29-مارس-2019

جزء من غلاف كتاب 100 كاتب عظيم

ما الذي يقرر إخراج العمل الأدبي من غيتو الزمان والمكان، بل وبدقة أكثر، من حدود الأيديولوجيا؟ وما الذي يخولنا إلى إطلاق صفة الخلود عليه؟ بالتأكيد ليست كيفية الطباعة ولا نوع الورق.

ما يميز كاتبًا عن الآخرين، هو توازي واقع مؤلفاته مع واقعه الخاص. وهذا ما حدث لفرانز كافكا

يكفي أن نقرأ روايات مثل "القلعة" و"المحاكمة" لاكتشاف أن جوزف.ك رجل بسيط، وبعبارة أخرى موظف عادي، ومثل غيره من المواطنين العاديين في العاصمة لديه توقعات ما تجاه الحياة. إن العنصر السلبي الوحيد ضمن شخصية جوزف.ك هو استياؤه غير المبرر خلال بحثه عن شيء هو بالأصل لم يُحدد، وعلى الرغم من هذا الفراغ الهائل الذي يصاحبه في كل خطوة، يتوجب عليه أن يواجه أعداء أقوياء، ومؤسسات تعمل تحت لغة "منطقية" لا يفهمها ك. على الإطلاق، هي لغة البيروقراطية.

اقرأ/ي أيضًا: فرانز كافكا: هل يساعدنا الأرق على الكتابة؟

هذه هي حياة ك. الشخصية الرئيسية للكاتب فرانز كافكا، المؤلف الذي أصبح فيما بعد، من خلال عمله ككاتب قصص وروايات، الشخصية الأكثر مركزية في الأدب العالمي. ولكن ما هي العناصر التي جعلت من كافكا شيئًا أساسيًا وفريدًا وقيمًا مقارنة بالكتاب الآخرين؟

"الاغتراب، سلطة المؤسسات، الشعور بالوحدة، وما إلى هنالك..."، كلها قضايا قام كافكا بكتابتها دون أن يسعى إلى تحوير الواقع، إنما أظهرها بشكل نثر مباشر، موجز، خاٍل من أيّة عاطفة. "وربما تكون هذه البرودة هي السمة الأساسية في أدب كافكا"، بالإضافة إلى أن هذا النثر، يفتقد إلى قلة التأثير، وغياب الأسلوب، ويبدو عليه وكأنما كُتب بالإجبار، لكن الشيء الوحيد الذي يجذب ويغوي القارئ في أعمال كافكا هو عنصر الحقيقة نفسها.

ضمن هذا المنحى. فإنه لمعرفة بقية العناصر، يجب أن نتساءل لماذا خَلّدت هذه المشكلات أعمال كافكا. ألم يفكر آخرون في هذه القضايا؟ ألا يفكر الآخرون في هذه القضايا؟ بالتأكيد. لقد فعلوا ذلك، فعلوا وسوف يفعلون. فقد تحدث فلاسفة مدرسة فرانكفورت عن دور المؤسسات في حياة الفرد. تساءل هيراكليتوس عن أسطورة الشعر الهوميري. حاول ديكارت البحث في مفهوم الله. الجميع، ومن وجهات نظر مختلفة، تحدثوا عن المؤسسات، قديمًا وحديثًا، وما زالوا يفعلون ذلك.

ضمن هذا الإطار، فإن ما يميز كاتبًا عن الآخرين، هو توازي واقع مؤلفاته مع واقعه الخاص. وهذا ما حدث لفرانز كافكا، فخلود الكاتب التشيكي اعتمد فقط على نقطة التوازن بين الفن والتاريخ، وبعبارة أخرى، قد كتب ضمن ذلك الوقت، ليس قبل أو بعد.

لفهم كامل، يجب فقط إلقاء نظرة على بعض الأمثلة. دوستويفسكي، ممثل الواقعية الروسية، الذي عمله بالسياق السياسي الصعب لروسيا في منتصف القرن التاسع عشر، حيث سادت الاستبدادية القيصرية. إنه انعكاس للمعارضة ضد نظام القيصر.

تشارلز بوكوفسكي، ممثل الواقعية القذرة، يرتبط عمله بالكساد الكبير، وأزمة الاقتصاد الأمريكي التي بدأت في عام 1929. وأخيرًا قضية غابرييل غارسيا ماركيز، ممثل الواقعية الأدبية لأمريكا اللاتينية، الذي يمكن تفسير عمله على أنه رد فعل على التيارات الحاصلة آنذاك، مثل الوجودية والسريالية.

ضمن إطار آخر، يقول روبرتو كالفو سانز في كتابه "تاريخ الأدب": "اليوم لا يمكن التحدث عن دون كيشوت كظاهرة سردية معزولة دون الافتراض المسبق لجميع الروايات، قبلها وبعدها، لأننا نعرف أن مفهوم الأصالة المطبقة على العمل الأدبي هو مفهوم نسبي".

لكن مع ذلك الرأي، يمكننا إضافة قيمة دون كيشوت إلى وقتها، فهي مرتبطة بميلاد الرواية، وبحسب فوكو، بثورة الحواس.

كل عمل أدبي عظيم هو ضرورة تاريخية، يظهر بقدر ما يبرع في نسج حقبته الراهنة بواسطة الكلمات

ربما يواصل فرانز كافكا التكرار، سطرًا تلو الآخر، إلى أن أصبح أسلوبه معروفًا بالفعل، الأمر الذي انتهى به إلى أن يصبح وجوديًا، يدعو إلى التحليل النقدي للخطاب، وإلى الفلسفة البنيوية، وحتى الواقعية التي لا تزال تغذي الكتاب الجدد.

اقرأ/ي أيضًا: الفكرة التي صنعت كافكا

إذًا بهذه الطريقة، ومن خلال كافكا، يمكننا ربط الخلود بهذا الكمال شبه السري لكتابة الأعمال الأدبية، ضمن نقطة "المعاصَرة" الدقيقة. فإن كل عمل أدبي عظيم هو ضرورة تاريخية، يظهر بقدر ما يبرع في نسج حقبته الراهنة بواسطة الكلمات، بعدما عيّن على مؤلفه أن يرى من خلال عدسة مشتركة مع الشعب.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مئة عام من العزلة على شاشة نتفليكس.. ترقّبوا الدخول إلى ماكوندو!

حياة الكتابة.. إنعاش الروح المتعبة بالخيال