27-يونيو-2018

تيسير خلف وروايته

خطوط أولى للكاتب والكتاب

تتخذ روايات الكاتب الفلسطينيّ - السوريّ تيسير خلف شكلًا أقرب إلى عملية تظهير الصّور، بعد كشفها أو اكتشافها، خلال عمليّات التنقيب التي تدفعها معرفتُهُ التاريخية ووعيُهُ النقديّ اللذان نراهما في أبحاثه. وبسبب التواشج بين البحث وإنتاجه الأدبي، يحلو لي النظر إلى أبحاثه على أنها استقصاء أو سعيٌ وراء الصور السالبة (النيغاتيف)، فيما سرده الروائي تحميضٌ لصورةٍ تعرّضت للطمس للكامل، أو حتى الجزئيّ، وبالتالي جرى اختصارها في صيغةِ أفكارٍ شائعة جعلت البشر الذين عاشوا تلك التجارب مقذوفين إلى غيابٍ جائر، يمحو أصواتهم وأنماط حياتهم.

تتخذ روايات الكاتب تيسير خلف شكلًا أقرب إلى عملية تظهير الصّور، بعد كشفها أو اكتشافها

في روايته الجديدة "عصافير داروين" (المؤسسة العربية للدراسات، 2018)، يذهب تيسير خلف إلى القرن التاسع عشر ليحكي لنا قصّة المشاركة العربية، تحت الراية العثمانية، في معرض شيكاغو الكولومبي العالميّ الذي سيفتتح في الأول من أيار/مايو 1893، بمناسبة مرور أربعمئة سنة على "اكتشاف" كريستوف كولومبس لقارة أمريكا، وسيمتد برنامجه ستة شهور، لكنّ تيسير خلف لا يكتفي بالحكاية وحسب، على ما فيها من غرابة وتشويق وإحباط، إنما يجعلها مسرحًا صاخبًا تجري في خلفيّته أحداثٌ ستؤسّس ملامح القرن العشرين: اكتمال الهيمنة الغربية على أساسٍ من شعور التفوّق المستمد من أفكار تشارلز داروين، ووصول المسألة الشرقية إلى فصولها الأخيرة، والهشاشة الداخلية التي تشلّ محاولات النجاح العربية.

اقرأ/ي أيضًا: تيسير خلف.. تدمر أكبر من مجرد آثار

في ظلّ هذه الخلفية الدراميّة التي لا تبشّر بخيرٍ، يأخذ تيسير خلف السرد إلى منطقة تجعل منه مداخلةً تاريخية وتأريخية معًا؛ تاريخية لكون الموضوع ماضيًّا، وتأريخية من حيث المساهمة في إعادة قراءة وكتابة هذا الماضي، وذلك بالاعتماد على حدث استثنائيّ ومجهول في آن، وهو المشاركة العربية في المعرض الذي لم يكن إلا احتفالية استعمارية تجعل من سلب أرض السكّان الأصليين وحياتهم مادةً لإعلان تأريخٍ جديد، يقدّم فيه المُستعمِر قراءته العنجهية لذاته التي يراها الأرقى والأرفع شأنًا، وتحويل الآخرين إلى شعوب همجية، لا تصلح إلاّ للفرجة أو الدراسة.

 

الدعوة الأمريكية

تبدأ الرواية بفصل يحمل عنوان "دعوة"، يجمع أمرين أساسيين سوف يكونان محور العملية السردية التي سيخوضها القارئ بعد قليل؛ الأول أنّ البروفيسور فريدريك وارد بوتنام يتأمّل مناقير العصافير الخمسة التي وصلته من سواحل الإكوادور، وهي المناقير ذاتها التي أوحت لداروين بنظرية النشوء والارتقاء؛ والثاني وصول دعوة الرئيس الأمريكي بنيامين هاريسون إلى السلطان عبد الحميد للمشاركة في المعرض.

في القصر سنرى السلطان عبد الحميد بصورة لم نعهدها، فلا يبدو طاغيةً شرقيًّا بمقدار ما يظهر حاكمًا مهمومًا في أن تكون للأمة الإسلامية مشاركة تليق بالحدث.

 

متون وهوامش

من المفيد الإشارة إلى أن الكاتب وضع كتابين يسيران في خطٍّ متوازٍ مع هذه الرواية، الأول "من دمشق إلى شيكاغو.. رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا 1893"، الذي يركّز فيه على مشاركة المسرحيّ السوريّ أبي خليل القباني في المعرض، ويقدّم اكتشافات رائدة في تاريخ المسرح السوري، وفي سيرة القباني بوجه خاص؛ والثاني "نشأة المسرح في بلاد الشام.. من هشاشة القانون إلى فتاوى التحريم (1847 - 1917)" وفيه حضور لراجي صيقلي، مؤسّس المسرح في فلسطين والشخصية المحورية في "عصافير داروين". الكتابان قيمة مضافة إلى الرواية، لأنّ الزمان والمكان هما ذاتهما، خصوصًا في كتاب الرحلة، ولأنّ المادة الوثائقية تضيء الكثير من عتمات السرد الروائي.

"من دمشق إلى شيكاغو.. رحلة أبي خليل القباني إلى أمريكا 1893" كتاب يقدّم اكتشافات رائدة في تاريخ المسرح السوري

وإذا عرفنا أن الكاتب صرّح أنه وضع هذين الكتابين من المواد التي عثر عليها خلال بحثه عن مادة روايته، فيمكن أن نعدّ الرواية متنًا والكتابين الآخرين تذييلًا، بلغة أدباء التراث.

اقرأ/ي أيضًا: مكتبة تيسير خلف

دائمًا ما تلقي أعمال الكتّاب الذي يحملون مشاريع ويعملون ضمن استراتيجيات أضواءً على بعضها البعض، الأمر الذي يسهّل فكّ شيفرات نصٍّ بنصّ بآخر، وفهم نصّ بجزءٍ من نص آخر، وبما أننا أمام أعمال انبثقت خلال الانهماك بعملٍ مركزيّ سوف تصبح النصوص، بالضرورة، مرايا متقابلة.

على أنّ تيسير خلف يفكّك تصورنا الكلاسيكي للمتن والهامش، من خلال جعل الهوامش متونًا قائمة ومستقلةً بذاتها.

 

التصوّر الأمريكي للمعرض

نرى البروفيسور بوتنام، مدير قسم الأنثروبولوجيا في المعرض والمشرف على قسم الترفيه، يعلن أفكاره العنصرية التي تكوّن الأساس الهندسيّ للمعرض، فخلال مؤتمر صحفي يشرح هندسةَ المكان على النحو الآتي: "سوف يكون لدينا شارع بطول ميل واحد في منطقة ميدواي بليزانس، يبدأ من أكواخ القش الأفريقية، حيث نرى الوحشية التي تجعلنا نصدق القصص التي قرأناها عن جيوش الأمازونات وأكلة لحوم البشر! ثم ننتقل إلى قرية البولونيزيين، التي تظهر عظمة تطور أبدانهم وطريقة إشعالهم النار بعودين خشبيين، وهي طريقة تعيدنا إلى العصور السحيقة، فمخيم الهنود الحمر وألوان أزيائهم الغريبة، فقرية جاوة الخشبية، ثم القرية اليابانية، فالتركية، فالمصرية، فالهندية، وبعد ذلك نصل إلى القرى الأوروبية، كالقرية الإيرلندية، والألمانية، والبانوراما السويسرية، وفيينا القديمة، والتي ستشكّل في مجملها المعبر الطبيعي إلى المدينة البيضاء، مقرّ معرضنا الكولومبي". (ص 17).

كما يقول أيضًا: "إن مسار تطور الإنسانية لا يسير بخط مستقيم، ولكننا اضطررنا في شارع الترفيه أن نجعله مستقيمًا لدواعٍ هندسية بحتة! ولذلك؛ فإن السلسلة التي سترونها، ستكون أشبه بدرس عملي في علم الأنثروبولوجيا، يساعدكم على فهم فكرة تطور الإنسان من البدائية الوحشية إلى الحضارة، ولكن بشكل مبسّط. ومن أجل هذا وضعنا معجزتنا الميكانيكية "عجلة الهواء الدوّارة" في منتصف الطريق، إذ سيتاح للأمريكيين ركوبها والنظر من الأعلى؛ كأنهم يطلون من كوكب آخر على هذا العالم الوحشي الجميل القابع أسفلهم، والمكتظ بأنواع كثيرة من البشر السعداء!" (ص 18).

لا حاجة إلى التعليق فالبروفيسور كريمٌ بما فيه الكفاية ليقول نواياه كاملةً واضحةً.

في خلفيات التحضير للمعرض، يعيّن سول بلوم مديرًا للامتيازات في "ميداوي بليزانس"، فيعيد ترتيب مساحات الأجنحة ومواقعها بناء على تقييم ماليّ، فالمشارك الذي يدفع أكثر يأخذ المساحة والموقع الأفضل، وبهذا تتصادم سلسلة بلوم الرأسمالية الربحية مع سلسلة بوتنام التطورية العنصرية، لكن السلستين تلتقيان في المنتصف، حيث يقع الشرق الأوسط، بعد الأفارقة والهنود الحمر والآسيويين، وقبل الهنود والأوروبيين.

ورغم نجاح خطة بلوم ووضعه الألمان والسويسريين في المنتصف، بناء على رغبتهم في الحصول على موقع جذّاب، إلا أن بوتنام بحكم إشرافه على المشروع يفرض شرطًا أنثروبولوجيًّا يعبّر عن عمق المركزية الغربية، وهو ألا تخرج الأنشطة جميعها عن العادات والطقوس، الأمر الذي قيّد أبا خليل القباني، كما نقرأ في "من دمشق إلى شيكاغو"، وتحكّم بطبيعة العروض المسرحية التي قدّمها.

 

أحلام دراميّة لشاب من عكا

في الرواية، وصل اقتراح راجي صيقلي إلى قصر يلدز عن طريق صديقه القديم عزت باشا العابد، الشخصية المؤثرة في الفترة الحميدية، والذي سيصبح بعد قليل الكاتب الثاني الخاصّ بالسلطان عبد الحميد. الاقتراح ببساطة هو ميدان يقدّم استعراضات للخيول العربية. فكرة هذا الميدان، أو المرمح بلغة النص، مستوحاةٌ من عروض "الغرب الأمريكي المتوحش" التي كان يقدمها أسطورة رعاة البقر العقيد بوفالو بل كودي، وذلك بعد أن قرأ راجي عنه تقريرًا في صحيفة فرنسية.

رواية "عصافير داروين" إطلالة على عالم القرن التاسع عشر في المشرق العربي بعائلاته وقبائله، بمدنه وريفه

راجي ابن لتاجر عكاوي، لم يجد نفسه في مهنة والده، لكونه مهووسًا بالمسرح توّاقًا إلى الصخب. هو "حيوان حفلات" حرفيًّا، كما يختصر الأمر التعبيرُ الإنجليزيّ المعروف. كان مثقفًا يتقن عدة لغات، تنقّل بين وظائف عديدة وغاض مغامرات مالية كبيرة، لكنّ الحدث الأبرز الذي يرتبط به هو أنه رائد المسرح في فلسطين، كما يخبر بذلك كتاب "نشأة المسرح في بلاد الشام"، حيث أسّس الجمعية الخيرية الأرثوذكسية وأشرف على برنامجها الثقافي وأدار الفرقة المسرحية فيها، وفي عام 1881 قدّمت تلك الفرقة مسرحيتها الأولى بعنوان "تليماك"، من إخراج راجي نفسه وبطولة شقيقه قسطندي، وحضرها متصرّف قضاء عكا.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين (1/2)

بعد حصوله على امتياز المرمح، يجول راجي البلاد بحثًا عن فرسان وخيول لأجل مشروعه، وخلال تجوّاله نلقي نظرة بانورامية على بلاد الشام العثمانية، ونتعرّف على التركيبة السكّانية من عائلات كبرى ومن قبائل بدوية، كما يكون بحثه عن الخيول سببًا لنطالع عالم أنساب الخيل، ويكون تتويج البحث بلقائه حسن الرمّاح في حوران، وهو شخص باع الدنيا لأجل هوسه بالخيل، وحاليًا يعيش مع فرسه نجمه وحصانه الدبران، اللذين يصبحان شخصيتين روائيتين وتاريخيتين في آن.

 

ثعابين الأعيان

بعد قبول مقترح راجي وذيوعه في البلاد، التفّتْ حوله مجموعة ممن يتربّصون الدوائر، ونتيجة العروض التي قدمّوها له أصبح المشروع عملاقًا، خصوصًا بعد اجتماعه بخليل سركيس، صاحب جريدة "لسان الحال"، والطبيب والكاتب بشارة زلزل، والمصرفيّ نجيب سرسق، وغيرهم من أعيان ووجهاء وشخصيات تلك المرحلة مثل: زينب فواز وهنا كوراني وسليمان البستاني وعزت باشا العابد... إلخ.

لأنّ لهؤلاء الأعلام مكانةً تاريخية وصورة قارّة، سنرى أنه كلما مرّ السرد على أحد منهم سيمدنا بمعلومات هامة تكشف جوانب من شخصياتهم، فحيث إننا نعرف معظمهم بوصفهم نهضويين سنراهم في صورٍ بائسة، كوراني وسركيس مثلًا، أمّا نجيب سرسق الذي سيرد اسمه بكثرة في قوائم العار لكونه باع الأراضي التي يمتلكها في فلسطين للحركة الصهيونية لاحقًا، سنراه مرابيًّا عابدًا للمال، وواشيًا منذ طفولته.

في بيروت وفي شيكاغو، تأخذ الضغائن بين أعضاء الإدارة شكل حرب معلنة، حيث ينقسمون إلى معسكرين، واحد يقوده سركيس، والآخر يقوده سرسق. يحاول البعض إعطاء تلك الصراعات والمؤامرات الناتجة عنها صبغةً طائفية، بوصفها صراعًا بين موارنة وأرثوذكس، بيد أن راجي يعي أنّ حقيقة الصراع تكمن في رغبة كلّ من الفريقين في تحقيق ثروة سريعة، دون مبالاة بوضع الخيول والخيّال والمستخدمين، هؤلاء الذين يحاولون في البداية القيام بعدة تحركّات مطلبية، لكنّ تأزم الصراع، ومن ثم خروجه من بين أيدي العرب وإمساك الرأسماليين الأمريكيين بزمامه، سيحوّل الجميع إلى أشبه بالعبيد يحقّقون على حسابهم أرباحًا ونجاحات.

 

نسوية ضد النسوية

في السفينة سينثيانا، التي ستقلّ أعضاء المرمح وحيواناتهم تبدأ تباشير المصير الذي ينتظر الخيالة والحيوانات بوضوح، يظهر ذلك في طريقة تعامل بشارة زلزل معهم.

حقّق أبو خليل القباني نجاحًا كبيرًا في أمريكا، وواكبت الصحافة تلك العروض بمقالات أشادت بإبهارها البصري

من الشخصيات اللافتة للانتباه على متن السفينة الكاتبة هنا كوراني. كانت حصلت على دعوة لحضور المؤتمر النسائي العالمي الأول، المقام على هامش معرض شيكاغو، لتكون ممثلة نساء سوريا. يقول الراوي: "قبل شهور خاضت كوراني معركة صحافية مع كاتبة تدعى زينب فواز حول عمل المرأة، يومها كتبت هنا كوراني في جريدة "لسان الحال" أن المساواة لا تعني أن تعمل المرأة عمل الرجل، فالنساء مفطورات على الواجبات المنزلية، ولا يجوز لهنّ أن يتخطينها، لأنها سنّة قد سنّها الله لهنّ، ولو تجاوزنها لتغير نظام الكون، وتبدلت نواميس الطبيعة! ردت عليها زينب فواز في جريدة "النيل" بأن الرجل والمرأة متساويان بالمنزلة العقلية، وعضوان في جسم الهيئة الاجتماعية، لا غنى لأحدهما عن الآخر، فما المانع إذًا من اشتراك المرأة في أعمال الرجال، وتعاطيها الأشغال في الدوائر السياسية وغيرها، متى كانت جديرة تؤدي ما ندبت إليه" (ص 105)، ويقول أيضًا: "المفارقة الكبرى كانت في سفر السيدة كوراني للمشاركة في المؤتمر النسائي في شيكاغو، وامتناع السيدة فواز لأسباب تتعلق بأمر الشرع، كما قالت للسيدة بالمر، رئيسة المؤتمر، في رسالة الاعتذار التي أرسلتها!" (ص 106).

اقرأ/ي أيضًا: ركن الورّاقين: موسوعة رحلات العرب والمسلمين إلى فلسطين (2- 2)

لا بدّ من التنبيه إلى أنّ أفكار السيدة كوراني نشرت في "لسان الحال"، صحيفة خليل سركيس.

 

المسرحيان معًا

حقّق أبو خليل القباني نجاحًا كبيرًا بعروضه في المسرح الواقع في القرية التركية، وواكبت الصحافة الأمريكية تلك العروض بمقالات أشادت بإبهارها البصري وأداء الممثلين المحترف، وكذلك بالموسيقى الدرامية.

زار راجي الشيخ القباني واستفسر عن سرّ نجاح عروضه، فأخبره بأنه لم يلتقط بالضبط ما الذي يحبّه الجمهور الأمريكيّ، حيث إنهم دومًا ما يخالفون توقعاته.

في اليوم التالي، زار القباني المرمح وشاهد تدريبات العروض، خصوصًا عرض "داحس والغبراء"، فقدّم مجموعة من الاقتراحات الحاسمة عبر وضع لمسات كوميدية.

 

معايير دارونية للهيمنة الثقافية

يطرح البروفيسور بوتنام طوال الوقت أفكارًا تستند إلى مقولات تشارلز داروين، خصوصًا الانتخاب الطبيعي والبقاء للأصلح، وهي مقولات تتصل بالطريقة التي تحوّلت فيها التطورية إلى أساس فكريّ استعماريّ في الغرب، ولاحقًا تبنتها النازية والفاشية اللتان راحتا تعملان ضمن أسّس تطورية تؤمن أن هناك جنسًا أعلى، وتعتبر ذوي الاحتياجات الخاصة عبئًا على الحياة يجب التخلّص منهم.

القارة الأوروبية التي توصلت إلى سر صناعة الجبن الأصفر الذي يصمد طويلًا تستحقّ أن تكون على قمة الهرم البشريّ!

بوتنام الذي رسم المعرض على أساس تفوق السلالات المزعوم، كان يضرب الجبنة مثلًا للتطوّر الاجتماعي في العالم الغربيّ، فالقارة الأوروبية التي توصلت إلى سر صناعة الجبن الأصفر الذي يصمد طويلًا تستحقّ، برأيه واعتقاده، أن تكون على قمة الهرم البشريّ.

اقرأ/ي أيضًا: هل يمكن أن تتحول رحلة أبو خليل القباني إلى أمريكا إلى فيلم سينمائي؟

هناك مثل بوتناميّ آخر يرى أن القمل الأوروبي تطوّر مع الإنسان الأوروبي واكتسب منه قوته، وحين وصل إلى رؤوس سكان المستعمرات البريطانية تسبّب بآلام وأمراض كثيرة لهم، ولم يحتملوه، بينما كان قمل تلك المستعمرات يموت بعد يومين أو ثلاثة على رؤوس الأوروبيين، لأنه ضعيف، وغير متطور.

 

لقاءات زائفة بين الشرق والغرب

يبدو المعرض الكولومبي أوّل لقاء ثقافيّ مباشر بين الشرق والغرب، لكنه لقاء غير متكافئ نتيجة النظرة المُسبقة التي يحملها الغرب، ونتيجة تخلف وضعف الشرق، ما يقود إلى فشل اللقاء وتحوّله إلى مقياس لكل اللقاءات التي ستحدث لاحقًا بأشكال مختلفة، بعضها قائم على الخديعة كما في الثورة العربية ضد العثمانيين، التي أسفرت عن وعد بلفور واتفاقية سايكس – بيكو، أو في التنميط في اللقاءات التي حدثت على الصعيد الاستشراقي.

لا تعيد الرواية تلك المقولة المستهلكة عن أنّ التاريخ يعيد نفسه، بل تقول جازمةً إنّ التاريخ نفسه لا يزال مستمرًّا، فلا يزال محكومًا بالعلاقات ذاتها؛ استعلاء وغرور غربي وضعف ودونية شرقية. بهذا المعنى لم يتحقّق اللقاء ثقافيًا من جهة أنه حوار تجارب، كما أن اللقاء لن يصبح لقاءً ما لم يقم على أساس من التعادل والتكافئ والتساوي، بمعزل عن علاقات القوّة ونزعة الاستغلال في جانب، والضعف والقابلية للارتهان والتفتّت في الجانب الآخر.

 

مصائر شخوص الرواية وخيولها

يفشل مشروع المرمح نتيجة سعار الجشع الأمريكي، والنظرة العنصرية والتعالي المتغطرس، وبسبب خلافات أصحاب المرمح بين بعضهم البعض. تؤول الرواية إلى مصائر حزينة، تطال الشخصيات والحيوانات إذ ينتهي أهل المرمح، بعد وضع اليد الأمريكية عليه وإفلاسه، مشردين في الشوارع، وتتم مصادرة الحيوانات.

تنتهي الرواية مع الإفلاس والمصادرة، وفي ركض حسن الرمّاح وراء الشاحنات التي حملت الخيول، وقعوده على باب المحكمة بانتظار أن يحصل على فرسه نجمة، لكنه يموت متجمّدًا مع مجموعة من المتشردين الأمريكان في ليلة عاصفة.

ولأنّ هناك قصصًا لم تُحكَ بعد، ومآلات لم تتوضّح، يلجأ صاحب "مذبحة الفلاسفة" إلى خيار سينمائيّ، حيث يقدّم الحلول والنهايات في "هوامش"، آخرَ الرواية، تبدو مثل نهاية فيلم لا حلّ فيه إلا بجملٍ سريعة في النهاية تقول ما حدث للشخصيات بعد التجربة.

تنتهي رواية "عصافير داروين" بهوامش تحسم كل النهايات، كما يحدث في الأفلام

تخبرنا الهوامش: "سُجلت الفرس نجمة رقم واحد، والفحل عبيران رقم اثنين في السجل الرسمي الأمريكي لسلالات الخيول العربية، بعد معركة قضائية طويلة كان شاهد الإثبات فيها المهندس آغوب أصدقيان الذي اعتمدت محكمة شيكاغو سجله، وعدَّته وثيقة رسمية لإثبات نسب سبعة من أصل ثمانية وعشرين رأسًا من خيول المرمح الحميدي".

اقرأ/ي أيضًا: الكوميديا الإلهيّة.. تشويقة للمبتدئين

بعد ثلاث سنوات، طافت فيها أمريكا تلقي المحاضرات عن المرأة الشرقية، توصلت هَنا كوراني إلى القناعة التي عارضت فيها زينب فواز حين تحدّثت عن أهلية المرأة للمشاركة السياسية الكاملة، كما عبّرت عن خيبة أملها من المجتمع الأمريكي الذي نظرت إليه نظرة مثالية.

نشر خليل سركيس أخبار زيارته إلى أوروبا وأميركا في 1893 ضمن كتاب أسماه "رحلة صاحب اللسان"، لكنه حذف أي وقائع أو أسماء تتعلق بالمرمح الحميدي.

عاد راجي صيقلي إلى الأستانة يجرّب حظه في البورصة منتظرًا صفقة العمر التي لم تأت، وبعد سنوات اقترح عليه أحد أشقائه أن يسعى للحصول على امتياز استثمار ينابيع الحمّة في جنوب الجولان سياحيًّا، عن طريق صديقه عزت باشا، لكنّ محاولة اغتيال السلطان وما تلاها من احتجابه واكتئابه أحبطت المشروع، فسافر إلى القاهرة، وأسّس مجلة هزلية بعنوان "المؤنس" لم تعمّر طويلًا بسبب قلة الاشتراكات. وعندما انقلب الاتحاديون على السلطان، عاد إلى عكا عام 1908 ورشّح نفسه في انتخابات "مجلس المبعوثان" عن المدينة وقضائها، لكنه خسر بسبب ميوله "الحميدية الارتجاعية" أمام الشيخ أسعد الشقيريّ، العضو النشيط في جمعية الاتحاد والترقي، ولم يطل به الوقت بعد ذلك، إذ سرعان ما اعترته كآبة مفاجئة أدت إلى تراجع صحته ووفاته في 1910.

 

ما كان تاريخيًّا فهو روائي

للرواية التاريخية عربيًّا سمة مدرسيّة في العموم، نظرًا لأنّ تجاربَ كثيرةً جعلت من الأدب مطيةً لتقديم مادة تاريخية. تيسر خلف لديه رأيّ آخر، فحيث يشتغل على حقبة مجهولة أو موضوع غير معروف ومن ثم يقدّمه في نص يحيط به إحاطة كاملة، فإنه يذلّل التاريخ بالبحث الواسع لصالح المادة الروائية، على أن ذلك يتعلّق بطرق المعالجة وزاويا النظر والقراءة الخاصة والخلاصات الفكرية.

يرسم تيسير خلف علاقات السيطرة التي رسمت ملامح العالم المعاصر منذ صعودها كنزعة عنصرية لدى الرجل الأبيض

من حيث الشكل، يقوم النص على سلسلة من المقاطع، كلّ منها يحمل عنوانًا هو الفكرة الرئيسية للحدث الذي يقوم عليه، وينتهي بمقطع متوسّط الحجم بعنوان "هوامش" يوضح مصائر الشخصيات بعد التجربة، كما أوضحنا سالفًا.

اقرأ/ي أيضًا: ركن الوراقين 2: الجغرافيون الأوائل

يتخذ النص شكل الرحلة التي تسير في مسار واضح، ملاحقًا تفاصيلها وأشخاصها من مكان إلى آخر. ومن المعلوم أنّ الرحلة في الرواية تساعد على تماسك النص لأنها تستند على خطّ درامي واضح، قليل المفاجآت، لكنّ الرحلة هنا، بحدّ ذاتها، تكتسب بعدًا تشويقيًّا يأتي من أنّ غالبية الرحلات الحديثة كانت من الغرب إلى الشرق، إلينا لا منّا، وكنا فيها موضع استكشاف لا أصحاب اكتشاف، فيما تأتي هذه الرحلة الروائية لكي تستكشف الغرب وتستكشفنا معه، ليس في المكان والمجتمع وحسب، وإنما أيضًا في علاقات السيطرة التي لم تتغيّر منذ صعودها كنزعة عنصرية لدى الرجل الأبيض.

 

اقرأ/ي أيضًا:

مقدمة في تطوّر الرواية الأوروبية الحديثة

هزيمتنا في الرواية المصرية