيء آخر، يحققها العظم في كتابه بألمعية شديدة.

لا يعني العظم بالإيمان الديني "ظاهرة التسليم البسيط الساذج الذي يطبع موقف معظم الناس في كل ما يتعلق بدينهم" (ص. 18)، ولا يقصد "الدين باعتباره ظاهرة روحية نقية وخالصة على نحو ما نجدها في حياة قلة ضئيلة من الناس" (ص. 17)، وهنا يمكن أن نتلمس النقطة الثالثة ضمن الثلاثية اللينينية سالفة الذكر. إن الفكر الديني عند العظم هو "الإنتاج الفكري الواعي المتعمد في ميدان الدين كما يتم التعبير عنه صراحة على لسان عدد من الكتاب أو المؤسسات أو الدعاة لهذا الخط" (ص. 7). وهذا "الفكر الديني" يعمل على "تزييف حقيقة الصراع الاجتماعي القائم" (ص. 9)، وهنا يمكن أن نتلمس النقطتين الأولتين.

بأخذ ما سبق في الاعتبار، يكون كتاب العظم الراسلي والماركسي (وقد كان راسل اشتراكيًا على طريقته) لا غنى عنه في النظر إلى تاريخنا الاجتماعي والسياسي، خصوصًا الهزيمة الحزيرانية، وفي تحديد الخط الفاصل بين القوى التقدمية والرجعية، والتأسيس لمنظور علمي للمسألة الدينية.

اقرأ/ي أيضًا:

إطلاق جائزة باسم صادق جلال العظم

صادق جلال العظم.. أنفاس الفيلسوف الأخيرة