14-أغسطس-2017

الرصيف أحنّ عليهن من الحكومة والناس (كريس بورنكلي/أ.ف.ب)

ليست واحدة، بل عشرات السيدات، يستقبلهن الرصيف مع طلوع كل صباح، لا يبخل عليهن بالرزق ولا يخفين عنه حكاياتهن. أمهات دون كارنيه من أي جهة اجتماعية أو سياسية، لغتهن البسيطة لا تمكنهن من الجلوس داخل القاعات المكيفة، لكنها تضمن لهن الحصول على رزق البيوت التي لا تعتمد سوى على سواعدهن.

قررت الحاجة نفيسة أن تحصل على رزق بناتها من على الرصيف عبر بيع الجرائد والمجلات لأن "الرصيف أحنّ عليها من الحكومة، "كما تقول

لم تبحث واحدة منهن عن صبغة شعر حديثة أو فستان مستورد تخفي وراءه عمرها الحقيقي. لا يطالبن بالمساواة بين الرجل والمرأة ولا يشغلن بالهن بالنظريات النسوية، ربما لأنهن يمارسن ذلك فعليًا في عملهن بصورة يومية. ولا يشغلن أنفسهن بحديث الأخريات أمام الكاميرا أو خلفها، فالفكر دائمًا مشغول بتلك الالتزامات التي تجعل كل واحدة منهن "ست بمية راجل".

"لو مال عليك الزمن.. ميّل على دراعك"، تقول الحكمة الشعبية المصرية التي كثيرًا ما ردّدها الأجداد على مسامع الصغار ممن يشتكون ضيق الحال أو قلة الرزق. وعلى الرصيف، يمكن اختبار عملية تلك المقولة بالتأمل في وجوه من افترشوه بأشيائهم التي تبحث عن زبائن الشارع، رافضين الاستسلام لمنطق الظروف والحاجة أو ربما خاضعين لمنطق أشد سطوة متعلق بتصاريف الزمن وكوارث الحكام، لا تزال سواعدهم تمنحهم القدرة على مواجهة الزمان وعيوبه.

اقرأ/ي أيضًا: مساواة في الميراث قريبًا في تونس؟

من بين هذه الوجوه كان وجه الحاجة نفيسة، امرأة تجاوز عمرها الستين عامًا، قضت نصفها على الرصيف منذ رحيل زوجها الذي كان موظفًا لم يترك سوى معاش هزيل لا يعيل أسرة مكونة من أربع فتيات وزوجة شابة كانت تحلم بالبقاء وسط شقتها على سطح إحدى العمارات تنتظر عودته ليتشاركا الطعام على مائدة واحدة مع البنات.

رحل الزوج ولم يترك لها سوى أحلام لم تعد غير ذكرى جميلة تصيبها بابتسامة هادئة في جلوسها على الرصيف. الجميع من حولها على رصيف بحي بولاق الدكرور يعرفون هذه الحكاية، ويعرفون أيضًا أنها لا تقبل الإحسان. فهي قررت أن تحصل على رزق بناتها من على هذا الرصيف من بيع الجرائد والمجلات، لأن "الرصيف أحنّ عليها من الحكومة"، كما تقول.

ورغم آثار الزمن البادي على وجهها، تستطيع الحاجة نفيسة أن تبتسم، وتستطيع أن تصعد وتهبط درجات السلم في عمارة قديمة من سبعة طوابق. رحلة تتكرر يوميًا مع دقات السادسة صباحًا، عندما تذهب إلى أحد موزعي الجرائد لتحصل على حصتها اليومية، ثم تعود إلى مكانها المفضل على الرصيف، تجلس وبالقرب منها "ساندويتش فول" هو وجبة إفطارها المعتادة، تفرش بضاعتها على الرصيف وتنتظر أول زبون.

 (خالد دسوقي/أ.ف.ب)

في الماضي، كان المكسب يكفي احتياجات الأسرة بالكاد، لكن في هذه الأيام "الغريبة" يبدو أن الواحد يحتاج لعمل إضافي بعد الظهر، مثلما تقول الحاجة نفيسة ساخرة من الارتفاع المتوالي في الأسعار، قبل أن تكمل حديثها بالحمد والرضا لأنها استطاعت تعليم بناتها وتزويجهن. لكن الشيء الوحيد الذي سرق ابتسامتها هو عدم قدرتها على زيارة ابنتها الصغرى في عيد الفطر الماضي، لأنها لم تكن تتحمل نفقات الذهاب إلى محافظة البحيرة (150 كم شمال القاهرة)، ورغم ذلك هي تستعد من الآن للعيد القادم.

هذه هي حكاية الحاجة نفيسة التي لم تؤد فريضة الحج، لكنها ذهبت إلى الأراضي المقدسة لتأدية العمرة قبل سنوات على نفقة أحد رجال الأعمال الذي يحترمها ويقدّرها. كانت زيارة قبر الرسول والطواف حول الكعبة أمنيتها التي لم تتحقق من مكسب الرصيف والصحف المفروشة فوقه. تمضي بعض أوقاتها أمام بضاعتها وهي تستعيد هذه المشاهد "المبروكة" كما تقول، فتظلّ رغبتها في الحياة مستمرة وتظلّ بضاعتها على الرصيف تبحث عن زبون.

وجه آخر التزم بنصيحة الأجداد، فوزية، أم البنات التي أصيب زوجها في حادث سيارة قبل تسعة شهور، ولم يعد يغادر فراشه ولم يعد يستطيع القيام بواجبات الزوج والأب. أصبح عليها أن تفعل ما يلجأ إليه "أولاد الأصول" في هذه الحالات، هي التي لم تتعوّد على العمل ولم تحصل على تعليم يؤهلها للبحث عن وظيفة. كانت بدايتها مع رحلة العمل "خادمة" في البيوت، لكنها لم تتحمّل متاعب هذه المهنة ولم تستطع مجاراة مَن يحترفنها. قررت البحث عن مهنة أخرى "لا تحتاج لمؤهلات يصعب التنازل عنها"، فذهبت بصحبة إحدى جاراتها لتجلس على "نصبة" تبيع المناديل والسجائر وبعض المستلزمات الكتابية البسيطة. لا تزال جارتها تجلس معها يوميًا من الثامنة صباحًا وحتى الثانية من ظهر نفس اليوم، لا أحد من بناتها الست تستطيع زيارتها أثناء العمل ولا تقبل هي لواحدة منهن أن تقف بدلًا منها.

مكسب يومها ما بين 40 إلى 60 جنيهًا (دولارين إلى 3 دولارات تقريبًا)، وكان هذا المبلغ قادرًا على المساعدة في تزويج ابنتها الكبرى، لكنها تتخوّف من مصير بقية بناتها "اللاتي جئن في زمن صعب". رغم ذلك، لا تقبل فوزية حتى نظرة التعاطف مع ظروفها، تملك روحًا متعففة ترى أنها قادرة على القيام بكل أعباء أسرتها، فأصرّت على إكمال تعليم البنات خوفًا عليهن من مصيرها. لا ترى عيبًا فيما تقوم به، لكنها تؤكد أن التعليم سيضمن لهن، على الأقل في مثل هذه الظروف، فرصًا أفضل.

لا تقبل الكثير من البائعات على أرصفة مصر نظرات التعاطف أو الشفقة ولا ترضين بالصدقات بل يجتهدن في تحصيل رزقهن

من فوزية إلى "أم محمد"، صاحبة "نصبة" شاي أسفل كوبري، لا تملك سوى أدوات صنع الشاي وبعض الأقفاص الجريدية تضع فوقها هذه الأدوات، توفي زوجها وترك لها ثلاثة أولاد، أصغرهم انتهى العام الماضي من دراسته الجامعية، ومنذ ذلك اليوم وهو يحاول الحصول على أي وظيفة. كنت أجلس بالقرب منها حين جاء وجلس أمامها، لم يستطع أن يرفع عينيه في وجهها، جلس ورأسه تميل إلى قدميه ولم تكن هي بحاجة إلى إجابة وتفاصيل عن رحلة يومه التي بدأت في الثامنة صباحًا. كانت وقتها تضع أدواتها فوق أكتافها، تنتظر أتوبيس النقل العام الذي سيأخذها إلى رصيف الرزق.

كنت أستمع إلى حكايتها وأشعر بنظرات عيونها الحائرة، ترنو إلى المدى القريب لاستطلاع وجه ابنها بين الوافدين، وأخيرًا جاء الابن، بدون عمل. ظلّت تلقي على مسامعه كلمات "جبر الخواطر" عن الأيام القادمة ورحمة ربنا التي ستدركه بوظيفة محترمة، فقاطعها قائلًا: "يا ستي أي شغلانة، إن شالله بيّاع في كشك". طلبت منه أن ينتظر الفرج ولا يتوقف عن البحث، وجلس الولد إلى جوارها، وأخذت تربت بيدها على كتفه.

اقرأ/ي أيضًا: أم خليل القصّابة.. تتحدث عن "مهن القسوة"

كان هذا المشهد كافيًا لأبتعد عنها، فغادرت هذا الرصيف، الذي يستطيع تحمل مثل هذه اللحظات ولا يتغير فيه شيء. فكّرت، في لحظات ابتعادي عن الكوبري، في صعوبة أن تكون مصريًا يعيش في مصر حاليًا، وفي صعوبة أن تكون "واحدة ست" مصرية مطالبة بتحقيق حد أدنى من الحياة الكريمة لأسرتها، في غياب العائل وفي وجود معدل تضخم قياسي وكساد اقتصادي تشهده البلاد وفي ظل حالة من التربص المجتمعي للوجود النسائي في المجال العام.

(دافيد سيلفرمان/Getty)

مشهد آخر أزاح كل شيء إلى الوراء، امرأة صغيرة في الثلاثينات من عمرها، أو هكذا بدا لي، تقف في مطعم للمشويات ترتدي حذاء بلاستيكيًا يشبه أحذية الرجال، خطواتها داخل المحل وخارجه لا تختلف عنهم، كلامها الجاف يؤكد قسوة الحياة التي تعيشها، نظراتها من وقت لآخر إلى النساء من زبائن المحل تخفي شيءًا من الألم بداخلها. جاءت إلى القاهرة من أريافها لتتزوج من عامل رقيق الحال، حين جاء مولودهم الثالث لم تعد الجنيهات القليلة التي لا تأتي بانتظام من عمل الزوج تكفي هذه الأسرة. لم تجد حرجًا في الخروج للعمل والمساعدة في مصروفات البيت، هكذا تقول سعدية التي تعمل في تلك المهنة بأجر يصل إلى ضعف أجر زوجها.

لا تبدو مهمة المرأة المصرية المعيلة لعائلتها سهلة خاصة إذا كانت محدودة العلاقات والتكوين ومع تدهور الوضع العام في البلد

تتحمّل تقريبًا كل نفقات الأسرة وتعرف أن زوجها لم يقصّر في واجبه. تعرف أن المرض أصابه مبكرًا ولم يعد أحد يقبل بعامل مريض، فلم تتردد للحظة في مساندته بجانب القيام بواجباتها المنزلية كأم وزوجة. هكذا أصبحت سعدية تلك المرأة "الجدعة" التي حكت عنها والدتها الريفية، تعمل من السابعة صباحًا حتى السابعة مساء، ثم تعود إلى منزلها وأبنائها الثلاثة.

لم تعد تنتظر أحلامها التي عاشتها قبل مجيئها إلى "مصر"، كما يُطلق سكان الأقاليم على القاهرة، ولم تتخيل نفسها في ملابس الرجال، ورغم ذلك لا تحمل شكوى أو سخطًا على تلك الظروف، بل تثني على تلك النعمة التي جعلتها قادرة على كسب رزقها ورزق عيالها بساعدها، تحمد الله على صحتها وتتمنّى أن يردّها إلى زوجها. حين تركت سعدية، كنت أعرف أن حكايات أخرى في انتظاري، على كل رصيف، أسفل كل كوبري، هناك دائمًا "ست بميت راجل".

 

اقرأ/ي أيضًا:

من الزمن والفقر وهموم الناس.. "العرضحالجية" اشتكوا

القفّاصون في مصر.. مهنة تنقرض وعمال يطلبون النجاة