14-سبتمبر-2022
مستر نون نجوى بركات

رواية مستر نون

لن يشك قارئ لرواية نجوى بركات "مستر نون" بمهارتها في التأليف والسرد وبناء الحبكة. روائية من طراز رفيع، ولأنها كذلك، ربما، تبتعد كتابتها الزاخرة بأحداثها عن أحداثها نفسها. في هذه الرواية، نرى العالم بعين الروائية حينًا وشخص مستر نون الذي يجدر به أن يكون روائيًا أيضًا، وهو كذلك، أحيانًا أخرى. والأحداث التي تزخر بها الرواية تخرج من بطن رواية أخرى تشير إليها صفحات مستر نون بوصفها رواية منشورة كتبها مستر نون الروائي، في بطن الرواية وكتبتها نجوى بركات في بطن الرب الأهلية وتبعاتها. والأشخاص الذين يتوالى حضورهم على امتداد الصفحات هم أيضًا نتاج روايات، بمعنى أن خادمة الفندق تتحول ممرضة في مصح، بتواطؤ من القيمين على المصح، وخيال الراوي الذي يتناوب مع الروائية على السرد. والجار الذي يواصل الصراخ على زوجته في الغرفة المجاورة، يعيش وحيدًا في الأصل، وسرعان ما يتورط في مساعدة الجارة الأخرى على شنق نفسها. تلك الجارة التي تستمر طوال عشرات الصفحات في الرواية وهي تحاول إغواء مستر نون ودعوته إلى العشاء.

في رواية "مستر نون"، نرى العالم بعين الروائية حينًا وشخص مستر نون الذي يجدر به أن يكون روائيًا أيضًا

 

أما الشخصيات الغائبة عن حاضر الرواية ومواقيتها، فشأنها أعقد قليلًا. لا نتبين في السرد ما الذي حدث حقًا وما الذي لم يحدث. الحرب؟ لقد حدثت حقًا، لكنها حدث كبير. هل كانت حصة مستر نون من أهوالها على النحو الذي سرده في هذه الرواية؟ أم أن كل هذه الأحداث هي جزء مما اختبرته الروائية وسمعت عنه وعرفته؟ العلاقة مع الأم المتسلطة فيها أيضًا الكثير مما يمكننا الشك فيه. هي حية وتعيش في مصح، ويحدث أن يوافيها الموت في غضون السرد. لكن مستر نون لا يذكرها كما لو أنها ماتت منذ قرون. الأخ الأكبر الذي نال منها كل الحنان والرعاية ولم يترك منه شيئًا لمستر نون لا يبدو قادرًا على الدفاع عن نفسه أمام وصف نون له. هو من ينفق على إقامة أخيه المتوحد في الفندق -المصحة، لكن مستر نون يرى أنه ينفق من إرثهما المشترك. لقمان الذي كان قائدًا عسكريًا في إحدى الميليشيات اللبنانية خلال الحرب الأهلية، بحسب ما خلقته رواية سابقة لنجوى بركات، يتكشف عن رقة تضارع رقة نون وهشاشته. ثم لن نلبث أن نكتشف أنه بطل رواية كتبها مستر نون ونشرها. ليكون في هذه الحال بطل روايتين، رواية نجوى بركات السابقة ورواية مستر نون. الراوي في الرواية الذي هو المستر نون يتنقل بين ضمير الغائب والمتكلم. كما لو أنه، ككائن روائي، يخرج من ثنايا الرواية ويفرض على نجوى بركات نفسها أن تتبنى أقواله وتسرد ذكرياته. ثم وحين يقتل لقمان في غرفته نكتشف أن القاتل وهو مستر نون قد قتل نفسه، وأنه حين قتل نفسه تحول إلى السيدة نون، ولم يعد هذا الرجل المنطوي والمتوحد الذي نجح في إقناعنا بكل ما قصه ورواه بوصفه من مخلفات حرب أكلت أهلها، الأحياء منهم والأموات. لكنه مقتول خاص. لقد قتل وهو يحسب أنه يقتل لقمان. كان من حظ لقمان أن يقتل كقاتل وأن يقتل كضحية. ولم يكن أمام مستر نون أي خيار لينجح في قتل هذا الرجل الخارج من روايتين إلا بقتل نفسه، والأرجح أن تحوله إلى السيدة نون كجثة، هو قتل للروائية نفسها أيضًا. كما لو أنها تقول: هذه الحرب لعنة لن ننجو منها إلا بانتحارنا. 

كقارئ ستكتشف أن سلاسة القص والسرد تخفي وراءها حملًا كبيرًا. كل ما جرى في هذه الحرب بوسعه أن يكون أضغاث أحلام. كل هذا البكاء والقهر والرغبة بالانتحار، سوريًا ولبنانيًا، قد يتراءى لك حقيقيًا في لحظة ما لكنك سرعان ما تتبين، أن ما يجري أمامك ليس أكثر من كلمات. رواية تجور على قارئها، ذلك أنها تمنعه من الاسترسال في تبني قضايا أبطال الرواية وشخوصها. بل تكاد تجعل قارئها خجلًا من نفسه، وهو يلمح لحظة تعاطف أبداها مع أحد شخوص الرواية ليكتشف في نهاية الأمر أن كل ما قيل لم يكن له أساس أصلًا. الرجل الذي هو مستر نون، الذي تنقل في أحياء بيروت المكتظة، وعرّض نفسه للضرب عشرات المرات، وخطف إحدى بائعات الهوى من قوادها، ولم يلبث أن شاهد قتلها على يد هذا القواد، يمكنه ببضعة أسطر أن يتحول امرأة، ومن حقك كقارئ أن تشك إذا كان قد فعل هذا كله. أو إن كان ثمة ما شاركته باختباره من فصول الحرب شخصيًا. ثم وحيث أنه قد يكون رجلًا أو امرأة، فما الذي يبقى من روايته عن أمه التي تكرهه وتحب أخيه؟ وهل حقا يكون أخوه أخاه، أم أنه أيضًا محض مخلوق من كلمات؟

حسنًا، ما الذي نريد كقراء الحصول عليه من القراءة؟ هذه الرواية هي كائن مؤلف من كلام. كل رواية هي كائن من كلام. ولأنها كذلك، فبوسع الكلام أن يتشكل صعودًا وهبوطًا، يسارًا ويمينًا على النحو الذي يجعل كل صلة له بالأصل الذي نتوخاه معدومة. من قال إننا يجب أن نقص على الناس معاناتنا في حرب أهلية؟ من قال إن معاناة مستر نون أوسع وأعمق وأشف من معاناة نجوى بركات نفسها؟ أو حتى من معاناتي أنا قارئ هذه الرواية؟ ثم من سمح لنا أن نحزن ونتفاعل مع شخصيات روائية كما لو أننا حقا نجونا من هذه الحرب؟ والذين خسروا ما خسروه فيها، ومستر نون أو السيدة نون عينة منهم، قد خسروا ما يمكن اعتباره خسارة تفوق خساراتنا.

لقد حدثت الحرب حقًا، والألم الذي صاحبها كان جنونًا خالصًا، وكلنا متألمون. ما تقرأه أيها القارئ ليس أكثر من مقدمات بسيطة في محاولة لدفعك إلى الغوص في جروحك التي سببتها هذه الحرب

نجوى بركات تلاعبنا وتطيح بنا. كما لو أنها تقول لنا: هذه رواية خيالية لم يحدث أي من أحداثها. القراءة نفسها، بعد حرب كالتي حدثت في لبنان وما زالت مفاعيلها مستمرة، هي دليل ساطع على أن القارئ مرفه إلى الحد الذي سيجيد معه التعاطف والتضامن، كما لو أنه حقًا قد نجا، وفي وسعه أن يستمر حيًا بعد كل هذا الموت. وعليه، ومنعًا لتمادينا في غي ظنوننا بالنجاة، تحيلنا نجوى بركات إلى المقالة التالية: لقد حدثت الحرب حقًا، والألم الذي صاحبها كان جنونًا خالصًا، وكلنا متألمون. ما تقرأه أيها القارئ ليس أكثر من مقدمات بسيطة في محاولة لدفعك إلى الغوص في جروحك التي سببتها هذه الحرب، وعليك أن تغرف منها ما يجدر به أن يعينك على العيش متذكرًا لا ناجيًا.