28-أبريل-2017

العرضحالجي كما صوره الرسام الإيطالي فاوستو زونارو في القرن 19

كلما مررت أمام المحاكم ومكاتب مصلحة الشهر العقاري يفزعني طابور المقهورين؛ أولئك البسطاء الذين تتساقط أحزانهم أمام جيش الموظفين والكتبة والمحامين، يقف معظمهم في انكسار على حافة الدهاليز والأزقة. فالقانون، بفعل المتلاعبين به، يتحوّل لديهم إلى سلطة قهر تحتاج إلى "العارف" القادر على إعانتهم في قضاء حوائجهم، حتى ولو كانت بسيطة. البسطاء يلجؤون عادة إلى هؤلاء الأشخاص الجالسين أسفل المظلات وأغلب الوقت منكفئين على مناضد صغيرة أمامهم: "العرضحالجية".

يختار الناس "العرضحالجي" كي يساعدهم في بثّ شكواهم، فهو الأقرب إلى نفوسهم وحالهم

هناك حكاية قديمة، مضحكة أحيانًا ومبكية على الدوام، تقول أن فلاحًا عجوزًا طلب من عرضحالجي أن يكتب له دعوى كي يقدّمها للمحكمة، وجلس إلى جواره يقصّ عليه حكايته، وبعد أن انتهى، طلب من العرضحالجي أن يقرأ عليه ما كتب، وحين فرغ من القراءة بدأ الفلاح يبكي في مرارة، فسأله العرضحالجي عن سبب بكائه، فأجاب الرجل العجوز: "أول مرة أعرف إني مظلوم للدرجة دي". الظلم وحده هو مفتاح تعامل المصريين مع السلطة، ولولاه لتجنبّها الناس وعاشوا في سلام "كافين خيرهم شرّهم"، كما يقول المثل المصري، لكن للضرورة أحكام.

اقرأ/ي أيضًا: ما لن تراه إلا في المساكن الشعبية

يختار الناس "العرضحالجي" كي يساعدهم في بثّ شكواهم، فهو الأقرب إلى نفوسهم وحالهم، ومن هؤلاء "عم سيّد" أشهر عرضالجي في حي العباسية شرق القاهرة. عشرون عامًا قضاها الرجل بالقرب من مصلحة الأحوال المدنية يملأ نماذج البطاقات، ويبيع طوابع ودمغات الشرطة، عشرون عامًا جعلته يبدو كجزء أصيل من الحيّ القاهري العريق.

الكل يعرف "عم سيّد"؛ موظفو الشهر العقاري، بائعو الشاي، عساكر الخدمة، لو سألت عنه سيعطونك على الفور رقم تليفونه. يبدأ "عم سيد" حديثه إلى "ألترا صوت" من حرب 1973 التي مثلما كانت نقطة تحول في تاريخ مصر صارت أيضًا نقطة تحول في حياته، فقد كان من مقاتلي الجيش الثالث، وأصيب في عموده الفقري إصابة أدت إلى عاهة مستديمة، صحيح أنه حصل على وسام شرف تكريمًا له، لكن لم يكن من بُدّ أمامه من البحث عن عمل ينفق منه على أبنائه الثلاثة وعلى خمسة من أبناء أخته الأيتام.

الخبرة هي الأساس في مهنة "العرضحالجي"، هكذا يقول "عم سيد": "كي تربّي زبونًا، لا بد من معرفة كل ما يخصّ شؤون الأحوال المدنية وإجادة ملء الاستمارات والتعامل مع المواطنين، وقبل ذلك كله يجب أن تكون موضع ثقة، أمينًا في تعاملك مع الناس، ترشدهم إلى "الصحّ" حتى ولو على حساب ربحك".

للعرضحالجي أنواع، فهناك عرضحالجي للشهر العقاري وآخر للأحوال المدنية وآخر للمحاكم، والأخيرة عمل بها "عم سيد" لأربعة أشهر فقط ولم يستطع الاستمرار لأن "العمل أمام المحاكم يدرّ أموالًا كثيرة، لكن مشكلاته مع العملاء كثيرة أيضًا" بحسب قوله.

اقرأ/ي أيضًا: حمامات تونس.. متنفّس أجساد الفقراء

ورغم إجادته التعامل مع بيانات الشهر العقاري إلا أن "عم سيد" يرى أن المهنة تتعرّض لمشكلات عديدة، فيقول: "هناك "اللي بيعمل نفسه أبو العُرّيف"، هؤلاء الذين يعملون في المهنة من دون خبرة ويتلفون الاستمارات بالبيانات الخاطئة، أيضًا انتشر "الكتّيبة" غير المُرخَّص لهم". وهل للعرضحالجي رخصة، سألته فأجاب: "طبعًا، أنا عندي رخصة من وزارة الداخلية حصلت عليها بعد اجتيازي امتحانات لأربعة أيام كانت عن نماذج الأحوال المدنية ومعرفة القراءة والكتابة والحساب. ولكي تحصل على الرخصة يجب أن تكون من غير العاملين في الدولة، والرخصة تحدّد المسؤول عن الخطأ في ملء الاستمارات، وبالتالي يمكن إخضاعه للمحاسبة من قبل رئيس مصلحة الشهر العقاري".

للعرضحالجي أنواع فهناك عرضحالجي للشهر العقاري وآخر للأحوال المدنية وآخر للمحاكم

"عم سيد" له طريقة طريفة في كتابة البيانات، يقول إنها من قبيل تطوير المهنة، وهي أنه يستخدم لغة الاختزال التي تعلّمها عام 1968 حين كان يخدم في الجيش المصري، ويضيف: "إنها لغة غير معترف بها في المصلحة (الشهر العقاري) إلا في حدود بعض المصطلحات". الغريب أن "عم سيد" يشتكي من جهل بعض الناس بالقراءة والكتابة وحين سألته عن السبب قال: "الحكاية ليست كتابة استمارة فقط، لازم تعرف بعض المعلومات وتطلب من العميل بعض الأوراق، فإن كان على وعي سيسهّل عملك"، ولهذا فإن جمهور "عم سيد" خليط، منهم الأطباء والمهندسون والموظفون، والأميون بطبيعة الحال. منذ عشرين عامًا وحتى الآن اختلفت صورة "العرضحالجي": زمان كان يسيطر على الشغلانة شوية ناس خطرين، وكانوا يتعالوا على الناس، أما الآن فالعدد أصبح كبيرًا جدًا لكن الخبرة معدومة".

تركت "عم سيد" بعد أن حضر إليه زبون، وذهبت إلى محكمة الجيزة. هناك التقيت بعم فتحي العقيلي، العرضحالجي المتخصص في إجراءات التقاضي. كانت تبدو على ملامحه آثار سبعين سنة من الزمن، شاب شعر رأسه الذي امتد إليه الصلع.

مع كل صباح، يستقل "عم فتحي" الأتوبيس من حي إمبابة شمال القاهرة، ودائمًا يجلس في المقعد الأمامي، ليس لأنه من ذوي الاحتياجات الخاصة وإنما لتلك العلاقة التي تربطه بالسائق، يتبادلان القفشات إلى أن ينزله أمام محكمة الجيزة.. هي إذن "عِشرة عُمر". يهبط فتحي العقيلي من الأتوبيس حاملًا معه "ترمس" الشاي ويتجه إلى الكشك الذي يعمل فيه. الكشك مليء بكتب القانون والمظاريف التي تحوي طلبات الزبائن، وبرغم صغر مساحة مقر العمل إلا أنه يقع في مكان متميز، خلف محكمة الجيزة الكُليّة، وبجوار قسم الشرطة.

"شغلانة العرضحالجي ما بقتش زي زمان والرزق على قدّه"، يقول "عم فتحي"، ورغم هذا فإنه يداوم على الذهاب يوميًا كي يرى أصحابه وزملاءه، معظمهم من المحامين الذين تعرّف عليهم بسبب عمله في نقابة المحامين لثلاثين عامًا. "كنت أوزّع الدوريات والكتب على المحامين بالكارنيه، وكان نقيب المحامين بالجيزة محمد حسين المهدي من أصدقائي، ولهذا عرفت الكثير من المحامين".

عمل العرضحالجي لا يتعارض مع عمل المحامي، مثلما يقول "عم فتحي": "أحيانًا يكون هناك طلبات مستعجلة أو لا تحتاج سوى الكتابة، مثل طلب الالتماس والحصول على صورة حكم وطلب استخراج نسخة من قسيمة الزواج، كلها أمور سريعة الإنجاز ولا تحتاج إلى محام"، ولكنه في النهاية يشتكي من ندرة الرزق ثم يقول مستدركًا: "نعمل إيه في الزمن؟! أهي شغلانة والسلام".

 

اقرأ/ي أيضًا:

الاقتصاد في حلب.. مهن الحرب أم مهن القسوة؟

المغرب.. أطفال يُنتهكون في مهن الكبار