25-يونيو-2018

كمال الرياحي (فيسبوك)

واحد-صفر رقمان أساسيّان في نظام العدّ الثنائيّ المستخدم في الحواسيب الحديثة. رقمان يعبّران عن حالتين مختلفتين ومتناقضتين في الآن نفسه: البرودة/الحرارة؛ الرعب/الطمأنينة؛ الحياة/الموت؛ الحلم/اليقظة؛ الصحو/الغيبوبة؛ الحريّة/العبودية؛ إلخ. كلّ هذا الثنائيّات وغيرها نجدها في يوميّات "واحد - صفر للقتيل" (منشورات المتوسط، 2018) للروائي المتميّز كمال الرياحي، والمتحصّلة على جائزة ابن بطوطة لأدب اليوميّات بعنوان سنة 2018.

كمال الرياحي: المترجمون كائنات صغيرة تترجم كتبًا لا تحبّها، كعمّال في مصنع أحذية

انطلقت كتابة هذه اليوميّات الحميمة مع تحوّل الكاتب من تونس ليعمل في جارتها الجزائر. انتقال أراد به الكاتب التحوّل من واقع يماثل الصفر نظرًا لحالة البطالة ومنعه من العمل من طرف النظام السياسي آنذاك، إلى آخر توقّع أن يكون "واحدًا" قد يوفّر ما لم يستطع أن يوفّره في بلده. تتحوّل حياته بمرور الأيّام إلى منطق ضبابيّ أو معوّم.

اقرأ/ي أيضًا: كمال الرياحي.. الحفر في النذالة

بين الأدب والترجمة الميكانيكيّة

انتقل كمال الرياحي للاشتغال بالمعهد العربي للترجمة بالجزائر. تقضي مهمّته كما أسرّ لنا في حميميّاته بإصلاح ميكانكيّ لترجمات رديئة، ومحاولًا إعادة الحياة لنصوص راقية قتلها المترجمون عند نقلها إلى العربيّة. استنزفه عمل يوميّ لتحويل الصفر إلى واحد، "فالمترجمون كائنات صغيرة تترجم كتبًا لا تحبّها، كعمّال في مصنع أحذية" مثلما يعرّف الكاتب ذلك.

كمال الرياحي صاحب الرقم 10 بين إخوته، يصنع قدره بنفسه مثلما يقوم صاحب الرقم 10 بصنع اللّعب في كرة القدم. يشعرك الكاتب بأنّه مارادونا في الأدب، لاعب خفّة ماهر باللّغة والمجازات. لكنّه هو نفسه مارادونا الذّي يخطف –بنفس الخفّة- هدفًا بيده ليضمن الانتصار لفريقه. إذ ومنذ دخوله الأوّل لمطار الجزائر خبر عوالم كرة القدم. كانت العقول والقلوب كلّها منشغلة بمقابلة مصر والجزائر أواخر سنة 2009 المؤهلة لكأس العالم جنوب إفريقيا 2010، فالكرة أفيون الشعوب. لقاء تحوّلت إلى معركة مصطنعة بين البلدين. شهد كمال جولات البينغ بونغ بين حماقة الإعلام المصري وشظف الجزائريّين، وقف فيها كمال الرياحي ليقدّم لنا شهادة محايدة عن صراع وطنين، واحد في  المشرق العربيّ والآخر في مغربه. يعود كمال ليؤكّد أنّ "الوطنيّة بما داخل الرأس" ولا علاقة لها بالجغرافيا.

مديحة كامل والتانغو

تحتّم على كمال الرياحي أن يبحث عن بيت للإيجار، لكنّ تغيير الشقة لن ينجيه من وحدة أغرقته في بحر من الاستيهامات. تارة تتمكّن منه طلعة مديحة كامل وهي تقدّم له التانغو وسط بار للذكور. تخيّل أيضا أنّه امتلك كلبًا يعيش معه، ما يذكّرنا بأبيات للشاعر التونسيّ محمّد الصغيّر أولاد أحمد: "ليس لي مشكلة/ كلّ قطّ أراه وحيدا يهيم/ أقبّله وأقول له أنت ابني العظيم/ وأمضي إلى وحدتي المقبلة". وحدة جعلت الكاتب ينقاد للجنس والركض وتدخين السجائر المغشوشة والرقص مع بيرة التانغو كنوع من الاحتجاج على نفسه وعلى ذلك المكان السيئ للموت كما يقول، وفي ظلّ افتقاده لابنه الطفل هارون الذّي يعدّ السبب الرئيسيّ لهجرته إلى الجزائر.

واحد - صفر للقتيل

كيف نطلب من النازف أن يهتمّ بجرحنا؟!

يجد الكاتب نفسه إذًا مثل سلحفاة مقلوبة على ظهرها وسط طريق سيّارة. جزائر ترزح تحت التطرّف والاغتيالات؛ من التاريخ القريب لاغتيال الكتّاب مثل بختي بن عودة إلى اغتيال أكبر مسؤول عن الأمن في البلاد علي التونسي برصاصة في رأسه من طرف صديقه المقرّب؛ يسرد تفاصيل حواره مع المفكّر المصريّ نصر حامد أبو زيد الذّي سيغتال أيضا بعد ذلك بأيّام؛ الاحتفال بالأعراس بالمفرقعات ودراسة تشير إلى تراجع العمليّات الارهابيّة واستقرار حالة البلاد رغم ارتفاع معدّل الجريمة؛ وضع هجين ويراوح بين السرياليّة والكافكاويّة والهزل جعل كاتبنا يتّخذ من الكتابة ملاذًا وسلاحًا، بين هواجس بإعادة بناء روايته "الغوريلا" ورجفة تعتريه دومًا كلّما أمسك بدفتر يوميّاته. تدوينات-مصابيح تتوغّل به وبنا في أقصى زوايا روحه ظلمة، يصف فيها الجزائر النازفة التّي ورغم حالة الرعب أحبّها. لكنّ الجزائر مثل بلّور نافذته، يراها ولا تراه. وساوس جعلته يضع دومًا سكينًا في جيبه، لكن لم يسحبه أبدًا. لكن يبقى هارون جرعة الأكسجين والأمل التّي يأخذها كلّما زار تونس.

لعبة الغمّيضة بين الكاتب والقتيل!!

بعد أن يكتشف أنّ شقّته تسكنها روح قتيل، يخلص كمال الرياحي إلى استنتاج خطير: العزلة تجعلنا نتصرّف كالأطفال تمامًا. روح قتيل تأكل الحلوى، تنام وتصحو وتأكل السمك والتفاح وتمسك بقفل الباب وتتفرّج معه في أفلام شارلي شابلن التّي تذكّره بطفولته، وقد تأخذ شكل صرصور أو امرأة جميلة.

"واحد صفر للقتيل" كتاب يجعلك تؤثّث خيالك ويضخّ ترياقًا داخل روحك

ومنذ هذه اللّحظة تبدأ لعبة الغميضة، ويبقى القارئ طيلة أيّام صاحب رواية المشرط في مطاردة شعواء لإجابة عن السؤال التالي: هل تعيش روح القتيل داخل كمال أم معه؟ يلوذ الكاتب بمعطف غوغول وجوع كنوت هامسون وبمهرّج  دوستويفسكي، ويصير فارسًا من فرسان رواية "أكلة الموتى" لكرايتون، فالموت يدفع بالنبش في أعمال الموتى كما يقول. وسط هذه العوالم والمطاردات يتهيّأ للقارئ أنّه وسط رواية بوليسيّة محبوكة لبطل يحاول البحث عن خطط يتّبعها للفوز على فريق من الأرواح.

اقرأ/ي أيضًا: رواية "منزل بورقيبة".. نداء استغاثة

يقول رولان بارت إنّ القارئ الجيّد من يجد متعته في النصّ. "واحد صفر للقتيل" كتاب يجعلك تؤثّث خيالك ويضخّ ترياقًا داخل روحك وسط لعبة إلكترونيّة ممتعة وشيّقة لمطاردة الأرواح، حتّى تخلص في الأخير إلى أنّ حبّ الحياة بالنسبة للكاتب يكمن أساسًا في مواصلة الكتابة.

 

اقرأ/ي أيضًا:

بيت للرّواية في تونس.. سقف عالٍ للسّرد

"أخبار الرازي": قفا نبكِ على الثورة التونسية