28-يونيو-2018

روبرت زيتالر

يستدرجنا الروائي النمساويّ روبرت زيتالر في روايته "حياة كاملة" (دار التنوير، 2017) ترجمة ليندا حسين؛ إلى أمكنةٍ يُمكننا، إلى حدٍّ بعيد، وصفها بـ"الفردوس المفقود". على الأقل بالنسبة لسكّانها. هكذا، يضعنا زيتالر إزاء قرية نمساوية شبه نائية في جبال الألب. ومن خلال حكاية أندرياس إيجر، يصوغ الروائي التحوّلات التي طرأت على هذه القرية، وتحديدًا في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية، وتلك التي تلت نهايتها، أي إلى الحداثة التي وقعت القرية ضحيّتها.

في روايته "حياة كاملة"، يستدرجنا روبرت زيتالر إلى أمكنةٍ يُمكننا يمكن وصفها بـ"الفردوس المفقود"

سوف نتعرّف أولًا إلى أندرياس أيجر الذي وقف مشدوهًا أمام منظر آلات شركات البناء التي دخلت إلى القرية لبناء سكّة حديد وتلفريك، وتاليًا، تغيير معالم القرية والمنطقة بأكملها، بحيث أنّها لن تعود كما كانت سابقًا. وفي تلك الأثناء، حين بدأت مُحرّكات الديزل تخرق بهديرها هدوء القرية، كان مشهد دخول الآلات وبرفقتها العمّال يُلقي ظلالًا تراجيدية على القرية وإيجر، الذي شارك السكّان الصراخ والهتاف فرحًا، بينما كان في قرارة سرّه يشعر بغمٍّ شديد. كانت تلك الحادثة من المرّات النادرة التي يصرخ فيها إيجر فرحًا، أو حتّى يصرخ لمجرّد الصراخ فقط، إذ لطالما بدا لنفسه أوّلًا، ولسكّان القرية ثانيًا، كائنًا صامتًا وميّالًا إلى العزلة.

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف في "عصافير داروين".. رحلة عربية إلى الهزيمة

لسلوك إيجر هذا أسبابه التي يعود روبرت زيتالر إلى طفولته لاكتشافها وفهمها، مُستعيدًا هنا أجزاءً من شريط حياته التي حكمها الأسى منذ صغره. هكذا، سوف نكتشف أنّ أندرياس إيجر وصل إلى القرية في الرابعة من عمره، بعد أن تخلّت عنه والدته التي ما لبثت أن فارقت الحياة بمرض السلّ. كان إيجر "ابن زنا"، وكان هذا الأمر سببًا كافيًا ليُنزل فيه كرانتزشتوكر، مُربّيه، العقاب لأشدّ الأخطاء بساطةً، كأن يدلق على نفسه وعاء الحليب، أو يتلعثم في الصلاة. وحينها، عندما كان كرانتزشتوكر يهوي بقضيب البندق على مؤخّرة إيجر المُعلّق على عارضة نير الثور، كان الأخير صامتًا، يتلقّى ضربات مربّيه دون أن تصدر عنه أي ردّة فعل.

[[{"fid":"101037","view_mode":"default","fields":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"رواية \"حياة كاملة\"","field_file_image_title_text[und][0][value]":"رواية \"حياة كاملة\""},"type":"media","field_deltas":{"1":{"format":"default","field_file_image_alt_text[und][0][value]":"رواية \"حياة كاملة\"","field_file_image_title_text[und][0][value]":"رواية \"حياة كاملة\""}},"link_text":null,"attributes":{"alt":"رواية \"حياة كاملة\"","title":"رواية \"حياة كاملة\"","height":301,"width":200,"class":"media-element file-default","data-delta":"1"}}]]

هكذا يتشكّل لدينا انطباع كافٍ لسلوك إيجر الهادئ، إضافةً إلى قوّته وصلابته التي يكشفها عمله في مزرعة كرانتزشتوكر أوّلًا، وبعدها في شركة بناء التلفريك ثانيًا. وإلى حياته التي عاشها في أقسى الظروف، ما يؤهّلنا إلى التوغّل في عالمه الذي يلفّه الصمت، وشخصيته التي يكشف روبرت مكنوناتها أثناء عيشها لأقصى توتّراها النفسية، وحيرتها في اختيار طريقها، من خلال انشغاله بالتقاط ومعاينة تفاصيل ووقائع لا يلحظها أحد؛ تفاصيل تصوغ مصائر البشر في هذه القرية التي تعيش عزلات متعدِّدة، أبرزها عزلة الجغرافيا القاسية التي فرضتها الطبيعة عليها. 

تحضر الطبيعة والجغرافيا في رواية "حياة كاملة" لا كجزءٍ أساسي في المسرح الذي تدور به أحداثها فقط، إنّما كشخصية لها حضورها الكامل إلى جوار شخصية أندرياس إيجر، إذ يسير السرد وفقًا للخطّ الذي ترسمه له، وتصوغ مصائر سكّان القرية، بما فيهم إيجر الذي يسلبه انهيار جليدي منزله ومزرعته وزوجته ماري، ما يُضاعف من الأسى الذي يعيشه الرجل، ويدفعه أكثر فأكثر نحو العزلة، ليجد نفسه لاحقًا جنديًا وحيدًا في خيمة نُصبت أعلى قمّة جبل جليدي أثناء الحرب العالمية. قبل أن يصير أسيرًا في معسكرات الجيش الروسيّ، حيث يعيش صقيعًا مختلفًا عن ذلك الذي كان يعيشه في قريته؛ صقيعًا ينخر عظامه وروحه معًا.

يعود إيجر في نهاية الرواية إلى قريته بعد انتهاء الحرب وإطلاق سراحه برفقة عددٍ من الأسرى، ليعمل في سنواته الأخيرة دليلًا سياحيًا للسيّاح الذين باتت أعدادهم تتضاعف في القرية التي فقدت شكلها ونمط حياتها الذي اعتاد عليه إيجر، ما وضعه إزاء حياة جديدة لا يألفها، دفعته ليمضي أيّامه الأخيرة وحيدًا في منزله، مُدركًا حقيقة أنّ الحياة، والطبيعة والجغرافية وتضاريسها تحديدًا، تمكّنت من هزيمته، ولا سيما حين سلبته ماري. هكذا أمضى ما تبقّى من حياته منعزلًا في منزله، يؤنس بمخاطبة نفسه ردًّا على سنوات الصمت الطويلة التي عاشها.

تضيء "حياة كاملة" رواية أندرياس إيجر على ما تفعله الحداثة في حياة الفرد وعلاقته بالطبيعة

اقرأ/ي أيضًا: يوسا.. هل السياسة أقرب إليه من الفن؟

استثمر روبرت زيتالر الطبيعة وجوهرها في بناء عمارته السردية المبهرة هذه، وأضاء عبر تراجيديا بطله أندرياس إيجر وقريته ما تفعله الحداثة في حياة الفرد وعلاقته بالطبيعة، وأزمته في بيئة متحوّلة خضعت وتخضع لمتغيِّرات عميقة تُفقدها هويتها الأولى التي تربطها بسكّانها. هي رواية بسيطة وموجعة في آن معًا.

 

اقرأ/ي أيضًا:

"واحد - صفر للقتيل".. كمال الرياحي طاردًا الأرواح بالكتابة

5 مقالات من أشهر ما كتب ديفيد فوستر والاس